مصر: "بندول" دولة ما بعد الاستعمار

ما الذي جعل "دولة يوليو" تستطيع "العودة" مرة أخرى بعد ثورة ديمقراطية الطابع والعمق؟ ما عاد هو قدرة العسكر على الانقضاض على الثورة عبر الدولة نفسها في أصفى وأشرس صورها وأكثرها بدائية. صحيح أن الثورة كانت، في جانب مهم منها، ضربة كبيرة لبنية "دولة يوليو"، ولكن، داخل الثورة أيضاً كان هناك توجه كبير لاستعادة هذه الدولة مرة أخرى، باعتبارها انحرفت عن مسارها بسبب السادات ومبارك: الرغبة بعودة المشروع الناصري مع بعض التصحيحات له، وكان حلم عودة الجيش المصري وتحرير قيادته العسكرية من هيمنة القيادة السياسية التي انحرفت به، هو أحد أهم الخيالات السياسية السائدة.
2021-02-11

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
"كوبري قصر النيل"، القاهرة في 28 كانون الثاني/ يناير 2011. تصوير: بيتر ماكديارميد/Getty

في 11 شباط/ فبراير 2011، ومع استقالة مبارك أو تنحيته، انتصرت الثورة في مصر في أولى معاركها، وربما كان ذلك آخر انتصار لها. انعتقت البلاد من مبارك ومن محاولة توريث الحكم لولده جمال، وكانت الميادين مفتوحة للجماهير، وعادت السياسة لمصر بمعناها الجاد الواسع، حيث أتيحت إمكانية التنظيم، سواء في حركات سياسية او اجتماعية. وأنطلق البعض لبناء أحزاب سياسية مختلفة الألوان، وكانت مصر على موعد مع عودة الديمقراطية بمفهومها الليبرالي، من خلال عودة السياسة على شكل "الديمقراطية التمثيلية". وعلى يسار هذا الموعد، انفجرت مصر بالمبادرات الشبابية والتحركات العمالية والنقابية ومحاولات مختلفة للتشبيك والتنظيم السياسي والاجتماعي، واحتلت النساء موقعاً جديداً في الصراع الاجتماعي والسياسي بفضل حضورهن الملحمي في أحداث الثورة نفسها، ثم مع الانطلاق لتدعيم وتعضيد المنظمات الحقوقية النسوية والمبادرات النسائية المختلفة.

عودة للجذور: دولة يوليو الأولى 

أخل هذا النصر بجانب كبير من هيكل ما يُعرف بدولة يوليو، أو دولة العسكر التي تأسست مع عبد الناصر والضباط الأحرار في 1952. دفعت الثورة نحو عودة السياسة. وكان نفي السياسة وبغضها أجد السمات الإيديولوجية والممارساتية الحاكمة لدولة يوليو. فقد كانت بنظر الضباط فساداً للحياة العامة وتشتيتاً لجهود الشعب ومسيرته، كما لوحدته وتلاحمه بتفرّقه على الأحزاب وصراعاتها. وكان العداء مع السياسة يتجاوز مجرد العداء مع الديمقراطية التمثيلية، فهو يمتد فكرياً ومادياً بشكل أعمق. فأولاً، الشعب موحد بنظر أغلب قادة هذه الدولة الجديدة، وثانياً، هو القائد ولكنه لم يكن مؤهلاً بعد لقيادة نفسه، أو للسماح له بكامل الحرية بسبب تركة الاستعمار وفساد القصر، والأحزاب. وثالثاً، كان هناك أيضاً كره عميق للسياسة كصراع على الموارد والتمثيل وكتجسيد للصراع الطبقي. وقد أكد العديد من الضباط الأحرار كتابةً كرههم الشديد للصراع الطبقي، وما يحمله من دلالات سيئة وخطيرة على "تماسك المجتمع المصري".

