في 1954، أي بعد مرور 124 سنة على بدء «مهمة فرنسا الحضارية» في الجزائر، لم تكن نسبةُ الجزائريين في مختلف أطوار الدراسة ما قبل الجامعية تتجاوز 18 في المئة، فيما تُقدَّر اليوم بـ 95.5 في المئة للفئة العمرية 6 ـ 15 سنة (إحصائيات 2012). ولم يكن عدد الطلبة في 1954، يتجاوز 1100 وهو اليوم يتعدى 1.3 مليون طالب من أصل 38 مليون ساكن. وقد ساعد على هذه النقلة الراديكالية من أميّة شبه تامة إلى تعميم شبه كامل للتعليم العام تحوُّلُ الجزائر بعد تأميمها المحروقات في 1971 إلى دولة نفطية، المدرسة فيها، كالمصحّة والكهرباء، رمزُ القطيعة مع الماضي والطموحِ إلى «احتلال مكانة مرموقة في مصافّ الدول المتطوّرة» كما كان يقال بلغة ذلك العصر.
وقد عانى التعليم من عواقب الصدمة البترولية المضادة في 1986، وما نجم عنها من تراجعٍ لموارد الخزينة (المموَّلة أساسا بعوائد الجباية النفطية)، فأُخضع كغيره من قطاعات الخدمة العمومية لسياسات تقشفية أملاها صندوق النقد الدولي. لكن هذه السياسات لم تُنفَّذ في الحقيقة إلا جزئيا بسبب خوف السلطة من أن يزيد التراجعُ التام عن مكاسب الفترة البومدينية حظوةً الإسلام الراديكالي لدى الطبقات الشعبية.
وترافق انتهاء عقد التسعينيات وما عرفه من مواجهات دامية بتحسن كبير لأسعار النفط العالمية، ما زاد مداخيلَ الخزينة ومكَّن الدولة من استئناف الاستثمار العمومي، خاصة أنه غطاء مثالي لتبديد مريع للمال العام اتّخذ صورا شتى أهمها مضاعفة قيمة الصفقات لقاء رشى يدفعها الفائزون بها.
ارتفاع ميزانية التعليم 424 في المئة منذ 2000
وكان من مظاهر استئناف الاستثمار الحكومي في الخدمات العمومية ارتفاع ميزانيات تسيير قطاعي التعليم العام والجامعي وإطلاق مشاريع كبرى لتوسيع بنيتهما التحتية (مثلا 3698 مدرسة جديدة بين 2001 و2011). وقد حُددت ميزانية وزارة التربية في قانون المالية للسنة الجارية بـ 697 مليار دينار جزائري (أي 16 في المئة من ميزانية التسيير الكلية وهي 4714 مليار)، فيما بلغت ميزانية التعليم العالي 270 مليار دينار (6 في المئة). ويكفي لتوضيح أهمية هذه المبالغ معرفة أن ميزانية التسيير لوزارة التربية لم تتعدَّ 133 مليار دينار في 2000 (ارتفعت بـ424 في المئة في 14 سنة)، وأن ميزانية تسيير التعليم العالي كانت في حدود 39 مليار دينار لا أكثر (أي أنها زادت بـ 592 في المئة خلال الفترة ذاتها).
ولتلافي تغذية نار الانتفاضات الشبابية التي بدأت في 2001 في المنطقة القبائلية، وانتشرت إلى جهات أخرى خلال السنوات اللاحقة، حافظت الدولةُ على المزايا الاجتماعية للتلاميذ، وهي فضلا عن مجانية الدراسة، المطاعم المدرسية (14739 مطعما في 2013-2014 لفائدة 3 مليون تلميذ حسب الإحصائيات الرسمية) ومجانية الكتاب المدرسي ومِنَح الدخول المدرسي التي يقدّمها صندوق الضمان الاجتماعي في كل شهر ايلول/سبتمبر لأبناء الأسر الفقيرة وكذا الإعاناتُ العينية (مآزر، محافظ، الخ) التي توزعها البلديات سنويا على هذه الأسر. أما المزايا الاجتماعية لطلبة التعليم العالي فنذكر منها على سبيل المثال شبهَ مجانية المطاعم الجامعية (سعر الوجبة 1.20 دينار أي 1 سنتيم من اليورو منذ السبعينيات) والنقلِ والإيواءِ في المساكن الجامعية.
ويلخص رقمٌ واحد ضخامةَ النفقات التعليمية في الجزائر: «كلفة» حامل الشهادة الجزائري تعادل 500 في المئة من نصيب الفرد من الدخل القومي حسب دراسة أجرتها مجموعةُ البحث «نبني» (كانون الثاني/يناير 2013)، مقابلَ 200 في المئة لنظيره التونسي و 180 في المئة لنظيره المصري.
نفقات طائلة لا طائل منها
هل يعني هذا الإنفاق على التعليم أن الجزائر تحلِّق عاليا في سماء المعرفة؟ لا للأسف. لا شك في أن جيوش التلاميذ والطلبة الجرارة هذه تُحسن القراءة والكتابة، لكن مؤهلاتهم الحقيقية بالتأكيد أبعد من أن تتناسب وأسماء الشهادات الفخمة التي حُمِّلوا إياها.
