سيناء بعد عزل غزة

مرت ستة شهور منذ إقامة المنطقة العازلة، ولم يزدد الوضع الأمني في شمال سيناء إلا سوءاً. تم تغيير القيادة العسكرية أكثر من مرة، ولا تزال العمليات النوعية لتنظيم "ولاية سيناء" في تصاعد. يُطرح التساؤل حول حقيقة علاقة قطاع غزة بالإرهاب في سيناء على ضوء نقطتين: أولاً، عدم صلاحية هذا الاحتمال لتفسير الهجوم الكبير على معسكر الجيش بالقرب من واحة الفرافرة في أقصى الصحراء الغربية في تموز/
2015-05-28

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك

مرت ستة شهور منذ إقامة المنطقة العازلة، ولم يزدد الوضع الأمني في شمال سيناء إلا سوءاً. تم تغيير القيادة العسكرية أكثر من مرة، ولا تزال العمليات النوعية لتنظيم "ولاية سيناء" في تصاعد. يُطرح التساؤل حول حقيقة علاقة قطاع غزة بالإرهاب في سيناء على ضوء نقطتين: أولاً، عدم صلاحية هذا الاحتمال لتفسير الهجوم الكبير على معسكر الجيش بالقرب من واحة الفرافرة في أقصى الصحراء الغربية في تموز/ يوليو2014، وثانياً لأن غزة دوماً كانت وجهة تهريب السلاح وليست مصدراً له. وبغض النظر عن الجدل حول موقع غزة وتنظيماتها المختلفة مما يجري في سيناء، إلا أن المتفق عليه الآن هو تدهور الموقف الميداني لمصلحة بسط تنظيم "ولاية سيناء" سيطرته الميدانية على عدد من القرى التي لم يعد الجيش قادراً على الانتشار فيها برياً، ولا يهاجم فيها إلا بالقصف الجوي. وهو ما حدا بقيادات الجيش للشروع في تجربة مواجهة التنظيم عن طريق وكلاء محليين من أبناء القبائل الموثوق في ولائهم لأجهزة الدولة.
وبعد ستة شهور من إصدار التنظيم تسجيله المرئي "صولة الأنصار"، الذي يعرض فيه هجومه على نقطة التفتيش بمنطقة كرم القواديس شرقي العريش، عاد ليُصدر الحلقة الثانية منه موثقاً فيها هجومه على نقطة تفتيش أخرى في منطقة قبر عمير، حيث قتل في شهر نيسان/أبريل الماضي 16 جندياً في الاشتباكات. أظهر التسجيل جانباً من المعركة التي امتدت من الفجر حتى الضحى من دون أي دعم جوي أو بري لقوات الجيش، وصوّر غنيمة السلاح والذخيرة وأسْر مركبتين تابعتين للجيش وخطف أحد الناجين ليذبح لاحقاً في مدينة الشيخ زويد، كما ظهر في فيديو سابق.
يربط بعض المراقبين توقيت نشر "صولة الأنصار 2" بخطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخير، الذي تحدث فيه عن تقدم أمني كبير ووعود تنموية براقة. ويبدو أن "دواعش سيناء" قد أرادوا نشر هذا التسجيل كنوع من الحرب النفسية بعد إصدار "تحالف القبائل" بيانه حول مواجهة تنظيم ولاية سيناء. وعلى الرغم من تحويل المؤتمر القبلي إلى اجتماع سري في العاشر من أيار/ مايو الجاري، إلا أن البيان الذي صدر عنه نال حظاً من الانتشار الإعلامي بفضل مباركة السلطات الأمنية لهذا التحرك القبلي. فما هي قصة مشروع "صحوات سيناء"؟

