عن أبارتهايد "بتسيلم"

أصدرت منظمة "بتسيلم" الاسرائيلية موقفاً جديداً – من قِبلها – يقول أن هناك "نظام واحد في كل المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، نظام يعمل على تأبيد هيمنة اليهود على الفلسطينيين"، وأسمته نظام "أبرتهايد". لكنها تستدرك قائلة: "لم يولد هذا النظام في يومٍ واحدٍ، ولم يتشكّل في خطابٍ واحد، إنما نتج عن سيرورة تدريجية تأسست واتّضحت مع الوقت". معنى ذلك!
2021-01-30

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك
| fr en
خريطة فلسطين بين 1948 ومطلع القرن الواحد والعشرين

أصدرت منظّمة "بتسيلم" الإسرائيليّة - المعنيّة بتوثيق انتهاكات الاحتلال في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة – بياناً تُعلن فيه تبنّيها إطاراً نظرياً قانونياً جديداً لتوصيف الوضعية السياسية "بين النهر والبحر". بهذا، تعتزل المنظّمة خطابها السابق الذي يقول بأنّ "إسرائيل دولة ديمقراطيّة، ولكنّها تدير نظام احتلالٍ في الأراضي المحتلّة عام 1967"، وتُدرك أنّها أمام "نظام واحد في كلّ المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيليّة، نظام يعمل على تأبيد هيمنة اليهود على الفلسطينيين،" وتُسمّيه نظام "أبرتهايد".

أجّج بيان "بتسيلم" نقاشاً محتدماً بشأن تعريف نظام إسرائيل، يدور منذ عدّة سنوات في فضاء "حقوق الإنسان" – أي بين مؤسسات حقوقيّة فلسطينيّة، ودوليّة، وإسرائيلية، وهيئات أممية مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة والاتحاد الأوروبي، وشبكات صناديق التمويل الأوروبية والأمريكية، والعديد من الأكاديميات والأكاديميين الباحثين في مجالات متّصلة بالقضية الفلسطينية. إثر البيان، تمحور الجدل حو أسئلة من قبيل: لماذا انتظرت "بتسيلم" حتّى الآن؟ لماذا عارضت هذا الإطار منذ سنوات وترفض الانضمام إلى ائتلافات حقوقيّة تعمل لتعزيز هذا الموقف؟ ثم لماذا يلقى موقف "بتسيلم" اهتماماً دولياً واسعاً بينما تجاهل العالم مواقف المؤسسات الفلسطينية؟ لماذا لا يقولون إن إسرائيل "استعمار استيطاني"؟ وكيف تختلف القراءة جذرياً بين "بتسيلم" والمنظّمات الفلسطينية، رغم تشابه تسمية "الأبرتهايد"؟

على أهميّتها، تعاني هذه النقاشات من دوران في فضاء "حقوق الإنسان" وكأنّه عالم قائم بحدّ ذاته. أي أنها قلّما تخرج للنظر في الأسس التي يقوم عليها الجدل أصلاً – البنية التحتيّة التي تحكم فعلياً علاقات المؤسسات ببعضها البعض، تلك التي تخلق سُلّم شرعية بين هذه المؤسسات، وتخلق بينها تفاوتات في القوة والتأثير على صياغة الخطاب الدولي الحقوقي. وهي تفاوتات يندر أن تكون مهنية أو موضوعية.

جنيف تحت الأرض

تتألّف البنية التي تحكم هذا الميدان فعلياً من قوى عديدة، بدءاً من صناديق التمويل الأمريكية والأوروبية التي تلعب دوراً فارقاً في تعزيز هذه المؤسسة أو إضعاف تلك. وصولاً إلى وزارات الخارجية الغربية، وطبعاً الضغوطات الإسرائيلية الهائلة، والتي تتجسّد بعدّة أذرعٍ صهيونيّة فاعلة وضاغطة لا توفّر فرصةً في استخدام الادعاءات الكاذبة بشأن "دعم الإرهاب" و"معاداة السامية".

