كيف لهذا الذي بدأ بـ"قالوا لي يلا ع الجنة، قلت لهم الجنة بلادي" أن ينتهي إلى "المعركة المرّا دي مش هيّنة. المعركة غايمة. غربال ورا غربال. وفـ صفنّا الجنرال. المعركة مرعبة". وهل انتهى عن حق، أم إن قوله "إحنا، مش أنا في المعمعة والضرب"، لا يزال حاضراً وقادراً على شق الدرب؟
أغلب الظن أن صوت غنائنا الثوري لا يزال حيّاً ومبحوحاً كما كان منذ اللحظة الأولى. وعلى الرغم من وهج الفرح والحلم، فنحن المنكسرين - لا المهزومين - ما زلنا، شئنا أم أبينا، أبناءَ قبيلة "فلان الفلاني" كما كتبها "مصطفى إبراهيم" وغناها "مصطفى أمين"، وقالا فيها كيف ننادي على بعضنا البعض داخل الميدان، ومنه انطلقنا مع أنغام عود فرقة "اسكندريلا" وغيرها، نردد ما تربينا عليه من شعر نجم وألحان إمام، ونحفظ كلمات جديدة، فنردد مع "أحمد حداد" قولاً و"حازم شاهين" لحناً: "هات لي يا بكرة صفحة جديدة حط لي مصر في جملة مفيدة"، بينما ترتجل "سامية جاهين" وتهتف بمنتصف الأغنية: "الشعب يريد الورد في البساتين.. الورد يريد الشعب في الميادين".
لكننا رغماً عنّا رحلنا، وما جرى على الفكرة انسحب على الكلمة، فتشتت أصوات "يناير" الشاعرة والغنائية، بعثرتها رياح التفكيك. فأين هم الآن؟ كيف اختاروا إدارة اللحظة؟ وما الذي تبقى.. شاهداً كان أم شهيداً؟
الحرف
سنوات عشْر غزلها الحرف، فهذا الذي بدأ جميلاً منغمساً بوطنية رومانسية مفرطة، تطورت أحواله سريعاً، وتداخلت به الأحاسيس المربكة، فتمكَّن أصحابه حيناً من تخليد لحظات الغضب والخوف، وأحياناً أخرى حصدت أوراقَهم آلاتُ اليأس والقهر والمحو، فصمتوا. لكن الأمر أبداً لم يخلُ، فيعود أحدهم بين الحين والآخر ليكتب من جديد، حتى ولو جاءت كتابته غالباً على شكل سؤال حول أسباب الوجود.
يمكننا استعراض سير الحياة الشخصية لهؤلاء الشعراء الشباب عبر تلك السنوات المرهقة الطويلة، ولكن يمكننا أيضاً استخدام خاصية القص واللصق، فتعطي اللقطات المتقطعة من كتابةِ كل منهم صورةً لحياة واحدة متسلسلة، تربط بين مصائرهم ومصائر الملايين ممن اختاروا يوماً الطريق نفسها، واعتادت أعينهم ـ بعد تفرقهم ـ قراءة الشعر نفسه، أو إغماضها وهم يسترجعونها شفاهةً.
أغلب الظن أن صوت غنائنا الثوري لا يزال حيّاً ومبحوحاً كما كان منذ اللحظة الأولى. وعلى الرغم من وهج الفرح والحلم، فنحن المنكسرين - لا المهزومين - ما زلنا، شئنا أم أبينا، أبناءَ قبيلة "فلان الفلاني" كما كتبها "مصطفى إبراهيم" وغناها "مصطفى أمين"، وقالا فيها كيف ننادي على بعضنا البعض داخل الميدان.
فها هو الشاب "عزيز الشافعي" يجلس في قلب الميدان عقب جمعة الغضب وسقوط الشهداء، وكأن روحه استدعت موال "محمد طه" وهو يقول: "كنت في قلب الميدان تحت السما الزرقا.. جابت عِينيا الغيطان والترعة والزرعة". سافر الشاب عبر المكان والزمان حتى حدود قرية مصرية ما زالت تطوف فيها أرواح أطفال "مذبحة بحر البقر" التي نفذها العدو الصهيوني في السبعينيات الفائتة، كانوا يغنون: "يا بلادي يا بلادي أنا بحبك يا بلادي"، عاد منها ليكمل على ألحان الموسيقار "بليغ حمدي" والشاب "رامي جمال": "في جسمي نار ورصاص وحديد، علمك في إيدي واسمي شهيد، بودع الدنيا وشايفك يا مصر حلوة ولابسة جديد".
