"ذات"، قصة حياة بنت.. وبلد

تتشابه حياة «ذات» مع حياة غالبية نساء مصر في النصف الثاني من القرن الماضي. وقد تحوّلت أخيراً رواية صنع الله ابراهيم الى عمل درامي: «حكاية بنت اسمها ذات»، يُنظر اليه على أنه أفضل ما أُنتج في هذه الأيام، ولعل مرد ذلك أنه يحمل ما يطابق اللحظة وشعور كل الناس: القلق والشك والبحث، ومعها وبالرغم منها، الأمل. هل هي حكاية بنت أم حكاية بلد لا يزال رغم كل ما عاشه يتلمس تعريفاً
2013-09-25

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك

تتشابه حياة «ذات» مع حياة غالبية نساء مصر في النصف الثاني من القرن الماضي. وقد تحوّلت أخيراً رواية صنع الله ابراهيم الى عمل درامي: «حكاية بنت اسمها ذات»، يُنظر اليه على أنه أفضل ما أُنتج في هذه الأيام، ولعل مرد ذلك أنه يحمل ما يطابق اللحظة وشعور كل الناس: القلق والشك والبحث، ومعها وبالرغم منها، الأمل. هل هي حكاية بنت أم حكاية بلد لا يزال رغم كل ما عاشه يتلمس تعريفاً أشمل لذاته؟ سؤال يستوقفك منذ اللحظة الأولى لميلاد ذات في 23 يوليو 1952 وحتى رحيلها في أوائل الألفية الثالثة. وفي الغالب، فالقصتان متداخلتان. ولأن حياة الأنثى هي دائماً أكثر كشفاً للألم، اختار الروائي أن ينحاز للإنسان ويسرد على هامش حياة هذه المرأة مسار بلده.

وجع السؤال وصدمة الاجابات

قال والدها لصديقه: سأسمّيها «ذات الهمة» فهي «الذات» وما حدث بالبلد الليلة (قيام ثورة يوليو) هو «الهمة». ثم وعلى مدار الأعوام التالية لطفولتها وشبابها، ستبقى «ذات» تبحث عن مخرج ما ـ حتى ولو بسذاجة شراء ماكينة غسل أطباق ـ من الإحساس بالحيرة والوحدة والبحث عن الفرح.
أما السبب، فكان باختصار الخوف والألم. فقد كانت ذات على موعد دائم مع الألم المباغت، هذا الذي ينتزعك من وسط الفرحة البسيطة، ينقض عليك من دون فهم منك. كان هذا حين نادتها أمها وهي بنت الـ 9 سنوات لتنتزعها من فرحتها بمشاهدة الجهاز الرهيب، التلفزيون، وتأخذها لقصة سوداء تشبه ملابس هذه السيدة القاسية التي انقضت عليها. صرخت ذات تتوسل أمها التي تمسك بذراعها «ليه كده يا ماما؟!»، لكن صراخها لم يسعفها، وكان ألم «الختان». لم يكن الأخطر هو وجع الضربة التي اقتطعت جزءاً من جسدها، ولكن وجع السؤال الذي سيبقى يتردد دائماً: «ليه كده؟!» وصدمة الإجابات.
هو الإحساس نفسه تكرر حين انهال عليها أبوها ضرباً وهي تصرخ «أنا عملت إيه يا بابا؟». لم تكن القصة في أنها تتعرّض للضرب المبرح من أبيها للمرة الأولى، ولا أن أمها تخلّت عن مساندتها ودفعت أبيها لأن يسير وراء شيطان غضبه ـ قبل أن يستفيق هو نفسه ـ ويحرمها من المدرسة «علشان تتربّى». أما التهمة التي لا تغتفر فهي تلقيها أول خطاب عاطفي. ألمٌ تكرّر بشكل مكثف بعد ما يزيد على 13 عاماً على هذه الحادثة، في ليلة الزفاف، داخل هذه الغرفة التي قادتها إليها أحلامها ببيت جديد، ودهست في طريقها إليه أعز ما تملك، حريتها وتحرّرها اللذان كانت بدأت أولى خطواتهما بعبورها بوابة الجامعة. في ذلك اليوم، بدا لها أن الرجل ذا البذلة السوداء لا يفرق كثيراً في أدائه عن سيدة الختان.