تبتعد معظم النقاشات عن الخوض في أثر هذه الجهات على عمل وعلاقات المؤسسات في عالم حقوق الإنسان. وبالسكوت عن هذه البنية، تتحوّل هذه الجهات إلى قوةٍ "ما ورائية" تُنزِل قوانين اللعبة وفق مصالح ورؤى سياسية أوروبية وأمريكية مجحفة، مشبعة بحس الوصاية على المنطقة العربية، ومتماهية إلى حدٍ بعيد مع سياسات الحكومات الغربية بحمولتها الاستعمارية. وفي لحظة اختفاء هذه القوى المالية والسياسية، يظهر الميدان الأممي الحقوقي طاهراً محايداً، يقوم على ممارسات ومنابر مُحافظة خطابياً، مُعقّمة لغوياً، تُصاغ بدبلوماسية يقظة ولا تمشي – مهما كانت الحقيقة صارخة أمامها - إلا على المسارات الدقيقة لبنود المعاهدات الدولية. والأهم أن القضايا تتجزأ، فلا يعود لبحث قضايا احتلال غزّة علاقة مباشرة بالضفّة، ويُحظر الربط بين فلسطينيي الداخل والضفّة. ومن نافلة القول أن كل هذه القضايا تُخاض دون جذرها التاريخي الكامن في النكبة وتأسيس إسرائيل.

في المنظور الحقوقي، تتجزأ القضايا، فلا يعود لبحث احتلال غزّة علاقة مباشِرة بالضفّة، ويُحظَّر الربط بين فلسطينيي الداخل والضفّة.

تصميم الفضاء المسرحي لحقوق الإنسان، والذي يجعله يبدو حيادياً نظيفاً من الهويات السياسية، يُكسبه خاصيّة هامة قلّما تُناقَش رغم استثنائيتها: هذا واحد من المجالات النادرة التي تسمح فيه المؤسسات الفلسطينية لنفسها بأن تتعاون وتنسّق مع مؤسسات إسرائيلية بشكلٍ منتظم، دون أن يؤثر ذلك على المكانة الوطنية لهذه المؤسسات فلسطينياً. سبب هذا الاستثناء، الذي لا يُقدم عليه فلسطينيّ في مجالات أخرى مثل الثقافة أو الرفاه الاجتماعي، يُخفي تحته طبقات عديدة وجب بحثها.

تفرض هذه "الأرض المحايدة" على المؤسسات الفاعلة أن تُحافظ على مهنية حقوقية عالية توهمنا بأن الانتماء الأّول والأخير لهذه المؤسسات هو انتماء لقيم حقوق الإنسان الكونية. يبدأ هذا أصلاً من تعريفها كمؤسسات "مستقلة" و"غير حكومية". تُنزع الصبغة القومية أو الإثنية أو الطبقية عن المؤسسة والعاملين فيها، وتتوارى أي دوافع وأهداف سياسية أو مشروع سياسي خلف الخطاب الحقوقي. هنا، يكمن اختلاف جديّ بين المؤسسات الفلسطينية والإسرائيلية، وتحت هذا الاختلاف طبقات متعددة من الفروقات الجوهرية المسكوت عنها.