وكان اكتمالُ سيادة الدولة المصرية حلماً قديماً وسابقاً على ثورة 1952، تجسد في محاولات الاستقلال والإدارة الكاملة لأجهزة الدولة المختلفة والثروة والموارد وتوزيعها. ومصر قبل 1952 لم تكن بأي حال جنة ديمقراطية، بل كانت دولة بوليسية عميقة وشديدة القمع. ولكن انقسامَ الحكم بين القصر والأحزاب والاستعمار، وما يمثله كل طرف من قوى اجتماعية، ككبار الملاك والأفندية ورجال الدولة، سمح بوجود السياسة، في ظل الصراعات بين مكونات هذه التشكيلة الاجتماعية، ونظراً لعدم تماسك السيادة بالكلية. وكان نمط الإنتاج يسعى لتطوير نفسه من مركزية الأراضي الزراعية إلى التصنيع، ولم تكن الدولة بعد محتكرة لأدوات الإنتاج بالكلية.

نجح عبد الناصر في تحقيق سيادة الدولة، وملأ الفضاء العام بحضوره كزعيم، وضرب كل القوى السياسة ونفى السياسة من المجتمع، وأغلق المجال العام باستثناء حالات استدعاء الجماهير لدعمه. وأمم السياسة وخلق كيانات ممثلة عن بعض القطاعات الاجتماعية ولكن تحت مظلته. فأنشأ الاتحاد العام للعمال، واشترط أن تكون قيادات النقابات جزءاً رئيسيّاً من الاتحاد الاشتراكي. وكان لهذا الأخير، حينما أنشئ في الستينات الفائتة، غرض تمثيلي، أي أن يستوعب العمل السياسي كله بداخله. والغرض الثاني كان أمنياً محضاً، غايته خلق كيان اجتماعي وسياسي لموازنة الجيش، وظهير لصراع عبد الناصر مع عبد الحكيم عامر، ولمزيد من أحكام سيطرته على المجتمع وتمثيله.

وبالفعل تشكلت شريحة عريضة جديدة من الطبقة الوسطى بفضل توسيع الجهاز البيروقراطي والقطاع العام، من خلال محاولتي التأميم الأولى في الخمسينات والثانية في أول الستينات.

لكن "دولة يوليو" تلك شهدت العديد من التحولات على مستوى الخطاب والبنية والأهداف والصراع الإقليمي وموقعها من الصراع العالمي.

أبرز تلك التحولات تخصُّ توجهات الدولة الاجتماعية وشبكة علاقتها بالمجتمع وإدارتها للموارد. وهناك اعتقادٌ سائد بأن دولة يوليو ومشروع عبد الناصر تحطما من خلال سياسات السادات. ولكن مأزق دولة يوليو كان كامناً فيها منذ اليوم الأول لتشكيلها، ثم انفجر تماماً وجنح يميناً بالكلية مع هزيمة 1967.

نجح عبد الناصر في تحقيق سيادة الدولة، وملأ الفضاء بحضوره كزعيم، وضرب كل القوى السياسية، ونفى السياسة من المجتمع، وأغلق المجال العام باستثناء حالات استدعاء الجماهير لدعمه. وهو قام بتأميم السياسة، وخلق كيانات ممثلة عن بعض القطاعات الاجتماعية ولكن تحت مظلته.

يمكن قراءة أولى تحولات دولة يوليو في مطلع الستينات. حين انفجر الصراع داخل أجنحة الدولة وأجهزتها المختلفة. وتحول الأمر من محاولة تأسيس حكم شمولي ناجح إلى تشرذم الأجهزة. كما طغت النزعة الأمنية على حساب التوجه الاجتماعي. وفشل عبد الناصر في تطوير الصناعة المصرية وفي التحالف مع الرأسمالية الوطنية فقام بموجة التأميم الثانية. وبحلول 1965 كان من الواضح أن هذا المشروع قد انفجر من داخله. وحاول عبد الناصر العودة لطريقة الحكم القديمة، فأعاد منح حقيبة وزارة الداخلية لرئيس الوزراء، وجاء بصديقه زكريا محي الدين، المؤسس للأجهزة الأمنية الجديدة التي تشكلت مع 1952. لكنه لم يستطع ضبط الأجهزة التي خلقها بنفسه وانفلتت صراعتها بالكامل.ثم أنه كانت قد تشكلت طبقات طفيلية حول القطاع العام والأجهزة الأمنية ونجحت في التشبيك بين بعضها البعض، ما أدى إلى خلق سوق سوداءَ كبيرة حاول زكريا محي الدين وعبد الناصر مواجهتها ولكنهما فشلا. فهذه الشبكات تكونت حول الأجهزة الأمنية نفسها ومن خلالها وبالتنسيق مع أفراد بداخلها. وكان الحل لمواجهة الأزمة هو فرض ضرائب على الاستهلاك. وهذا كان ينمُّ عن خلل وعدم قدرة الدولة في الوصول إلى الثروات المخزنة. وبالتالي كان عليها أن تضرب عموم الجمهور لسد العجز وضبط جانب من السوق. وليس صدفة أن يكون عام 1965 هو نفسه عام انتفاضة "كمشيش" في الريف المصري. وهي كانت تمرداً للفلاحين على بقايا الإقطاع، حيث ظلت عائلة الفقي الإقطاعية مسيطرة على أغلب أراضيها في تلك الناحية.

