فلسطين: تعدّدت الأدوات والاعتقال واحد

في الاعتقال الإداري، ليس بالإمكان معرفة البيّنات ولا مصدرها، إذ أنها تخضع للسريّة القانونيّة، وهي "بيّنات استخباراتية". وهكذا، حتى في الجانب القانوني البحت، لا يمكن كسب معركة يُديرها، ويتحكّم بكل أدواتها الطرف الآخر، وتجري في ساحته، في محاكمه، ووفق قوانينه.
2021-02-22

جَنان عبده

محاميّة، ناشطة حقوقيّة وفنّانة فلسطينية، من حيفا


شارك
جنود الاحتلال الاسرائيلي يعتقلون طفلا فلسطينيا

حصْر مسألة الاعتقال الإداري الذي تقوم به إسرائيل ضد الناشطين والناشطات الفلسطينيين في الخطاب القانوني إشكالي، ومن شأنه أن يُضيّع البوصلة بشأن طبيعة وضعيّة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وبشأن جوهر الدولة الذي يتكثّف في هذه المسألة. إنه مطبّ يقع فيه الفلسطينيون إن توخّوا العدالة بالمحكمة الإسرائيلية ورأوا فيها ملاذهم، إذ يمنحونها المشروعية، ويحصدون بالمقابل الفشل، وفقدان الحق الذي يثبته القانون الدولي تجاه الشعوب الرازحة تحت الاحتلال والاستعمار الاستيطاني. وتزداد الإشكالية في غياب موقف فلسطيني رسمي ونهج موحد.

الاعتقال الإداري هو اعتقال سياسي، وهدفه القمع والترهيب، وأحياناً تفريغ تنظيمات سياسية تحررية من كوادرها واستنزافها. وعليه لا يمكن حصر مُحاجة قانون سياسي في الجوانب القانونية (1)  لا غير. وقانونياً لا نستطيع الادعاء السياسي الحقيقي بأنه لولا الاحتلال لما كانت حاجة للاعتقالات الإدارية. فحسب قانون دولة الاحتلال، لا يوجد احتلال، بل دولة وقانون يُطبّق على "الجميع".

وكي لا أظلم المُرافعين أمام المحكمة، فإن هذا هو الحد الأقصى الذي يُتيحه القانون الإسرائيلي للتعاطي به أمام محكمته العسكريّة. وهنا يكون الدفاع قد خسر المعركة غير المتكافئة في الأدوات قبل أن يبدأها.

في الاعتقال الإداري، ليس بالإمكان معرفة البيّنات ولا مصدرها، إذ أنها تخضع للسريّة القانونيّة، وهي "بيّنات استخباراتية". وهكذا حتى بالجانب القانوني البحت، لا يمكن كسب معركة يُديرها ويتحكّم بكل أدواتها الطرف الآخر وتجري في ساحته، في محاكمه، ووفق قوانينه، ليكون هو الاحتلال وهو الذي يقوم بالاعتقال الإداري، وهو الذي يحاكم وفق أنظمته وقوانينه.

في سجون الاحتلال المئات من المُعتقلين والمُعتقلات دونما أية محاكمة. وبناءً على معطيات "مؤسسة الضمير" الحقوقية، هناك 440 من المُعتقلين الإداريين من مجمل 4400 أسير فلسطيني، ويتم تمديد اعتقالهم مرة تلو المرة من قبل السلطات الإسرائيلية. وهو في الحقيقة أمر قاهر، ويستنزف المُعتقل وعائلته، لكنه لا يخرج عن نطاق الاعتقالات التي في جوهرها هي اعتقالات سياسيّة، ولا يقل خطورة أو صعوبة عنها.

عن منسوب تسويغات الاعتقال الإداري في الاعتقال "العادي"

تحمل المحاججة القانونيّة في الاعتقالات الإدارية إشكالية إضافية. إنها، ودون أن تقصد، تُشرعن بمفهوم معين "الاعتقال غير الإداري" أو "العادي"، ذلك الاعتقال الذي تُقدّم فيه لوائح اتهام. إن مُحاججة الاعتقال الإداري بأدوات قانونيّة تُفرغه مسبقاً من فكرة عدم قانونيّة هذه القوانين بمجملها، وعدم شرعيتها، كونها قوانين سنّها الاحتلال، ويُطبقها على الواقعين تحته. حيث تفرض الدولة المحتلة قوانينها ومفاهيمها عليهم، رغم أنها احتلت أرضهم، وصادرت مصادر معيشتهم، وتحكّمت بكل شيء، بالمياه، بالأرض، بالعمل، بالمعابر.. تحكمت عملياً بالحياة. بالتالي من يُناقش الاعتقال الإداري من مُنطلق محاججة قانونيّة فقط تتمحور بالحقوق الاعتقالية، فهو يقع في المصيدة التي يريده الاحتلال أن يقع فيها، إذ تحاججه المحكمة العسكرية أيضاً بالقانون، وتطبّق عليه القانون العسكري.