الحياة مستمرة رغم التفاوت

تمرّ الحياة عادية، بكل ما في الكلمة من حلاوة ومرارة. تعيش ذات وتكبر وفق نواميس التكيّف، تفرح من دون أن تعرف حقاً حلاوة الفرح، تحزن من دون ان تعرف جلال الحزن. هل كان يمكن أن يحدث شيء ما يغيّر هذا المسار؟ هل كان هناك من منقذ؟ لعله الوهم الذي عاشت ذات وبلدها فيه على مدار السنين: «البحث عن المنقذ». فقد كان أبوها موجوداً دائماً، وهو سبب رئيسي لإحساسها بالحب، لكنه لم يتمكن يوماً من حماية «همّتها» التي تحدث عنها.
كان رجلاً يشبه عصره بامتياز، تبنّى أحلاماً كبيرة لم يتعلم كيف يدافع عنها، فمات كمداً بسبب ذلك. كان هذا حين جلس أمام شاشة التلفاز يشاهد السادات وهو يقف في الكنيست الإسرائيلي ويوجه حديثه «للأمهات الثكالى» المحتلات للوطن المغتصَب. لم يستطع أن يفعل شيئاً، انكمش، ظلت عيناه مثبتة على صورة «جمال عبد الناصر» المعلقة على الحائط، لم يشفه كلام ابنه في الخطاب الآتي من أميركا عن ضرورة تخطي كل التجارب السابقة والبحث عن طريق لإقامة الدولة المدنية الثورية، لم ينتظر كثيراً ثم نظر لذات وحدها نظرة ذات معنى.. ورحل.
أما الشاب الثوري المثقف فلم تستطع ذات رغم جمالها أن تقنعه بها خلال فترة الدراسة الجامعية، وانتهى بها الحال الى هذا الزوج الطيب، العادي، الرتيب، الذي يتبنى من دون تردد كل دعاية إعلامية وسياسية تروجها الدولة، حسب شعار المرحلة، بينما هي ظلت في صمت دائم تراقب الرجل الذي كان حلمها وهو يخوض معترك السياسة وينتقل من معتقلات السادات الى معتقلات مبارك.
مروا جميعاً، وعاشت ذات حبيسة نفسها من دون أن تدرك قيمة الاختلاف وحق الاختيار. وها هي في السبعينيات تخصص جزءاً من راتبها الأول لشراء «باروكة ميرفت امين»، ثم توافق سريعاً وسط غضب زوجها ـ الذي كان بدوره رجلاً بسيطاً ـ على ارتداء «البونيه» ومنه الى الحجاب.

من الرواية إلى الفيلم

بالمنطق نفسه، وقفت ذات داخل غرفة المونتاج، حيث كانت تعمل في مؤسسة التلفزيون، ترافق عبر ما يزيد عن عشرين عاماً الأحداث التي تتوالى على صدر هذا البلد. وهي، وقليلون معها، يتابعون الحقيقة كاملة ثم ـ وفقاً للأوامر ـ يقومون باجتزائها، فبقي يقين ذات كإرادة بلدها، منقوصاً دائماً. التحولات الاجتماعية والسياسية الواسعة التي مرت خلال حياة ذات، نقلها الفيلم عبر الخلط بين ما هو درامي وما هو وثائقي، فكان خروج الملايين باكية عقب خطاب تنحّي جمال عبد الناصر، والتصفيق الحاد للسادات وهو عائد من زيارة القدس، والنقاشات الاجتماعية المقيتة حول «ضرورة السلام». سمعت ذات عن الانفتاح الاقتصادي، فقررت هي وزوجها الخوض في مشروع تجاري جديد هو بيع «وعاء الطهي الكهربائي»، الذي كاد أن يذهب بها للسجن لا للإفلاس فحسب.
توالت الطموحات بينما العالم من حولهما يتحرك سريعاً حتى أصبح وكأنه يقول لهما: «لا مكان لكم هنا». فكل يوم تظهر بضائع استهلاكية جديدة تتطلع إليها هي وبناتها الصغيرات، بينما تتضاءل كل يوم إمكانيات الزوج، الموظف البسيط، وكرامته.
كغيرهم، عاشوا التآكل السريع والمزري للطبقة الوسطى المصرية من خلال منظومة متكاملة متشابكة ومتفاقمة من الفساد والبيروقراطية، وتخلي سياسات الدولة عن «المواطن» لمصلحة «المستثمر». السفر إلى دول الخليج والعمل لمدة عشر سنوات كان «مسكّناً» حفظ ماء الوجه والهيئة الاجتماعية، لكنه لم يصمد كثيراً أمام زواج البنات ومحاولة إدخال الولد الصغير الى مدرسة أجنبية بسبب تردي مستوى المدارس الحكومية. وسرعان ما سيطر الخلط بين ما هو ثقافة مصرية وأخرى وهابية، وتجلّى ذلك حين تخلت الإبنة الكبرى عن مكانها في كلية الطب، وارتبطت بالجار الذي تحول سريعاً من شاب طموح الى صاحب شركة سياحية مختصة برحلات الحج والعمرة.

الأمل..

لم يهتم العمل الذي انتهى مع أفول ذات بتقديم إجابات. ولكن الأمل تسرب من منطق استمرار الحياة نفسها. فرغم سوداوية الصورة مع تعرض ابن ذات لحادث انقلاب قطار، وهو ما اعتاد المصريون على حدوثه، إلا ان أملاً كان يلوح، من خلال تصميم ذات على تعليم بناتها، ومن دفاعها عن التحاق ابنتها بمعهد السينما قسم التصوير، ومع رفضها أخيراً البقاء في عملها والاستمرار بالكذب والتزييف، وإن لم تُعلن عن هذا واكتفت بحجة كبر السن والرغبة في الراحة...

 - أخرجت الفيلم كاملة ابو ذكرى، وقامت بدور البطولة نيللي كريم، وأنتجه غابي خوري - عُرض في رمضان الماضي
  
 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...