غير أن الأيام سريعاً ما تبدلت، وفوق سطور شعر العامية تجسدت بدواوين "مصطفى إبراهيم" و"محمود عزت" و"أحمد حداد" وغيرهم.
يحكي "مصطفى" في حوار صحافي عن قصة حياته الشخصية المربكة، هذه السيرة التي عاني فيها من مآسٍ، وصدمات شخصية، وأسرية صعبة، ذهبت به إلى المحاولة الأولى للهجرة قبل الثورة، لكنه عاد وأصدر ديوانه الأول "في ويسترن يونيون" عشية "25 يناير"، ومنها إلى ديوانه الثاني "مانيفستو" على أصداء عامها الأول، وبعد 7 سنوات ذهب لمحاولته الثانية للهجرة، ومن جديد عاد وأصدر ديوانه الثالث "الزمن".
ما بين الهمس والمدافع
21-01-2015
تنظر لمسيرته الأولى، ولا تستغرب كيف بدأها بهذه المقولة العجيبة، الباهرة والمقبضة: "أنا شعري غامق بس قلبي مطقطق أبيض من زمان"، كيف استطاع أن يجسد مشاعر جيلٍ كامل، ذهب إلى الميدان ـ بعد كتابة كلمته بأيام ـ وهناك خلقوا انتفاضةً تَوقف أمامها العالم، ثم غادرتهم كل المعاني، وعادوا إلى بيوتهم كأنهم لم ينزلوا إلا إلى سوبرماركت لشراء بعض البسكويت والسجائر.
من العودة للشعر إلى التوجه للسينما، كانت التجربة العتيدة لـ"أحمد حداد" ابن "أمين" وحفيد "فؤاد"، القادم من سلسال الشعر، أكسبته تجارب العائلة الجميلة والمرّة معاً صلادةً خاصة، كَتبت له دائماً المحاولة والاستمرار.
تتجلى الإجابة حين انفّضت الشوارع من كل جمع، وأصبحت البطولة الوحيدة هي: "ماشي فـ شارعهم المليان تراب، ماشي بس الزمن هوّ اللي ما بيمشيش، ما عملش حاجة تستحق الذكر غير إنه واقف لسه على رجليه".
غلّف الصمت أيضاً "محمود عزت" لما يقارب 7 سنوات. وقف مثل الجميع مكانه، ثم عاد وبعنوان مشابه كثيراً "زمني وزمن غيري"، ليحكي عن جيل يؤرقه الحضور والغياب، ليس فقط غياب الأحباب، ولكن غياب الذات عن مشاهد تدور من حوله وتصوغ أيامه، وهو لا يملك معها إلا أن يسأل كيف ولماذا؟ وهكذا من جديد ـ وعبر الفصحى ـ أعادنا لـ"صلاة الخوف" التي سبق ورددها الملايين خلفه في صيف 2013 الكئيب: "ووقفنا زيّ الجثث.. باصّين على المدبحة.. الدم على صدرنا.. بننتصر؟ ولّا فـِ طابور الدبح؟ هل دا سؤال العار.. ولّا السكوت أقبح؟ ننزل نلمّ الغنايم.. ولّا نعدّ الجثث؟ خلاص.. فتحنا الطريق؟ ولّا الطريق اتهدم؟ الشهدا أخدوا القصاص؟ ولا بكوا مِ الألم؟ المجد للقنّاص؟ ولّا اللي مخّه اتقسم؟".