وإذا كانت نسبةُ إعادة السنة 6.8 في المئة من مجموع المسجلين في الابتدائي (2012، البنك الدولي) فإنها 17.8 في المئة في الثانوي، وهي نسبةٌ عالية مقارنة بنظيرتها لمنطقة الشرق الأوسط/شمال إفريقيا (9.1 في المئة). أما تدنّي مستوى التحصيل فيشير إليه احتلال التلاميذ الجزائريين مراتبَ غيرَ مشرفة في مسابقات عالمية هدفُها مقارنة النظم التعليمية في العالم، وهو ما حدث في 2007 في مسابقة TIMMS (Trends in International Mathematics and Science Study) عندما حصلوا على مجموع 378 في الرياضيات و354 في العلوم، أي تحت المعدل (500 نقطة) بـ 122 و146 نقطة على التوالي.
ولا يقل مستوى التعليم الجامعي تدنيًّا عن مستوى التعليم العام، فلا جامعةَ جزائريةً واحدة في قائمة أولى 500 جامعة في العالم (ترتيب 2013) التي تنشرها سنويا جامعة شانغهاين فيما تحتل جامعاتُ الملك سعود والملك عبد العزيز والملك فهد (المملكة السعودية) فيها المراتب 159 و212 و330 على التوالي، وجامعة القاهرة المصرية المرتبةَ 404. ورغم ما يؤخد على هذا الترتيب من تفضيلٍ ضمني لكبرى الجامعات، خاصة منها تلك التي بمقدورها ماليا تشغيل باحثين كبار، فإنه يبقى مرجعا جادا لمقارنة المؤسسات الجامعية في العالم بعضها بالبعض الآخر وتقييم مساهمتها في البحث العلمي العالمي.
ولا أدلَّ على أن المسؤولين الجزائريين يقيّمون التعليمَ كمّاً لا كيفاً من تعليق المدير العام للبحث العلمي بوزارة التعليم العالي على غياب الجزائر من هذه القائمة: «المعايير المستعملةُ في ترتيب الجامعات عالميا تركز على البحث العلمي (...) لا على جهود الدولة المبذولة لإنشاء الهياكل القاعدية وتحسين التأطير البيداغوجي» (الموقع الإخباري TSA، 15 تموز/ يوليو 2013). هل الهدف من «إنشاء الهياكل القاعدية» و«تحسين التأطير البيداغوجي» نشر وإنتاج المعرفة أم مجرّد نيل ود المؤسسات الأممية في الخارج وشراء السلم الأهلي في الداخل ما دام نهر الريع جاريا؟
المدرسة كقاعة انتظار
وعدا ضعفِ مستوى المدرّسين والمفتشين وسوء استغلال الوسائل البيداغوجية وانعدامِها أحيانا، يُفسَّر تدهور المستوى المعرفي للتلامذة والطلبة بعاملين آخرين. أولهما انتشار الغش بشكل غير مسبوق، ما جعل الانتقال من فصل إلى آخر في متناول الجميع تقريبا، وثانيهما استعمال الدولة التعليم أداة للتحكم في جماهير الشباب بإطالة مدة التمدرس اصطناعيا، وبالتلاعب بنسب النجاح في الامتحانات. ويتخذ الغش أشكالا متعددة : استعمال «الحُروز» ـ اللفائف التي تحوي الاجابات ـ وتسريب الأسئلة بل و«الغش العلني»، إن صح التعبير، كما رأيناه في بكالوريا 2013 عندما قام مترشحو بعض المدارس بالإجابة على سؤال الفلسفة «جماعيا»، في حضور المراقبين، بدعوى أنهم «لم يدرسوا موضوعه»، وهو ما أحدثَ في حينه فضيحةً مدوية سرعان ما أُخمدت (ولم تسفر طبعا عن استقالة الوزير).
ويبدو المصير المجهول لتقرير «لجنة إصلاح التعليم» الذي شكّلها الرئيس بوتفليقة في 2000 قرينةٌ على إحجام النظام عن إخراج التعليم من أزمته ودفعه إلى مزاوجة الكم بالكيف فهو يخشى أن يفقدَ بإصلاحه وسيلةً من وسائل التحكم في المجتمع بتوزيع النتائج الدراسية «الجيدة» الموهومة والنجاحات غير المستحقة. ولا مبالغةَ إن قلنا إن المدرسة والجامعة لا تعدوان في نظره أن تكونا «حضانة» يُحشد فيها مؤقتا ملايينُ الموعودين بالبطالة لمنعهم من احتلال الشارع. هل من تفسير منطقي آخر - والمستوى على ما هو عليه - لارتفاع نسبة الفائزين في البكالوريا من 19.42 في المئة في 1995 إلى 32.92 في المئة في 2002 والى 44.78 في المئة في 2013 وبلوغها الذُّرَى في 2011 بـ 62.45 في المئة؟
وتؤدي هذه السياسة المتعامية إلى تعاظم ضغط أصحاب الشهادات على سوق عمل، عاجزة عن إدماجهم بسبب بطء النمو الاقتصادي. ويواجه النظام هذا الضغط بنفَس الهروب إلى الأمام، فنراه يشجع البطالين (بالقروض المصرفية وغيرها من التسهيلات) على إنشاء مؤسسات صغيرة محكوم عليها بالإفلاس، ليجد أصحابُها أنفسهم مجددا على الهامش، بطّالين دون تكوين حقيقي ولا خبرة مهنية حقيقية.