"كمشيش" كواقعة كاشفة للعطب

حاول كل من صلاح الدين حسين وزوجته شهندة مقلد مواجهة عائلة الفقي. ولكن هذه الأخيرة كانت قد نجحت في إقامة شبكة من العلاقات تربطها بالعمد ورجال الداخلية ثم رجال الاتحاد الاشتراكي لاحقاً. ومن خلال هذه الشبكة من رجال الأمن والسياسة والوجهاء استمرت العائلة كإقطاعية في كمشيش. وقامت المباحث العامة باعتقال صلاح الدين في الفترة من تشرين الثاني / نوفمبر 1964 إلى شباط/ فبراير 1965 بتهمة الشيوعية. ثم في أيلول/ سبتمبر 1965 بتهمة أنه إسلامي. انكشف أمر كمشيش في آذار/ مارس 1966 أثناء إحدى زيارات عبد الناصر الميدانية للمنوفية. فقام المتظاهرون بالهتاف " ثورة كمشيش تحي الثورة الأم". ثم هرعت شهندة مقلد إلى اختراق موكب عبد الناصر ومحاولة تسليمه عريضة تصف حالة المحلة وغضب الفلاحين فيها. أمر عبد الناصر بعد ذلك بفتح تحقيق حول كمشيش. في البداية أكد الاتحاد الاشتراكي والداخلية أن الأمر قلاقل تثيرها عناصر شيوعية. إلا أنه بعد عدة أسابيع، قتل صلاح الدين وانفجرت القضية مرة أخرى، لتصبح ليس فقط قضية مصرية، بل قضية عالمية استرعت انتباه تشي جيفارا وزيارته لمصر، وخطاب من فيدل كاستروا وزيارة من جان بول سارتر.

____________
من دفاتر السفير العربي
كيف تشتغل الدولة المصرية؟
____________

كشفت قضية كمشيش فشل النظام الناصري في أهم مشاريعه: القضاء على الإقطاع وهيمنته على الفلاحين والريف المصري. وكان التواطؤ بين العناصر المختلفة شديد الفجاجة. وبعد وفاة عبد الناصرقاموا بالتهجم عليه. فالسادات الذي وصلته التقارير حول واقعة كمشيش، وكمال الشاذلي الذي كان ممثل الاتحاد الاشتراكي في ذلك الوقت بالمنوفية، والذي سيصبح أهم رجال الحكم في عهد مبارك، ومعهما رجال أمن كبار مثل عبد الحليم موسى الذي سيصبح وزيراً للداخلية، وحسن طلعت الذي سيصبح مديراً لجهاز أمن الدولة، جميعهم كانوا منخرطين في التواطؤ في قضية كمشيش، وإخفاء أبعادها الحقيقية عن عبد الناصر حتى تفجرت الأزمة . أخذ عبد الناصر الأمر على عاتقه. كذلك أثار الحادث غضب عبد الحكيم عامر وتخوفه مما يحدث بين الداخلية والاتحاد الاشتراكي من وراء ظهره، وخوفه من فقدان هيمنة الجيش في مواجهة هذا التحالف بين بقايا الإقطاع ورجال الداخلية والاتحاد الاشتراكي. واتفق عبد الناصر وعامر على إنشاء لجنة للقضاء على الإقطاع. وتسلمت اللجنة بعد أسابيع من الحادث مئات التظلمات والعرائض من قرى مختلفة تشير إلى أن الوضع في عموم الريف المصري لا يختلف كثيراً عن كمشيش. أوضحت تحقيقات اللجنة أن 45 في المئة من الفلاحين مازالوا لا يمتلكون أرضاً زراعية. وأن 95 في المئة ممن يمتلكون قطعَ أرض زراعية لا تتجاوز مساحة أراضيهم خمسة أفدنة. وأشارت اللجنة إلى نمو القوة السياسية للبرجوازية الزراعية وسيطرتها على الريف. وانتهت اللجنة بالقضاء على 220 إقطاعي ووضع أكثر من 200 ألف فدان تحت الحراسة وطرد المئات من العمد والمشايخ.