نحن وهم... جِدْ الفروق

تعني "استقلالية" المؤسسة الفلسطينية عدم ارتباطها بأي مشروعٍ سياسي تحرّري. لا بل أن صعود "المنظّمات غير الحكومية" في فلسطين تربطه علاقة طردية (وإن كانت معقّدة وغير مباشرة) مع أزمة ثم انهيار مشروع التحرّر الوطني. صحيح، المؤسسات الفلسطينية غير مرتبطة بحكومة رام الله أو غزّة، لكنّ هذه ليست النهاية. بل هي محاصرة وتُلاحَق علاقتها مع كل الفصائل الفلسطينية التي يعرّفها الغرب ك"إرهابية" (أي جميعها إلا حركة فتح). وهي مؤسسات تُعاقب بسبب توظيف أسرى محرّرين أو بسبب الانتماءات السياسية لإداراتها، وبسبب كل تصريحٍ (أو حتى منشور فيسبوك) يُدلي به حتّى صغار موظّفيها. وأُجبرت غالبية المؤسسات الساحقة على الابتعاد حتّى عن نداء مقاطعة إسرائيل، والامتناع عن التطرّق إليه بأي شكل من الأشكال. بكلمات أخرى، لا تنتمي هذه المنظمات الحقوقية إلى أرضية سياسية فلسطينية لها رؤيتها ومشروعها، لا تنتمي إلى تيار ولا هي ذراع قانوني يخدم استراتيجية وطنية. حقوق الإنسان، في عمل المؤسّسة الفلسطينية، قيمة عُليا قائمة بحدِّ ذاتها، تؤدّيها هذه المؤسسات في انتظار فرجٍ سياسي ما يعيد النضال الفلسطيني إلى سكّةٍ تحرّرية، أو مُنقلبٍ ما يجعل العالم مستعداً لمحاكمة إسرائيل.

في الأصل والمبتدأ، قام الاستعمار الصهيوني لفلسطين على مبدأ عنصري هو "إقامة دولة اليهود". وأقام كيانه السياسي على المجازر، والطرد، وهدم مئات القرى والبلدات عام 1948. وأقيمت منظومة قانونيّة متشعّبة لسرقة أملاك الفلسطينيين بعشرات المسوّغات، بدايةً من قانون "أملاك الغائبين" (1950).

ليس هذا وضع المنظمات الحقوقية الإسرائيلية أبداً. صحيح أنها غير حكومية، بل مناهضة لحكومتها. لكن إسرائيل، والأيديولوجيا الصهيونية والتيارات الاجتماعية السياسية فيها أكبر بكثير من الحكومة. تنتمي هذه المنظّمات إلى أرضية اجتماعية سياسية مركزية، بل مؤسِّسَة، في المشروع الصهيوني. تنتمي إلى فئة إثنيّة أشكنازية أوروبية تعتبر نفسها طليعة مؤسِّسة للمشروع الاستعماري وإقامة دولة إسرائيل عام 1948. استحوذت هذه الهيمنة الأشكنازية – أو "إسرائيل الأولى" كما تُسمى - على الأغلبية المطلقة من الموارد المنهوبة وعلى رأسها أراضي الفلسطينيين وأملاكهم. وبواسطة حزب بن غوريون "ماباي" الذي انضوت تحته غالبية هذه الفئة، وسيطر على الحكومة الإسرائيلية في أوّل 30 عاماً بعد النكبة، سيطرت هذه الفئة الاجتماعية على المناصب الإدارية، وهيمنت في الإعلام والقضاء والأكاديميا والسياسة. وعلاوةً على تطهيرها العرقي للفلسطينيين وسرقة أملاكهم، استضعفت أيضاً المهاجرين اليهود من الدول العربية، وحوّلتهم قوّة عاملة مستغَلّة تعاني ظروفاً اجتماعية بشعة.

لا تزال هذه الفئة تشكّل تياراً سياسياً يفخر بتأسيسه دولة اليهود، ويعتقد أنه بصدد خسارة الدولة الديمقراطية المتنورة والمتقدمة التي تتمتّع بقيمٍ أوروبية. بل ترى أن ما يحدث منذ العام 1967، وخاصةً بعد تولّي حركة الليكود الحكم في العام 1977، هو احتلال يستنزف إسرائيل من أجل الاستيطان في الضفّة وغزّة، وأن ممارسات الاحتلال تمس بالقيم الديمقراطية المتنورة لإسرائيل، والأهم من كل هذا: أن تأبيد هذا الاحتلال سيؤدّي إلى تفوّق ديمغرافي عربي بين النهر والبحر، وبالتالي خسارة الأغلبيّة اليهودية وانهيار مشروع دولة اليهود.