في سجون الاحتلال المئات من المُعتقلين والمُعتقلات دونما أية محاكمة، وبناءً على معطيات "مؤسسة الضمير" الحقوقية، هناك 440 من المُعتقلين الإداريين من مجمل 4400 أسير فلسطيني، ويتم تمديد اعتقالهم مرة تلو المرة من قبل السلطات الإسرائيلية.

يكاد لا يوجد بيت فلسطيني في الضفة الغربية والقدس لم يتعرض أحد أفراده إلى الاعتقال الاحتلالي على الأقل مرة واحدة في حياته. وليس نادراً بالمرة أن تجد في البيت الواحد عدّة مُعتقلين أب وأولاد، أم وأولاد، أخوة وأخوات

الاعتقال الإداري لا يزيد صعوبةً أو قسوةً عن باقي القوانين السياسية التي تُغلفها دولة إسرائيل، وتسميها بتسميات أمنية أو مدنية. فمُصطلح "أمن الدولة" بحد ذاته هو مُصطلح سياسي يخدم أهدافاً سياسية، هدفه أن يُعطي شرعيةً للدولة ووجودها، وللاحتلال، ولاستمرار سيطرتها على المناطق المحتلة، وتلك التي تحررت شكلياً من سلطة الاحتلال لكنها ما زالت خاضعةً عملياً لحكمه، واحتياجات "أمنه"، وتلك المناطق التي يُسيطر على معابرها، ويتحكم بحياة البشر فيها وما يدخل وما يخرج منها (غزة وباقي الضفة).

يكاد لا يوجد بيت فلسطيني في الضفة الغربية والقدس لم يتعرض أحد أفراده إلى الاعتقال الاحتلالي، على الأقل مرةً واحدة في حياته. بل كثيراً ما يوجد في البيت الواحد عدّة مُعتقلين، أب وأولاد، أم وأولاد، أخوة وأخوات. اعتقالات تتراوح مدتها من أشهر إلى مؤبدات. وما دام الاحتلال قائماً، ما دامت الاعتقالات مستمرةً، ومقاومة الاحتلال، للتحرر منه مستمرة.

القانون أداة لتثبيت الاحتلال وليس لتحقيق العدالة

لا يختلف القانون السياسي المُطبق في المناطق المحتلة عام 1967 عن القانون السياسي المُطبق في مناطق الـ 1948، إلّا في تسمياته، وفي نوع البدلات التي يلبسها القضاة. ففي حين يتم تطبيق القانون العسكري في القدس والضفة، ويلبس القضاة البدلة العسكريّة كونهم ضباط جيش. أما القوانين السياسية والمُسماة مغالطة بـ"الأمنية" في الداخل الفلسطيني - ومنها البنود الخاصة بـ"الأمن" ضمن "قانون العقوبات"، و"قانون مكافحة الإرهاب" (وهو قانون سُنّ عام 2016، ويطبّق أيضاً ويسري على المناطق المحتلة عام 1967) - فيبتّ فيها قضاة مدنيون، وتعقد في محاكم "عادية"، لكن المنظومة القانونيّة هي واحدة.

في كلا المحاكمتين، العسكرية والمدنية، تعتمد إسرائيل أنظمة الطوارئ التي في جوهرها هي قوانين حرب، وقد ورثتها عن الانتداب البريطاني وطوّرتها. ولا يهم إن "اعترف المتّهم" بتهمته، أم لم يعترف، فالتُّهم جاهزة، والأدلة التي تقبلها المحكمة هي "أدلة سرية".

في كلا الحالتين، وفي المحكمتين، يتم اعتماد ما يُسمى "الأدلة السرية"، ولا يوجد مجال لمُحاججات قانونيّة حقيقية، ولا يعرف المُعتقل الفلسطيني الذي قُدمت ضده لوائح اتهام، ماهيّة كامل التهمة وكامل الأدلّة، التي يحميها القانون بمنحها صفة السرية، وعليه لا يستطيع الدفاع تقصّي مصدر المعلومات، أو مدى حقيقتها، أو استدعاء مصدر "المعلومة" للمثول أمام المحكمة. وفي كلا الحالتين تعتمد إسرائيل أنظمة الطوارئ التي في جوهرها هي قوانين حرب، وقد ورثتها عن الانتداب البريطاني وطوّرتها، فتمنع لقاء الفلسطيني بمحاميه، وتُصادق المحكمة المدنية كما العسكرية على ذلك، وعلى تمديد منع اللقاء وتمديد الاعتقال. ولزيادة الترهيب في كثير من الأحيان تفرض أمر "منع نشر" على القضية.

يلعب جهاز الأمن العام الإسرائيلي - الشاباك دوراً حاسماً في فترة التحقيق، حيث لا يكون المُحقق شرطياً، بل رجل مخابرات. والتحقيقات تجري في أقبيّة مخابراتيّه يُستعمل فيها الترهيب والتعذيب، ولا يهم إن "اعترف المتّهم" بتهمته أم لم يعترف، فالتُّهم جاهزة، والأدلة التي تقبلها المحكمة هي "أدلة سرية"، ويكون الحيّز القانوني المتاح للدفاع حيّزاً ضيّقاً جداً، وبالأصح معدوماً، كونه يدور في فلك معركة سياسية بأدوات قانونيّة مُجيّرة لخدمتها.

