أسوار عالية وترسانات مسلحة أمام الأبواب الرئيسية، أسماء معتقلين على مدخل كل مدرج للدرس، قنابل غاز تصل إلى داخل قبة الجامعة التاريخية بالقاهرة، شركات أمن دولية تفرض سياجاً حول الأسوار وتفتش بعيونها وأياديها داخل حقائب الطلبة ونفوسهم. وهو مشهد إذا ما تم اتخاذ ملامحه كمعطيات ومحاولة تفسيرها في ضوء تاريخ الحركة السياسية بالجامعة المصرية، فالمتوقع أن يستولد حالة من التمرد الجديدة. فدائماً ما كانت الأحداث الصعبة والظروف الشديدة القسوة بوتقة لصهر الأفكار وتشكيل موجة سياسية جديدة.
2011 وما تلاه
لكن الأمر على الأرض الآن لا يظهر دلالات كافية على مثل هذا الاتجاه. فقد خرج من أسوار الجامعة رافد رئيسي للدعوة ليوم الغضب في 25 يناير 2011. قبل غيرها من الحركات الاجتماعية، انطلقت محاولات التغيير داخل الجامعة، فكان اعتصام طلبة كلية إعلام جامعة القاهرة من اجل انتخاب القيادات الجامعية لا تعيينها، ورفض تنصيب عميد للكلية ينتمي لحزب النظام المخلوع، وهي الحالة التي سريعا ما تحولت الى مطلب عام داخل كل الجامعات المصرية. الحركة الشبابية الجامعية حاولت تحديد ملامحها، بين الانتماء لحركات سياسية مختلفة وجدت في الجامعة وعملت فيها طوال السنوات السابقة، وبين واقع جديد يفرضه وهج الثورة المختبرة، من التوحد والتلاحم دون تصنيفات، على أهداف عامة في اتجاه مجتمع جديد. لكن الأمور لا تجري دائماً بعفوية الشباب وإقدامهم، فالتناحر السياسي خارج أسوار الجامعة، وتراشق الاتهامات، ومحاولة الالتفاف للوصول الى رأس السلطة.. أطل برأسه بقوة ووصل لذروته بإراقة الدم في شارع محمد محمود أثناء المواجهات مع قوات الشرطة المصرية. عندها أصبح الهتاف الرئيسي "هم اتنين مالهومش أمان، العسكر والإخوان".
وبانقضاء أيام الدم والنار الصعبة، عاد الشباب الجامعي، الذي كان الوقود الرئيسي لهذه المعركة، الى داخل الأسوار. ولكن شرخا ما بدأ يتعمق ويتسع بحيث لم يعد من الممكن تجاهله والسير في الاتجاه التجميعي الحالم نفسه. وحلت روح التصنيف والتخوين وتبادل الاتهامات، تغذيها جميعاً الرغبة في القصاص بل والانتقام.
تلك كانت مرحلة جديدة بدأت، واستمرت قرابة العام ونصف العام، تراجعت فيها مطالب حملت عنوان "عايز حقيقي التعليم المجاني" و "القيادة بالانتخاب لا بالتعيين" و "تحرير سعر الكتاب الجامعي"، لتحل محلها شعارات ونداءات أخرى بدأت بحرب التعديلات الدستورية في وقت مبكر، وكان الانقسام بين الداعين لـ "لا" والداعين لـ "نعم" في عداء ونفور كاملين، وتشكلت مجموعات "ثوار أحرار" و "أسود محمد محمود" و "يسقط كل من خان: عسكر، فلول، إخوان"، وهي الشعارات التي كان جنودها الرئيسيون من طلاب التيارات السياسية اليسارية كشباب "الاشتراكيين الثوريين" و "حركة 6 إبريل" وايضاً من المستقلين، بينما اجتهد شباب التيار الإسلامي في تشكيل القوائم الانتخابية الطلابية للفوز بأغلبية عضوية الاتحاد الرسمي للطلاب وهو ما تحقق لهم في العامين 2011 و2012.
2013.. عام التناقضات الكبرى
بدأ العام الدراسي ذاك وقد مرت شهور قليلة على حكم محمد مرسي، اول رئيس منتخب عقب اندلاع الثورة. العام الجامعي انطلق من فوق صفيح ساخن، فسريعاً ما انتقلت اشتباكات ميدان التحرير بجمعة "100 يوم من حكم مرسي" الى مناوشات بين الطلبة من الفريقين. وتوسع الشقاق الى ما لا رجعة عنه مع إصدار الإعلان الدستوري وما تلاه من أحداث عنف وقتل متبادل أمام قصر الاتحادية، فتحولت الجامعة إلى ساحة مواجهة، لم تشهد الكثير من العنف المادي، لكنها كانت ممتلئة بالاحتقان والتخوين والتنافر.