ليس تاريخاً فحسب

تستمر هذه الروابط الاجتماعية والسياسية حتّى يومنا هذا. المؤسسات الحقوقية الإسرائيلية تربطها علاقات في ميدان السياسة، تشارك في الحياة البرلمانية، لها إعلام يمثّلها وتعتبره بيتاً لها، حاضرة ولها قوّتها في الأكاديميا وامتلكت حتّى سنوات قليلة سابقة قوةً ما في المحكمة العليا. ولها مؤسسات تقود شبكة مجتمع مدني، مثل "صندوق إسرائيل الجديد" الذي أسسه يهود ليبراليّون من الولايات المتّحدة عام 1979 (أي بعد عامين من خسارة "ماباي" للحكم لصالح الليكود) بهدف ضخ أموال التبرّعات إلى جمعيات تمثّل هذا الطيف السياسي. ولا يزال الصندوق، حتّى اليوم، يمارس دوراً أساسياً في تمويل المؤسسات وتوجيه خطابها السياسي. وهو جزء من صورة هائلة أكبر، هي صورة دعم اليهود الصهاينة الأمريكيين – ومعظمهم ينتمون للتيار الليبرالي - لهذه المؤسسات من خلال مجموعات ضغط مؤثرة (J Street مثلاً) ومصادر تمويل هائلة.

لا يتطلّب دحض ادعاء "بتسيلم" أكثر من سطور قليلة، أو ربّما كلمة من ستة حروف: النّكبة... لكنّها كلمة تغيب تماماً عن قاموس المنظّمات الحقوقية الإسرائيلية التي تنتمي الى قاعدة اجتماعيّة صنعتْ النكبة واغتنتْ منها.

"بتسيلم"، ومعها مؤسسات حقوقية إسرائيلية كثيرة، جزء من هذا التيّار الذي يرى أن حفظ حقوق الإنسان للفلسطينيين ليس مجرد قيمة سامية قائمة بحد ذاتها، إنما هو وسيلة لتعزيز وضعيّة إسرائيل وحفظ أمنها ووجودها كدولة يهودية "ديمقراطية". بكلمات أخرى، أن تأمين حقوق الفلسطينيين في أراضي 1967، وإعطاء الحقوق المدنية لفلسطينيي الداخل، هي الطريق الأسلم لحفظ الاستعمار الاستيطاني واستقراره. وقد عبّرت جمعيات حقوقية كثيرة عن مواقف مشابهة. منها، مثلاً، معارضة تشديد الحصار على قطاع غزّة لأنّ "الجيش الإسرائيلي والمخابرات أوصوا بتحسين الأوضاع الاقتصادية لأهالي غزّة درءاً للتصعيد". أو الاستشهاد بتوصية الشاباك لمعارضة حظر حزب فلسطيني ما في الداخل حتّى لا تتّجه كوادره للتطرّف. ومثال آخر هو الموقف المناهض للإعدامات الميدانيّة التي نفّذها جيش الاحتلال باعتبارها تتناقض مع "أخلاقيّات جيش". وغيرها من النُسَخ التي تعتقد أن استمرار احتلال الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة يؤدّي إلى تشويه وتخريب إسرائيل كمشروع ديمقراطي متنوّر في المنطقة.

يجدر فهم موقف "بتسيلم" الجديد إذاً ضمن هذا الإطار الأيديولوجي. فموقفها لا يغيّر قناعةً اتجاه الجوهر العنصري الاستعماري لإسرائيل، إنما يصعّد في معركة إسرائيلية داخلية ضد حكومة نتنياهو، وذلك بعد أن آلت الأوضاع الداخلية في إسرائيل إلى أفقٍ مسدودٍ تماماً بالنسبة لهذا التيار، وتبدو معدومةً إمكانيّات تبدّل الحكم والقرار السياسي بشأن الاحتلال.

استدراك بالبنط العريض

في بيان "بتسيلم" الذي تبنّت فيه إطار "الأبرتهايد"، نجد في العناوين المبْرزة بالبنط العريض استدراكاً واحداً لتعريفها إسرائيل كنظام فصل عنصري. استدراك سقط من معظم التغطيات الصحافية والنقاشات. تقول المنظّمة عمّا تراه "نظام أبرتهايد": "لم يولد هذا النظام في يومٍ واحدٍ، ولم يتشكّل في خطابٍ واحدٍ. إنما نتج عن سيرورة تدريجيّة تأسست واتّضحت مع الوقت".