المهم في مثال كشميش هو كيف قامت عناصر الأجهزة الأمنية المختلفة والقيادات السياسية بحجب الرؤية عن تلك الأجهزة نفسها، وتمكنت من إفشال مشاريع الدولة، وإطلاق يد الأمن على المجتمع ضد المشروع الناصري نفسه.

ولكن أشرار المشهد في مسرح 1965 سيكونون هم أبطال الحكم مباشرة في عهد السادات ومبارك. فالسادات نفسه الذي كان متورطاً في التغطية السياسية على عائلة الفقي سيصير رئيس الجمهورية، وعبد الحليم موسى أحد أهم ضباط المباحث المتورطين في التعاون مع الفقي سيصبح وزيراً للداخلية، وكمال الشاذلي الذي كان ممثل الاتحاد الاشتراكي في هذا الوقت، سيصبح وزير الدولة لشؤون مجلسي الشعب والشورى، وأحد أهم أركان الحزب الوطني في عهد مبارك.

أثر هزيمة 1967

كان التوجه اليميني والمحافظ لدولة ما بعد الاستعمار في مصر، بل والأقرب للولايات المتحدة الأمريكية، قوياً داخل مجلس قيادة الثورة، كما كان هناك عداءٌ واضحٌ للأفكار التقدمية، واليسارية. ويستثنى من ذلك يوسف صديق وخالد محي الدين، وكلاهما تم تهميشهما منذ البداية. ولكن سطوة عبد الناصر وقدرته على بلورة نفسه كزعيم فرضت بعض المفردات والتوجهات التقدمية على هذه الدولة وإن كانت في أغلبها شعبوية. فكانت مقولات مثل "العدالة الاجتماعية"، و"مواجهة الاستعمار" حقيقية، والحرب ضد إسرائيل حقيقية، ولم تكن مجرد رطانات سياسية. ولكن ما تجسد منها حقيقة هو توحش الأجهزة الأمنية، واستخدامها هذه المفردات كترسانة لغوية وفكرية في ممارساتها للقمع والإخضاع ومن أجل الهيمنة السياسية.

حدث قرية "كشميش" (1965) بالغ الأهمية لأنه يقدم مثالاً عن كيف قامت عناصر الأجهزة الأمنية المختلفة، والقيادات السياسية بحجب الرؤية عن تلك الأجهزة نفسها، وتمكنت من إفشال مشاريع الدولة، وإطلاق يد الأمن على المجتمع ضد المشروع الناصري نفسه. 

ثم جاءت الهزيمة في 1967. أيقنت هذه الدولة أن هناك أيضاً حدوداً للأحلام. خضع عبد الناصر لممالك الخليج وتحديداً السعودية. وبدأ بالعودة تدريجياً للدولة البوليسية في الحكم أكثر من اعتماده على الدولة الأمنية، وبدأ يعيد الحديث عن الديمقراطية كمناورة، ووعد بحل دولة المخابرات التي أحال هزيمة 1967 لتوحشها وانحرافها عن دورها.

بدأ عهد دولة ما بعد الاستقلال بمقولة أن الشعب قد انحرف عن طريقه ومسيرته، وأن الجيش قام بدوره لوضعه على الطريق الصحيح. وانتهى بأن الأجهزة الأمنية والدولة هما من انحرفا عن مسيرتهما ودورهما. ولكن وفي كل الأحوال سيظل الشعب بعيداً عن المعادلة حتى "ثورة يناير" 2011.