الرهان على الحرب القبلية

بدأت الملاسنة ببيان أصدره أحد أبناء قبيلة الترابين، ذائعة الصيت في القتال والقنص والحروب القبلية تاريخياً، حاملاً توقيعه ومعه بضع عشرة اسماً من رموز القبيلة، يعلنون فيه المواجهة المسلحة لجماعة "ولاية سيناء" التابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" الشهير باسم "داعش". صدر البيان من القاهرة بعيداً عن حقيقة المشهد الميداني، فسارع أبناء القبيلة في المناطق القريبة من تواجد التنظيم إلى نفي مسؤوليتهم عنه وعن مضمونه، وكان من أهم دوافعهم لذلك هو السيرة الذاتية غير المشرّفة اجتماعياً لـمُصْدر البيان ورغبتهم في عدم تحمل عواقب أفعاله التي طالما كانت مثيرة للمتاعب. في هذه الأثناء، انخرط التنظيم المسلح في الملاسنة ببيان مضاد رفض أحد أبناء الترابين، واسمه عبد الباسط الأسطل، استلام نسخة منه أثناء توزيعه في قريته البرث. استعرض الأسطل بسيارته أمام أعضاء التنظيم مثيراً للغبار في وجوههم، فأغضبهم، فتربصوا به على مدخل سوق القرية في اليوم التالي وقتلوه، ثم هدموا بيت إبراهيم العرجاني الذي أصدر البيان الأول.
كان مثيراً للريبة أن تتلقف وسائل الإعلام الموالية للسلطة طرفاً حقيقياً من هذه الأنباء وتضيف إليه مبالغات وأساطير عن حرب الترابين المقدسة ضد الإرهاب. بدا أن السلطات الاستخبارية والأمنية ترحب ـ للمرة الأولى ـ بوجود تحرك أهلي مسلح ضد تنظيم "ولاية سيناء"، وهو أمر تكرر رفضه فيما سبق، سواءً كمبادرات وقائية عَرَضها بعض شباب القبائل في 2012، أم حتى كرد فعل على انتهاكات التنظيم في حق السكان لاحقاً.
أُعلِن عن مؤتمر قبلي موسع في منطقة "السر والقوارير" في وسط سيناء لإنشاء تحالف قبلي لمساعدة الجيش في محاربة الإرهاب. إلا أن الداعين إليه سرعان ما تراجعوا عن فكرة المؤتمر العلني وحوّلوه إلى اجتماع سري خشية استهداف المشاركين فيه من قبل أعضاء التنظيم. حرص البيان الصادر عن الاجتماع على تأكيد اسم المظلة الجديدة، "تحالف القبائل"، وعدم ربط هذه التحركات باسم قبيلة معينة حفاظاً على النسيج الاجتماعي والعشائري، بحسب البيان. وهي خطوة قد تبدو ذات رونق إعلامي جيد إلا أنها لا تعني شيئاً على المستوى المحلي، فالتنظيم له أعضاء وكوادر من أغلب قبائل المنطقة الشمالية الشرقية من شبه جزيرة سيناء، بمن فيها قبيلة الترابين، ويستحيل أن تعلن قبيلة منفردة مهاجمة أماكن تمركز التنظيم في أراضي قبيلة أخرى. ربما كانت الإضافة الوحيدة في إعلان هذا التحالف الوليد هي توفير غطاء مناسب لضم شركاء من قبيلة السواركة التي ينتمي أغلب القيادات والكوادر المحلية في التنظيم إليها، وهو أمر غير مستبعد خاصة بعد أن قام التنظيم بذبح أحد أبناء السواركة أمام أبيه وإخوته الصغار بجوار مسجد قرية المهدية بتهمة التعاون مع الجيش قبل أسبوع من الاجتماع.
لا شك أن قتل عبد الباسط الأسطل من الترابين، وذبح عبد الكريم المنيعي من السواركة، وغيرهما العديد من أبناء قبيلتيْ السواركة والرميلات قد أحدث ثأراً مختلجاً في النفوس ورغبةً في الانتقام يعززها ضجر الناس مما آلت إليه الأوضاع بسبب هذه الحرب الدائرة منذ خريف 2013. لكن أماني توكيل الشريك المحلي لإنجاز ما فشل الجيش في تحقيقه يبدو أنها عرضة للتحطم العنيف على صخور الواقع المركب..
 