ومن العودة للشعر إلى التوجه للسينما، كانت التجربة العتيدة لـ"أحمد حداد" ابن "أمين" وحفيد "فؤاد"، القادم من سلسال الشعر، أكسبته تجارب العائلة الجميلة والمرّة معاً صلادةً خاصة، كَتبت له دائماً المحاولة والاستمرار. فهذا الذي أطلق ديوانه الأول عام 2000، وهو لا يزال ابن الخمسة عشر ربيعاً، بعنوان "الورد اللى فتح"، استطاع أن يستمر حتى يكتب في 2014 ديوانه الثالث بعنوان "بطلوع الروح"، قال ما يريد فيه، وأعطى لصوت النساء أولويةً، ليعود ويدافع عن كل قناعاته من جديد: "في القاهرة بالليل.. طلعوا اللي طلعوا من الجحور.. تاهوا الأحبة فِـ إشارات المرور.. سكنوا العشش.. حتى العشش غالية.. سكنوا السماسرة في الفلل والقصور. في القاهرة فتارين فيها فساتين غالية والبنات مساكين".
اللحن
ومن الحرف للحن، تتوالى الأسماء الملهِمة، والنهاية شبه واحدة. فبينما سافر عدد من أعضاء فرقة "اسكندريلا" خارج مصر، وتوقفت الأغنيات قبل ما يقارب الـ 5 سنوات، بقى عود مؤسس الفرقة "حازم شاهين" حاضراً قدر ما استطاع. لم يتغنَّ من جديد بكلمات "آل حداد" لكنه ذهب هذه المرة صوب صوت الانتفاضة، فغنى "بغداد" في 2019 على وقع الاحتجاجات.
أما فرقة "كايروكي" فقد وضعت علامتها الأولى ثورياً "يالميدان" مع المطربة عايدة الأيوبي، ثم محاولة إطلاق صيحة الإنذار مع "اثبت مكانك هنا عنوانك" إبّان أحداث "محمد محمود". ثم خرجوا مع من خرجوا من الميدان، وقبل المغادرة سجل أفرادها في 2014 علامتهم الثورية الثالثة ــ ولعلها ليست الأخيرة ــ "السكة شمال".
توقف من بعدها غناؤهم بهذا الشكل، خوفاً أو يأساً، لكنهم لا يزالون يحاولون الاستمرار، ومعهم عشرات الأسماء الأخرى المميزة، منها "مسار إجباري" وغيرها ممن أصبح يشغلهم الهمُّ والفكر الإنساني العام بعيداً عن الانشغال المباشر بالثورة. وبعضهم - كما فعلت "كايروكي" مؤخراً - توجه لتجربة الغناء ذي النكهة الشعبية الشبابية الجديدة.
وفي باب الغناء الفردي، تعمل بعض الأسماء على استكمال مشروعها الخاص، فبعد أن غنى "محمد محسن" قصيدة "مصطفى إبراهيم "بندعيلكم" المهداة لأرواح الشهداء، ذهب لاستكمال ملامح حلمه الفني غناءً ومسرحاً، ثم عاد ليعلن عن شغفه من جديد، فاختار هذه المرة أن يردد على طريقته الخاصة النشيد الوطني القديم "اسلمي يا مصر".
ومن الحرف للحن، تتوالى الأسماء الملهِمة، والنهاية شبه واحدة. فبينما سافر عدد من أعضاء فرقة "اسكندريلا" خارج مصر، وتوقفت الأغنيات قبل ما يقارب الـ 5 سنوات، بقى عود مؤسس الفرقة "حازم شاهين" حاضراً قدر ما استطاع. ذهب هذه المرة صوب صوت الانتفاضة، فغنى "بغداد" في 2019 على وقع الاحتجاجات.
أما "البنات"، فهذا الحضور الطاغي في الفرق الغنائية المتعددة قبيل الثورة وبالسنوات الأولى لها، خفُت تماماً بالسنوات السبع الأخيرة، ولعل آخر مؤشرات الحضور كان مع صوت "فيروز كراوية" في 2013، وشعر أحمد حداد، وألحان شريف الوسيمي، وهي تغني "ولا شيء يعكر مزاج سيادتي.. عايشة الحياة وبحب وقتي.. بضحك في وش الدنيا والغاز اشمه كولونيا.. دي النار بتبرد في يونيو ولهيبها في يناير يأتي". أما "سلمى صباحي" التي غنت بشكل حماسي في 2011 "الله حي، شعبنا حي، وسع سكة لبكرة الجاي" فغنت في 2014، بعد خسارة والدها، المرشح للانتخابات الرئاسية، من كلمات "أحمد شلبي" وألحانه "الله في عون الحالمين".
القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/1)
25-01-2021
تفحص لبعض ملامح "يناير 2011"
22-01-2021
أسماء أخرى حضرت، لكن لأنها تحاول هذه المرة من خارج مصر، ولا تملك العودة، فلعل أكثرها حضوراً ـ بتجربته الفنية المميزة ـ هو "حمزة نمرة"، الذي استطاع أن يقدم الساخر والحزين، وأن يحاول الحديث بصوت مَن هم مثله على "الطريق الثالث"، وليسوا مع هؤلاء، أو هؤلاء. رثا حالهم، وغنى عن "الحزن المكشوف" وقال: "والركاب مقسومة نصين واحنا بينهم لايصين، ناس بتطبله وبتشجع، وناس بتدعي الاتوبيس يولع.. شيكايو يا شيايو سواقنا ده مفيش زيه".
الروح
كانت نهايات 2013 وأوائل 2014، هي بداية التوقف لأغلب تلك التجارب الشاعرة والغنائية. وبذاك التوقيت، وفي ليلة من ليالي "يناير" قام المذيع الساخر "باسم يوسف" بإظلام المسرح، وأعطى مقدمة طويلة عن تجربة ما يقارب مئة فتاة وشاب، جمعتهم المحاولة كهواة يعشقون الفن. نعم، لكنهم أكثر منه يحبون تفجير اللغم، وقال "فلتسمعوهم الآن قبل أن يتراصوا داخل سيارات الشرطة". أضاءت الأنوار، وغنى "مشروع كورال" أغنيته الساخرة: "بيقولوا الريس قاعد"، التي خرجت للنور لأول مرة مع الخطاب الثاني للرئيس المخلوع مبارك ومحاولته البقاء بالحكم.
عادوا جميعاً إلى منازلهم، لكنهم لم يغنوا مرةً أخرى، وشاءت الأقدار لأغنيتهم أن تنتشر من جديد، وتسري في كل مكان، مع الإعلان عن الاستفتاء حول تعديلات دستورية في العام 2019، تسمح ببقاء رئيس الجمهورية الحالي عبدالفتاح السيسي حتى العام 2030. عندها عاد صوتهم من جديد، وتلاقت الوجوه.
توقف غناء فرقة "كايروكي"، خوفاً أو يأساً، لكنهم لا يزالون يحاولون الاستمرار، ومعهم عشرات الأسماء الأخرى المميزة، منها "مسار إجباري"، وغيرها ممن أصبح يشغلهم الهمُّ والفكر الإنساني العام بعيداً عن الانشغال المباشر بالثورة. وبعضهم - كما فعلت "كايروكي" مؤخراً - توجه لتجربة الغناء ذي النكهة الشعبية الشبابية الجديدة.
وجوه فتيان وفتيات، منهم من تزوج، ومنهم من هاجر، ومنهم من غيبته الزنازين، ومنهم من لن تسمح له الحياة بفرصة أخرى، كوجه "شادي حبش" الذي دفع عمره بعد أن تجرع الكحول العام الماضي داخل السجن، بعد مرور سنتين على حبسه احتياطياً بسبب تجرّئه على إخراج "فيديو كليب" ينتقد رأس السلطة في العام 2017 .
..
الصوت المبحوح لا يزال شاباً، لكنه حزينٌ بل شديد الحزن، اختلطت داخله حدود الغضب واليأس، ولا يتجرأ أصحابه على بيع كتابةٍ تنحاز للأمل.
ولعل هذا ما دفع الأب الذي كتب من خندقهم نفسه، أن يكمل عنهم متحلياً بخبرات السنوات وأوجاعها، فكتب "أمين حداد" ابن الثورة وجيل الخمسينيات:
وبتفتيش الرسام
وُجد إن معاه رسومات
وبتفتيش الرسومات
اتضح إنها مرسومة بخفّة دم
وبتفتيش الدم
اتضح إن النبض سليم
وإن اللون الأحمر له معنى
وبتفتيش المعنى
اتضح إنه مخبّي الحلم
وبتفتيش الحلم
اتضح إنه حيتحقق
وإن الوقت وشيك
وبتفتيش المبنى
وُجد أنه مليان شبابيك
بتطل على المستقبل