مقالات ذات صلة

وبعد عبور 6 أكتوبر 1973، وإعادة الاعتبار للجيش والقيادة السياسية، استمرت الدولة في التوجه يميناً بالكلية. فجاءت الفرصة للثروات التي تراكمت في عصر عبد الناصر من خلال الأجهزة الأمنية أو العلاقة بها، وفساد بعض البيروقراطية ومع بقايا عائلات الإقطاع القديمة، والتي نجحت في الاختباء، والحفاظ على كثير من ثرواتها للخروج للعلن بقوة، وللتشبيك مع رأس المال العالمي متمثلاً بالولايات المتحدة، ولاحقاً مع الخليج. ومنذاك الوقت، بدأت الدولة تتخلص من كل مشاريعها وأعبائها الاجتماعية بالتدريج، وتخلت عن أحلام مواجهة الاستعمار والتحرر ودول عدم الانحياز وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل.

أنور السادات، وكمال الشاذلي الذي كان ممثل الاتحاد الاشتراكي في ذلك الوقت بالمنوفية، والذي سيصبح أهم رجال الحكم في عهد مبارك، ومعهما رجالُ أمن كبار مثل عبد الحليم موسى الذي سيصبح وزيراً للداخلية، وحسن طلعت الذي سيصبح مديراً لجهاز أمن الدولة، جميعهم كانوا منخرطين في التواطؤ في قضية كمشيش.

ولكن هل انتهت "دولة يوليو" مع السادات أو حتى مع مبارك لاحقاً؟ لا. انتهى جزء منها فحسب وبقي قائماً مكونها الرئيسي، وهو التسلط والحكم العسكري والأمني. ولكن كيف نجحت هذه الدولة في الاستمرار على الرغم من تخليها عن الصراع مع الاستعمار ومن انتفاء شروطه أصلاً؟ وتخليها عن الصراع مع إسرائيل وطموحاتها الإقليمية الواسعة؟ بالإضافة إلى تخليها عن جانب كبير من طموحات التحديث والتصنيع والعدالة الاجتماعية؟ نجحت بفضل فعل الانفصام بين مستويي الخطاب والممارسة، واستمرار قدرة القيادة السياسية على اخضاع الأجهزة الأمنية المختلفة وتماسكها. ويعود الفضل الكبير في هذا إلى هزيمة 1967 نفسها، حيث نجح عبد الناصر في السيطرة على الحكم، وإحكام سيادة القيادة السياسية على هذه الأجهزة، والتحول نحو دولة بوليسية واسعة تستمر بداخلها الدولة الأمنية وليس العكس. فالجيش استمر كمصدر رئيسي للحكم، وظلت الأجهزة الأمنية تتمتع بقوة ونفوذ كبيرين، وأقامت القيادة السياسية توازناً يرتكز على "وزارة الداخلية"، وعلى تضخيم قواتها لتعادل الجيش، وتكون قادرة على مراقبته من الداخل. وكذلك عن طريق "الحزب الوطني"، وخلق شبكات زبائنية واسعة في المجتمع تتمتع بالثروة والنفوذ، بالإضافة إلى تماهٍ كبير مع الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحة تدريجية مع القوى الإقليمية في الخليج.