بحسب معلوماتنا المتواضعة، قام الاستعمار الصهيوني لفلسطين على مبدأ عنصري هو "إقامة دولة اليهود". وأقام كيانه السياسي على المجازر، والطرد، وهدم مئات القرى والبلدات عام 1948. وأقيمت منظومة قانونيّة متشعّبة لسرقة أملاك الفلسطينيين بعشرات المسوّغات، بدايةً من قانون "أملاك الغائبين" (1950)، وسائر قوانين مصادرة الأراضي التي سُنّت في العقد الأوّل لتأسيس الكيان... وكلّها تثبت أن النظام العنصري القمعي في إسرائيل لم ينشأ "مع الوقت" ولم "يتشكل تدريجياً". كذلك هذا ما يُثبته الحُكم العسكري الذي طُبّق منذ النكبة، أولاً على فلسطينيي الداخل حتّى منتصف السبعينيات من القرن الماضي فعلياً، حيث حُبس أهل الجليل والمثلث والنقب في معازل يخرجون منها بتصاريح عسكرية.. وأضيف لها في العام 1967 الحكم العسكري على القدس، وعلى الضفّة وغزّة، حيث لا يزال مستمراً حتّى اليوم. هذا غير القمع الوحشي للعمل السياسي، وسياسات التجنيس الحصرية لليهود (قانون "عودة" اليهود، وقانون "المواطنة") – وهما عاملان جوهريّان في تأسيس إسرائيل.

يتناسى النقاش أنّ منظمات يهودية في العالم، وحتّى داخل الأراضي المحتلّة، تعمل منذ سنوات طويلة دون أن تلقى الاحتضان الدولي ذاته، ومنها على سبيل المثال "أصوات يهودية من أجل السلام" أو "زوخروت". وهي منظّمات تخوض علناً وبشجاعة في مناهضة الصهيونية، وفي توثيق التطهير العرقي الذي جرى في العام 1948 وما تلاه.

ترفض "بتسيلم" الانخراط في التعريف الفلسطيني لنظام إسرائيل، أو اعتبار إسرائيل "استعماراً استيطانياً يمارس الأبرتهايد" كما تعتبرها المنظّمات الفلسطينية. وهو تعريف يعني أنّ الفصل العنصري ليس نظاماً قائماً من منطلقات عنصرية قائمة بحد ذاتها، إنما هو أداة لتأبيد الوجود الاستعماري والاستيطاني.

لا يتطلّب دحض ادعاء "بتسيلم" أكثر من سطور قليلة، أو ربّما كلمة من ستة حروف: النّكبة... لكنّها كلمة تغيب تماماً عن قاموس المنظّمات الحقوقية الإسرائيلية. فهي تنتمي الى قاعدة اجتماعيّة صنعت النكبة واغتنت منها. ويُمكننا أن نجد ما لا نهاية من الاحاديث عن أفظع الجرائم المرتكبة بعد العام 1967... إلا أن العودة إلى ما قبل ذلك ستبقى دائماً محرّمة. فهي كلمة تهز أسس هذا التيار، الاجتماعية والاقتصادية. النكبة وما يرتبط بها من حق تاريخي بعودة اللاجئين، وجرائم التطهير العرقي، وحق جميع الفلسطينيين أينما كانوا بمصير سياسي واحد – كلّها عوامل تقوِّض أركان هذا التيّار.