هل ينقلب السحر على الساحر؟

ربما كانت تجربة إستراتيجية جديدة في مواجهة التنظيم المستعصي على الاستئصال فكرة جيدة نظرياً، لكن التحالف القبلي الجديد لا يصلح لهذه المهمة لعدة أسباب: فأولاً، ليس هو الإطار الأول الذي يحاول بسط مظلة عابرة للقبائل لتحقيق أهداف مشتركة. فبعد ثورة يناير، حدثت طفرة من الائتلافات والتنسيقيات في عموم مصر ومنها سيناء. لم يحدث أن ضمت مظلة ائتلافية واحدة جميع قبائل سيناء البدوية أو عائلاتها الحضرية في العريش أو رفح، ولم يعد في وسع أية مظلة جديدة أن تحدث شيئاً من التوافق العام بين القبائل أو أغلب أبنائها.
ثانياً، لأن القبيلة في سيناء لم تعد ذلك الكيان الاجتماعي التقليدي المؤتمِر بأمر الشيخ الذي يحرك أتباعه بإصبعه أو بكلمة منه. فالدولة المصرية نفسها، ممثلة في جهازي الخدمة السرية بالمخابرات الحربية ومباحث أمن الدولة في وزارة الداخلية، كانت الساعي الدؤوب لتفكيك سلطة الشيوخ وتفتيت القبائل للسيطرة عليها وإخضاعها. فعبر تاريخ ممتد من تهميش القيادات الطبيعية وتعزيز سلطة الوكلاء المحليين بمنحهم الاعتراف الرسمي كشيوخ حكوميين، وحصر تيسير الخدمات الأساسية في الموالين للسلطة، وغيرها من آليات استبدادية استعمارية موروثة من عهود الاحتلال، لم تعد القبيلة جسماً واحداً، ولا العشيرة من القبيلة كياناً متماسكاً. في القبيلة الواحدة قادة للتنظيم المسلح ومتعاونون مع الجيش، كوادر خطيرة وناقمون على الجماعات الإرهابية ومعادون للإسلاميين بأصنافهم، فضلاً عن أغلبية مغلوبة على أمرها تعاني بين مطرقة هؤلاء وسندان أولئك.
ثالثاً، يغيب عن هذا المشروع الصحوي المصداقية، فلا المتصدرون لتمثيل القبائل في التحالف يحوزون شرعية حقيقية أو اعترافاً أهلياً بتمثيل قبائلهم الممتدة كبيرة العدد، ولا الشراكة المأمولة مع الجيش تحظى بالحد الأدنى من الجدية. الجيش قد أفرج عن بعض المعتقلين عشوائياً ممن قدم المشاركون في اجتماع التحالف قائمة بأسمائهم، وبرغم ذلك لم يخرج البيان سوى بالتزامات على القبائل، وكأنه إعلان إذعان وولاء، من دون مطالبة الجيش بوقف انتهاكاته المنهجية ومحاسبة المتورطين في جرائم ضد السكان. في التحالف الوليد رموز قبلية، بعضهم هاربون كونهم مطلوبين للمسلحين وبعضهم هاربون لأسباب قبلية محضة وبعضهم متواجدون ميدانياً من دون الإعلان عن هوياتهم، وهؤلاء جميعاً صمٌ بكمٌ عن التهجير القسري والقصف العشوائي الذي يودي بحياة عشرات النساء والأطفال داخل منازلهم، فلا أحد فيهم يذكر الحقوق الأساسية المنتهَكة منهجياً من قبل السلطة، بدءاً من الحق في المياه والطاقة والحق في التعليم والصحة والإسعاف، مروراً بالحق في الاتصال والمواصلات، فضلاً عن الحق في الحياة وسلامة الجسد والحقوق السياسية والمدنية كافة، التي ـ للمفارقة الهزلية ـ يكفلها دستور ما بعد الانقلاب، نظرياً.
كثيرةٌ هي الصخور الكؤود التي تعوق الانطلاق في مسار تفويض الشريك المحلي في سيناء بالاضطلاع بالمهمة التي أخفقت فيها القوات النظامية. وعلى حوافّ تلك السدود تتراقص أشباح الحرب الأهلية المحدودة ـ المرشحة للتمدد ـ على أنغام زخات ذخائر الأسلحة المتوسطة والثقيلة التي سينال حملها أهلياً اعترافاً بشرعيته للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث، كاسراً احتكار شرعية حمل السلاح للدولة. يخشى الناس أن يفيض سلاح معارك الإرهاب فيروي عطش الصراعات المالية والقبلية، ويتربص الجار الصهيوني بمآل هذا السيناريو الذي قد يزعجه أكثر مما أزعجه تنظيم "أنصار بيت المقدس" في طوره الأول، قبل أن يتحول إلى القتال مع الجيش المصري ويعلن ولاءه لتنظيم "الدولة الإسلامية" ويغير اسمه إلى "ولاية سيناء".

للكاتب نفسه