وفي الانتخابات الطلابية لذلك العام، استطاع طلاب القوى الثورية المدنية تحقيق نجاح واسع وعاد التنافس من جديد ـــ حتى وإن كان جزء منه للاستهلاك الانتخابي ـــ حول القضايا الجامعية وحق التعليم والمجانية وغيرها. لكن الحركة السياسية داخل الجامعة لم يكن من الممكن ان تبقى بعيدة عن الدعوات السياسية، فكانت "تمرد" وجمع توقيعات شعبية من اجل انتخابات رئاسية مبكرة والدعوة لتظاهرات "30 يونيو".
انقسام ونفور وتحدٍّ تغذيها أحاسيس متبادلة من التخوين. والدم، كلما جرت بحوره يحيل الصورة الى كثافة شديدة وقاتمة. أسوار تضم فريقين يحمِّل كل منهما الآخر جريرة دمه المراق. وهكذا وصلت الجامعة الى ذروة التغير الشديد في منحنى الحركة السياسية داخلها بعد الثورة. ولعلَّها أكثر المراحل سيولة وميوعة أيضاً، النفور الداخلي بين المجموعات المختلفة أيديولوجيا الى حد التناحر، بينما هناك محيط خارجي يشملهم جميعا، يرفضونه ويرفضهم. لكن السمات الشبابية، رغم تميزها بالتطرف في التعبير عن اتجاهها، هي أيضاً سريعة التغير والانتقال بسلاسة وخفة، وقد ساعدها على ذلك اتجاه النظام الى القتل والاعتقال والتنكيل بمعارضيه من كل التيارات.
واليوم..
أنه المشهد الحالي الذي لم تلتئم جروحه بعد ولكن هناك تغيرا باتجاه الاتفاق على وجهة واحدة وإن لم يكن التحرك يظهر تحت مظلة مشتركة. الهدف هو المطالبة بـ "الإفراج عن الطلبة المعتقلين" و "إزالة الترسانات الأمنية الخاصة من امام أسوار الجامعة" و "محاسبة قتلة الطلاب".
"ائتلاف طلاب مصر" هو محاولة دعت لها مجموعة من الطلاب المستقلين الثوريين لدعم كل المطالب دون تصنيفات سياسية او شعارات موجهة. ائتلاف لم يحقق نجاحات واسعة على الأرض حتى الآن، خاصة مع استمرار طلاب جماعة الإخوان المسلمين في تنظيم التظاهرات ذات الشعارات السياسية التي تصل لعودة "محمد مرسي" للحكم، والتي لا تخلو في بعض الأحيان من العنف والتخريب، و لكنه بدأ يتشكل في تركيبة تختلف عما سبقها.
"ائتلافات طلابية جديدة" هي خطوة ما في اتجاه إيجاد ملامح لموجة جديدة للحركة الطلابية بالجامعات المصرية التي دائماً ما شملت انتماءات متنوعة، لكنها كانت نادرا ما تتحول للتناحر في ما بينها. ولعل المشهد التاريخي الأكثر اقتراباً من اللحظة الحالية هو عام 1934 وتكوين مجموعات أقرب للتنظيم هي "القمصان الزرق" من طلاب حركة مصر الفتاة، و "القمصان الخضر" للطلاب الوفدين.. وقد اشتبكا، لكن سرعان ما تغير المشهد مع تزايد المخاطر السياسية التي تواجهها مصر في ظل الاحتلال الانجليزي، فتشكلت على مهل "جبهة طلاب وعمال من أجل مصر" وكانت تظاهرات 1935 الحاشدة ضد معاهدة 1936، وفتح كوبري عباس ليسقط الطلبة في النيل.. (وتم تسجيل الواقعة بعد سنوات كـ "يوم عالمي للطالب")، ولكنه شاهد على أسباب ازدهار أو اعتلال الحركة الطلابية المصرية، حيث دائما ما تكون مؤشرا لصحوة أو لبداية مرحلة سياسية جديدة عامة.
1935 ـــ 2015.. أي المشهدين اصعب؟ وإلى أي مدى يمكن ان يتقارب "ائتلاف طلاب مصر" أو غيره من المسميات والكيانات التي قد تظهر، لتحقيق التناغم بين الفصائل داخل الأسوار وبعث رسالة إلى خارجها تحمل رؤية جديدة نحو المستقبل.