الموقف من الصهيونية، لا الهوية اليهودية

يُشتمّ من نقاش "بتسيلم"، في أحيانٍ كثيرة، سياسة هويات مشغولة في سباقٍ إثني على الموارد الحقوقية أو الأكاديمية. وادعاءات مثل أنّ "اليهودية البيضاء" للمؤسسات تجعلها مسموعةً ومؤثِّرة. ويتناسى هذا النقاش أنّ منظمات يهودية في العالم وحتّى داخل الأراضي المحتلّة، تعمل منذ سنوات طويلة دون أن تلقى الاحتضان الدولي ذاته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر "أصوات يهودية من أجل السلام" أو "زوخروت". وهي منظّمات تخوض علناً وبشجاعة في مناهضة الصهيونية وفي توثيق التطهير العرقي الذي جرى في العام 1948 وما تلاه.

إذاً، فإن المقوّمات التي تُعطي لمنظمة "بتسيلم" امتيازاتها في ميدان حقوق الإنسان غير العادل، ليست يهودية القائمين عليها ولا حتى كونهم يعرّفون أنفسهم إسرائيليون – إنما لأنّهم ملتزمون بمبادئ صهيونية استعمارية، وينتمون إلى تيّار من داخلها. هذا التيّار، وإنْ أصبح هامشياً في إسرائيل، لا زال يمتلك دعماً كبيراً من صهاينة الولايات المتّحدة، حيث تتركّز شبكة واسعة من الصناديق والمؤسسات وجماعات الضغط الداعمة لإسرائيل، صاحبة التأثير الشديد في الحزب الديمقراطي (على أساس أنّها تمثّل يهود الولايات المتّحدة، ومنهم أكثر من 75 في المئة يدعمون الديمقراطيين). ويُضاف على هذا انتماء أكثر من ثلث يهود الولايات المتّحدة لليهودية الإصلاحية (وهو الثلث الأقوى طبقياً)، التي تتصادم مراراً مع التيار الديني الاستيطاني في إسرائيل على الهوية العلمانية لإسرائيل. وبالتالي، تُضخ أموال طائلة من الولايات المتّحدة لدعم المؤسسات الإسرائيلية "العلمانية" - و"اليسارية" - في الصراع على هوية إسرائيل "المتنوّرة". ولعل المثال الأبرز هو ملايين الدولارات المرسلة من يهود أمريكا في دورات الانتخابات البرلمانية في إسرائيل بهدف إسقاط حكومة نتنياهو.

تُستنسخ في ميدان حقوق الإنسان علاقة القوّة الاستعمارية والهيمنة بين الإسرائيلي والفلسطيني. لكنّها تختبئ وراء الكواليس الناصعة: من جهة، مؤسسات إسرائيلية ذات بنية اجتماعية وأيديولوجية متماسكة تعمل لما تراه مصلحتها من خلال أدوات حقوق الإنسان، وتلتقي مع المقبول في السياسة الأمريكية والأوروبية، ومن جهة أخرى مؤسسات فلسطينية تعمل دون مشروعٍ سياسي، وتحمل معها التمزّق السياسي نفسه الذي تقاومه.

ارتباط المؤسسات الحقوقيّة الإسرائيليّة بهذا التيّار يفسّر رفض منظّمة مثل "بتسيلم" الانخراط بالتعريف الفلسطيني لنظام إسرائيل، أو اعتبار إسرائيل "استعماراً استيطانياً يمارس الأبرتهايد" كما تعتبرها المنظّمات الفلسطينيّة. وهو تعريف يعني أنّ الفصل العنصري ليس نظاماً قائماً من منطلقات عنصرية قائمة بحد ذاتها، إنما هو أداة لتأبيد الوجود الاستعماري والاستيطاني.

مهما تنازلت المنظّمات الفلسطينية وتهاونت، يصعب التخيّل أنّها ذاهبة إلى التسليم بمثل هذه المبادئ الصهيونية. بالتالي، فإن علاقة القوّة الاستعمارية ذاتها، علاقة الهيمنة السياسية، الموجودة بين الإسرائيلي والفلسطيني في كل فلسطين، تُستنسخ أيضاً في ميدان حقوق الإنسان. لكنّها تختبئ وراء الكواليس الناصعة: من جهة، مؤسسات إسرائيلية ذات بنية اجتماعية وأيديولوجية متماسكة تعمل لما تراه مصلحتها من خلال أدوات حقوق الإنسان، وتلتقي مع المقبول في السياسة الأمريكية والأوروبية، ومن جهة أخرى مؤسسات فلسطينية تعمل دون مشروعٍ سياسي من أي نوع، وتحمل معها التمزّق السياسي نفسه الذي تقاومه. هكذا، تصبح كلمة المنظمة الاسرائيلية، تحليلها السياسي والقانوني، أكثر اعتماداً وهيمنةً، ليس بفضل صحّته التاريخية ولا بفضل دقّته المعرفية.