الانفصام أو الشيزوفرينيا : امتدادات دولة يوليو

ظلت الدولة المصرية محتفظة بأغلب مكونات خطاب "دولة يوليو". وإن كان الانفصام بين الخطاب والممارسة قد تجلى بوضوح أكبر مع استمرار تخليها عن شروط نشأتها. فالجيش هو قاطرة المجتمع وحاميه، ولذلك لا يمكن تخيّل قيادة سياسية للبلاد من خارجه، حيث المدنيون حفنة من غير المنضبطين، وهناك شك دائم في وطنيتهم وقدرتهم على قيادة البلاد. وظل خطاب تخوين المعارضة وشيطنتها، وأنها من أتباع الخارج الذي يسعى لتفكيك مصر، وأن الديمقراطية الكاملة محفز كبير على الانفلات والتشرذم، وأن الشعب غير مؤهل بعد. وظل الاتهام بالتعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة أكبر تهديد لنعت أي معارض. كذلك نظر إلى أية صلة بالخارج مهما كانت، باعتبار دافعها هو تدمير البلاد وتقليب الشعب على قيادته، وأنها خيانة للوطنية المصرية ولسيادة الدولة. كما توسعت البيرواقراطية في عهد السادات ولم تتقلص. ونجحت الدولة في توليف خطابها هذا مع توجهاتها الفعلية المخالفة للخطاب. لم تلعب هذه الشيزوفرنيا دورها فقط في إخضاع المجتمع، ولكن كان لها دور مؤسس داخل أجهزة الدولة نفسها، وبالأخص منها الجيش. ولم يكن الأمر يتوقف عند حدود الخطاب فقط. فلكي يحافظ الجيش على جزء من تماسكه الداخلي، ظل يعيد تسليح نفسه من خلال المعونة الأمريكية، ولكن مع الحفاظ على أن طبيعة السلاح تظل موجهة للشرق، أي ضد إسرائيل، وهو ما تجلى في إصرار مصر الدائم على التسلح بعدد كبير من الدبابات والمدرعات، الأمر الذي أثار حفيظة الولايات المتحدة في كثير من الأوقات. ولكن ذلك كان أمراً بالغ الأهمية لكي يستمر الجيش في إعادة إنتاج خطابه المتماسك عن العدو الإسرائيلي ودوره المحوري في هذا الصراع، ولا مانع من إضافة بعد الخطب الإسلامية عن أهمية "جند مصر" وأن "المعركة مع اليهود" حتمية.

فرضت سطوة عبد الناصر وقدرته على بلورة نفسه كزعيم بعض المفردات والتوجهات التقدمية على "دولة يوليو". فكانت مقولاتٌ مثل "العدالة الاجتماعية"، و"مواجهة الاستعمار" حقيقية، و"الحرب ضد إسرائيل" حقيقية، وليست مجرد رطانة. ولكن ما تجسد منها حقيقة هو توحش الأجهزة الأمنية واستخدامها هذه المفردات كترسانة لغوية وفكرية في ممارساتها للقمع والإخضاع، من أجل الهيمنة السياسية. 

سهلت هذه الشيزوفرنيا مهمة الدولة في حماية نفسها من اتهامات الخيانة وسهلت عليها تخوين خصومها. وكان المجتمع المصري مهيأ لاستقبال كل هذا بفضل عمليات الأمننة الثقيلة التي تعرض لها. والأمننة تستطيع بسهولة، من خلال اللغة والممارسة، ابتلاع أي تناقضات ونظْمها في خطاب متماسك حول العالم، والتهديد الدائم الذي تتعرض له البلاد، وأن هناك قوى مختلفة مصرة على استهداف مصر.

وفي نهايات حقبة مبارك، لم يعد الخطاب الأمني يتركز على أي شيء غير التهديد بانهيار حالة الاستقرار الهشة، المتحققة بفضل دور الأجهزة الأمنية والقبضة الثقيلة للبوليس وحكم قانون الطوارىء. كان هذا أيضاً مصحوباً بتحول نيوليبرالي قاسٍ يجاوره صعودٌ قوي للإسلام السياسي. فكانت عناصر التهديد حاضرة، والقوى الاجتماعية الجديدة حاضرة لتدافع عن النظام، كذلك البيروقراطية الأمنية مستمرة في مواقعها، مع توحش وتضخم كبير ل"الداخلية".

2011: الارتطامُ بدولة يوليو

نعود مرة أخرى للثورة و"دولة يوليو". نعم كانت الثورة في جانب مهم منها ضربة كبيرة لبنية "دولة يوليو". ولكن، داخل الثورة أيضاً كان هناك توجه كبير لاستعادة هذه الدولة مرة أخرى، باعتبارها انحرفت عن مسارها بسبب السادات ومبارك. فكانت هناك رغبة بعودة المشروع الناصري مع بعض التصحيحات له. كما أن حلم عودة الجيش المصري وتحرير قيادته العسكرية من هيمنة القيادة السياسية التي انحرفت به، هو أحد أهم الخيالات السياسية السائدة. وأخيراً ظل هاجس الإسلاميين حاضراً بقوة بعد الثورة، وبالأخص مع توسعهم الشديد وظهور مكونات إسلامية أكثر يمينية وتطرفاً من الإخوان المسلمين أنفسهم على الساحة. وأما الجانب الديمقراطي في ثورة يناير فقد فشل في التصدي لعدة أسئلة:

مقالات ذات صلة

1- السؤال الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة، واكتفت الحركات المختلفة بتقديم تصورات عن مشاريع اقتصادية، أو رفع راية العدالة الاجتماعية بدون تحديدٍ لصلتها بالصراع الاجتماعي، من حيث الخصوم والحلفاء والأعداء وكيفية توزيع الموارد وإدارتها.