بعد أن يكون المُعتقل قد تعرض للتعذيب والمعاملة المهينة والقاسيّة، فإن لقاء محامٍ بعد انتهاء أمر منع اللقاء، ضروري لرصد حالته، ومعرفة وضعه الصحي والنفسي، والتحقق من تعرضه لانتهاكات وتعذيب، والاستفادة منها كبيّنات، أو لمطالبة المحكمة بفرض إجراء الفحوصات الطبيّة اللازمة وتلقي العلاج. يحتاج المُعتقلون إلى هذا الدعم، خاصّةً أن كثيراً منهم هم من صغار السن والقاصرين.

هناك من يعي هذه المفارقة، وقاطع هذه المحاكم، ورفض الكلام أثناء جلساتها، ورفض الرد على قضاتها، ورفض إعطاءها الشرعيّة، أو أخذ دور بمُحكمتها الصوريّة، ورفض تعيين محام له مُعلناً أنه لن يلعب لُعبتها، ولن يخوض محكمة هي سياسية احتلالية، نتيجتها معروفة، وحكمها صادر مسبقاً، حكم سياسي بحت.

ومع هذا، لماذا نستعمل المسار القضائي؟

في الكثير من الأحيان، حين يتم الاعتقال والمحاكمة، ويكون المُعتقل قد اختطف من بيته، وتعرض للتعذيب والمعاملة المهينة والقاسيّة، فإن لقاء محامٍ بعد انتهاء أمر منع اللقاء، هو أمر ضروري لرصد حالة المُعتَقل، ومعرفة وضعه الصحي والنفسي، والتحقق من تعرضه لانتهاكات وتعذيب، والاستفادة منها كبيّنات، أو لمطالبة المحكمة بفرض إجراء الفحوصات الطبيّة اللازمة وتلقي العلاج. ولقاء محامٍ بعد فترة منع طويلة ممكن أن تصل إلى شهر، هو أمر إنساني حيث يكون المحامي هو الإنسان الأول - ما عدا محققيه - الذي يلتقيه المُعتقل ويتحدث إليه. ويكون الأمر ضرورة لطمأنة عائلته عليه، وطمأنته على عائلته. وعملياً، يكون حضور المحامي أمام المحكمة كسند للمُعتقل، ويتمحور دوره في محاولة تحسين ظروف الاعتقال وتخفيف التهم، لأنه بأغلب الحالات لا يمكن إلغاؤها. هذا في الحالات التي يتم فيها تقديم لائحة اتهام. أما في الاعتقالات الإدارية، فلا لائحة اتهام، ولا مجال لأي محاججة قانونية. وتُستعمل المعلومات التي يحصل عليها المحامي من المُعتقل في الكثير من الأحيان لتقديم التقارير لهيئات دولية حول الانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين.

يحتاج المُعتقلون إلى هذا الدعم، وهذا الدور من المحامين، خاصّةً أن كثيراً منهم هم من صغار السن والقاصرين. وعلى سبيل المثال، بناءً على مُعطيات "مؤسسة الضمير"، فقط في شهر كانون الثاني/يناير الفائت (2021) اعتقلت إسرائيل 456 فلسطينياً، منهم 105 مُعتقلين إداريين، و93 قاصراً، أي بمعدل 3 أطفال باليوم، وهي بحد ذاتها جريمة ضد الأطفال.

جوهر واحد همٌّ واحد

في السجون الإسرائيلية آلاف الفلسطينيين، جزء كبير منهم من المناطق المحتلة عام 1967، وعدد أقل من مناطق 1948. فرّقتهم الجغرافيّا وصنّفتهم بين مُواطن ومُقيم، وأقامت بينهم الحواجز. كُلهم يجمعهم حُكمٌ واحد، وحاكم واحد وسجن واحد. وحين تلتقي العائلات في الزيارة فإنّها تلتقي على همّ واحد.        

______________

  1- بمعنى حصر المُحاججة بالبعد القانوني بأنّ هذه الاعتقالات لا تخضع لمعايير الاعتقال وتنتهكها بشكل صارخ، وفي مقدمتها حق المُعتقل بمعرفة دواعي الاعتقال والتهمة وتحديد مدة اعتقاله.

مقالات من فلسطين

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

للكاتب نفسه

الوجود الفلسطيني بحزب صهيوني

جَنان عبده 2021-03-13

دور العرب داخل الأحزاب الصهيونيّة هو أن يكونوا "مقاولي أصوات": استقطاب أصوات المقترع العربي للأحزاب الصهيونية، على أساس طرح هذه الأحزاب لـ"تحسينات" و"ميزانيات" و"خدمات" للناخب العربي، بينما لا تذكر مواضيع...