لئلا تصبح "بتسيلم" مهربنا من مواجهة أنفسنا

في بورصة "حقوق الإنسان"، وفي ظل هجوم إسرائيلي عنيف ومتواصل على هذا الميدان، واتهامه بمعاداة السامية ودعم الإرهاب، تفضِّل الصناديق الأمريكية والأوروبية الاستثمار بالخيارات الأقل خطراً: بمن لا يعلنون مناهضة الصهيونية، بمن يتحدّثون عن مصالح إسرائيل أيضاً، ومن يرفضون الـBDS جملةً وتفصيلاً (التي، على سبيل المثال، شنّ عليها "صندوق إسرائيل الجديد" الذي يموّل "بتسيلم" ومنظّمات أخرى منها لفلسطنيي الداخل، هجمةً شرسةً لنزع شرعيّتها في العالم).

المنظّمات الحقوقية الإسرائيلية ليست فحسب مدركةً لهذا الامتياز، إنما تستغله حتّى آخر قطرة، بأسلوبين: أولاً بأنّها تميّز نفسها عن المنظّمات الفلسطينية، لما في ذلك من مكسبٍ مادي وشرعيّة تأثير. وثانياً، وهذا الأهم، أن هذه المؤسسات فرضت في عدّة حالات أطر قانونية وخطابات حقوقية على مجتمعات فلسطينية مستضعفة، وهي أطر قانونيّة تحمل أبعاداً سياسية خطيرة، تشرذم وتجزّئ الشعب الفلسطيني وحقوقه. وتمضي المؤسسات الإسرائيلية قدما في هذه المشاريع بتجاهل تام، واستعلاءٍ مقزز، للأصوات الحقوقية الفلسطينية التي تطالب بالعدول عن هذه الأطر. ولعل المثال الأبرز مؤخراً هو سعي حقوقيّون إسرائيليون للاعتراف الدولي ببدو النقب كـ"شعب أصلاني" بناءً على مقومات فلكلورية و"نمط حياة" قديم.

هذه هي المنظّمات الحقوقية الإسرائيلية. وهي لم تكذب أبداً في استعراض نفسها ومبادئها، ولا مساحة للصدمة هنا. غضب النشطاء الحقوقيين الفلسطينيين إثر بيان "بتسيلم" مفهوم تماماً – هذا غضب أشخاص يعملون في ميدان ما، يفترضون أنّه عادل وموضوعي وقانوني، لكنّهم يواجهون فيه إجحافاً وتمييزاً. ولكن الحقيقة أن الصدمة من القضيّة تعبّر عن ثقةٍ ما قد خابت، ثقة "مجهولة المصدر" بمنظّمات إسرائيلية واضحة في انتمائها وتوجّهاتها، وبميدان أممي لم يفلح ولو لمرةٍ واحدة بأن يحقق إنجازاً ملموساً للفلسطينيين. المسألة عندنا نحن، في غياب مشروعنا ورؤيتنا الوطنية، التي يُفترض أن يُشكل الجانب الحقوقي ذراعاً فيها لا أكثر. في سياق رؤيا تحررية جامعة فقط، يُمكن للعمل الحقوقي أن يحسّن واقع الإنسان الفلسطيني ويحفظ حقّة. وهكذا فقط نستطيع أن نُدرك الفجوة الهائلة التي يصعب ردمها بيننا وبينا المنظّمات الإسرائيلية.

مقالات من فلسطين

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...