2- عدم القدرة على إحراز أي تقدم في سؤال دور الدين داخل الاجتماع والدولة وحدود دوره في الهيمنة السياسية والاجتماعية، وكذلك دوره القمعي في مسائل العدالة الاجتماعية والحريات الشخصية.

3- عدم القدرة على طرح صيغ للتعايش المشترك داخل الجماعات المختلفة في مصر، بعيداً عن دور الدولة البوليسية المؤسس لشروط هذا التعايش لعقود طويلة.

4- عدم القدرة على ضبط حدود الجيش ودوره، كذلك عدم القدرة على الصدام الواسع معه وإخضاعه أو التفاوض الجاد لتقاسم المساحات معه وإعادة رسم الأدوار. فلا الثورة تفاوضت من موقع قوي مثل الثورة السودانية، ولا استطاعت إزاحة العسكر بالكلية من الحكم.

5- افتقار شديد لبناء رؤية عن آليات الحكم والإخضاع القائمة، وبالتالي عدم القدرة على تغييرها واستبدالها.

6- كيفية بناء قواعد اجتماعية جديدة قادرة على إزاحة قواعد نظام مبارك و"دولة يوليو" واستبدالها بتشكيلة حاكمة جديدة تعبر عن الثورة.

بعد رحيل عبد الناصر، ظلت الدولة المصرية محتفظة بأغلب مكونات خطاب "دولة يوليو". فالجيش هو قاطرة المجتمع وحاميه، ولذلك لا يمكن تخيّل قيادة سياسية للبلاد من خارجه، حيث المدنيون حفنة من غير المنضبطين، وهناك شكٌ دائم في وطنيتهم وقدراتهم على قيادة البلاد.

ولكن هل يعني ما سبق أن "دولة يوليو" كانت منتصرة منذ اليوم الأول في ثورة يناير؟ لا. فهذه الدولة كانت متعثرة لأبعد حد في محاولة الارتداد على الثورة وإخضاعها بسهولة. وكان خطاب السلطة الذي مزج بين الأمن والاستقرار الذي أسسه مبارك، وخطاب التخوين والعمالة الذي أسسه عبد الناصر، وهيبة الدولة الذي خرج من العسكر والإخوان... كان في حالة تعسّرٍ شديد حتى على المستوى الكلامي في مواجهة النزعات الديمقراطية والتحررية الجديدة التي أصرت على تقديم الحرية والحق في التنظيم وفتح المجال العام، على الأمن. وعلى الرغم من الانفلات الأمني العام الذي شهدته البلاد بعد الثورة، إلا أنه لم يكن بالمستوى الجلل وشديد الخطورة الذي يجعل الدولة قادرة على استغلاله بشكل يسمح لها بالتفوق الكلي من خلال الاعتماد على التهويل بخطر عدم الاستقرار.

ارتداد؟

ما الذي جعل هذه الدولة تستطيع "العودة" مرة أخرى بعد ثورة ديمقراطية الطابع والعمق؟ ببساطة ما عاد هو قدرة العسكر على الانقضاض على الثورة عبر الدولة نفسها في أصفى وأشرس صورها وأكثرها بدائية. وفي هذا وجد السيسي أرضية إيديولوجية قوية ليرتكز عليها. فالسيسي ليس منزوع الإيديولوجيا كما يُتصور. هو يتبنى "إيديولوجيا" الدولة الحديثة والقوية، والتي لا يمكن تخيل الاجتماع الحديث بدونها، وهي فكرة عالمية . إلا أنها لديه مرتبطة ومحددة شرطاً بحالة الاستثناء القصوى.. أما بقية ما أثير حوله فتخيّلاتٌ لجماعات مختلفة: فالإسلاميون بعد 3/7 فجأة تعاملوا معه كعلماني معادٍ للدين، والناصريون تصوروه ناصريّاً جديداً سيقود حركة استقلال وتحرر من التبعية الأمريكية، والعلمانيون تصوروه محرر مصر من الظلام الإسلامي. لم يتمكن السيسي من الانقضاض على السلطة بسبب رغبته السياسية، ولم ينجح بسبب قوة إرادته. الذي مكن السيسي من هذه المناورة كان عدة عناصر:

1- اشتداد الصراع الاجتماعي والسياسي مع الإخوان المسلمين، والتهديد الواسع على مستوى الخطاب والفعل الإرهابي في استهداف الدولة، وذلك في ظل عجز وعدم قدرة أي طرف آخر على حسم الصراع.

2- اضطراب الوضع الإقليمي وانهيار السيادة في العديد من الدول، وهو وإن كان يُستخدم كفزاعة في خطاب الدولة المصرية، إلا أنه أيضاً واقع مادي في اللحظة التاريخية.

3- الموقف الدولي الحائر بين أمرين: 1- انفلات الدول وانهيارها وموجات الهجرة التي تسببت بها الثورة السورية بعد تحولها لحرب أهلية ثم لحرب إقليمية داخل الأراضي السورية، وانفلات الحركات الإرهابية، 2- والرغبة في احتواء تيار الإسلام السياسي والاستثمار فيه. ومن هنا استطاع السيسي مناورة القوى الدولية المختلفة، وطرح نفسه كصمام أمان للحفاظ على تماسك الدولة والاجتماع في مصر، وتأمين البحر المتوسط من موجات الهجرة. ونجح في القيام بمذبحة كبيرة، ثم في الحكم، ثم في عودة العلاقات مع جميع الأطراف وقيادة الاتحاد الإفريقي الآن (الذي كان قد علّق عضوية مصر بعد مذبحة رابعة).

4- استغلالهُ الجيد للصراع بين محور السعودية والإمارات من جانبٍ، وقطر وتركيا من جانب آخر.

5- خوف الجيش وأجهزة الدولة من الإخوان، والذي كان مصحوباً بغضب شعبي كبير عليهم.

6- الاستيلاء على وسائل الإعلام من خلال شركات تابعة للدولة، وتطوير آليات وأدوات مراقبة الفضاء الإلكتروني ووسائل الاتصال، والإفراط في غلق وحجب المواقع المختلفة.

7- الاستحواذ على السوق، سواء من خلال مؤسسة الجيش مباشرة، أو من خلال شركات ومجموعات تابعة للأجهزة الأمنية.

8- التوسع في الاستدانة الخارجية، وعدم المساس بالثروات الكبرى لكبار العائلات ورجال الأعمال.

عادت دولة يوليو إذاً، ونجح السيسي في الارتكان إلى خبرات كبيرة لدى الدولة المصرية في القمع والحصار والاخضاع. ويبقى السؤال الأساسي مطروحاً، وإن عصي على الإجابة: هل ينجح استحواذ الدولة على آليات السوق، سواء بطرق مباشرة مثل الاستيلاء على وسائل الإعلام واحتكار مجال الإنتاج الفني، أو بطرق مقنّعة لاحتكار السوق، عبر شركات تابعة للأجهزة الأمنية، في إعادة تعريف أدوار تلك الدولة الاجتماعية والاقتصادية؟ خاصة وأنها أعلنت بوضوح عن رغبتها في التخلي عن مسؤولياتها وأدوارها المركزية تجاه المجتمع. وهل نجح الإفراط في القمع وتطوير وتكثيف آليات المراقبة والقمع والسيطرة والبطش في فرض هيمنة سياسية جديدة على مصر، ستنجح في إخضاع المجتمع والسيطرة عليه وجدانياً ومادياً؟ أم أن هذا الذي يجري الآن ليس سوى استمرار في انزلاق الدولة نحو التحلل والتفكك الكاملين، خاصة بعدما فقدت قدرتها في التنشئة / التربية والضبط الاجتماعي والإيديولوجي للأفراد؟ 

______________

• "بندول"، أو رقّاص الساعة، للاشارة الى المراوحة بين نقيضين، وقد دخل التعبير الى الاستعمال في اللغة العربية.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...