"فشل أخلاقي كارثي": فشل جديد، ولن يكون الأخير!

ظنَّ البعض أن حجم كارثة كوفيد سيوقظ الضمائر والعقول، وسيمهد لتغيير في النظام الاجتماعي، تغيير لا تحْكمه هذه المرة اعتبارات تحقيق العظمة أو الغلبة، ولا حتى الأمل بتحسين شروط الحياة، ولا تصوغه المبادئ والقيم والأفكار العظيمة أو المجنونة، وإنما الأنانية نفسها: حتى لا نفنى! ولكن، لا يبدو ذلك توقعاً صحيحاً.
2021-01-22

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
أحمد السوداني - العراق

منذ أيام، حذّر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية من أن طريقة تعامل الدول الغنية مع لقاحات كوفيد ستنبئ عن فشل أخلاقي كارثي للعالم. فهناك من يشتري من المصنّعين مباشرة، ويدفع "كاش"، ويُحبط محاولات منظمة "كوفاكس" المنشأةِ لغاية تنظيم الأمر بشيء من العدالة. هناك من عنده فائضٌ من الفلوس، فيستحوذ على أربعة أضعاف ما يحتاجه من اللقاحات – كندا والولايات المتحدة خصوصاً - وهناك من ليس لديه فلوس، فلا يحصل على لقاحات... يقول الرجل إن غينيا - البلد الأفريقي الفقير - حصلت على 25 لقاحاً روسياً (25 وحدة، وليس خمسٌ وعشرون ألفاً، أو 25 مليوناً، كما أصرَّ الرجل على التوضيح)، ووزعتها على المسؤولين، بمن فيهم رئيسُ البلاد، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

وهناك إسرائيل التي تتبجح. ويبدو أن بنيامين نتنياهو يعتبرُ مُنْجَزَ تلقيحِ 23 في المئة من مواطنيه بسرعة هائلة (احتلت المرتبة الأولى عالمياً)، بطاقةَ مرور في الانتخابات المقبلة الوشيكة، تمحو فضائحَه، وربما الإدانات التي تنتظره في المحاكم. ولكن، والأهم من نتنياهو بالطبع، ما يتوارى خلف النبأ: إسرائيلُ لا تلقّح من تستعمرهم. نصف سكان البلاد الحاليين، وهم أهلها الأصليون، محرومون من اللقاح، وإسرائيل لا ترى أنها ملزمةٌ بهم. وقد لزم إقرار تلقيح السجناء الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية أن يصبح ذلك فضيحةً حقيقية، ومعركة عالمية.

ولكن مقاربة الأمر من زاوية تقنية أريحُ بكثير! و"أنظف". إسرائيلُ تنسّق مع مختبرات "فايزر" وترسل لهم تقاريراً أسبوعية عن الموضوع "مما يساعد تطور الأبحاث" بحسب المختبر، باعتبار نسبة التلقيح عالية فيها. "إسرائيلُ مختبر اللقاح" على ما قيل. ليس فايزر هو المعني بدلالات هذا الكلام، ولا يُلام على حماسته للاتفاق (الذي بقي سرياً في عدة بنود منه، ووُقّع أصلاً بخلاف الأصول، وأُفرج عن بعض معطياته مؤخراً)، وإنما تُسأل وسائل الإعلام التي تطبّل له. النازيون كذلك طوروا الكثير من جوانب الطب في تجاربهم على الأسرى، وعلى الذين أبادوهم في معسكرات الاعتقال لديهم!

تقول منظمة الصحة العالمية إن الدول الغنية ستتسبب بديمومة الكارثة، وأنها ستُلحق أذى كبيراً بالشعوب الفقيرة، وأن التسابق على حجز اللقاحات، واستخدام أساليب في التجاوز لتحقيق ذلك، سيجعل نيل بعض الشعوب لها يتأخر حتى 2023، وستصبح قليلة الفائدة... مع أن منظمتها المختصة، "كوفاكس"، تحتاج إلى 6 مليار دولار لتوفّرَ اللقاح الآن لمن لا يقدر عليه. مبلغٌ "تافه" يمكن لشخص واحد بالغ الثراء التبرع به. وعوضاً عن ذلك تتسابق عمداً الدولُ الغنية على حجز الطلبيات، فترفع قيمة العقار في السوق، لتصبح هي وحدها من يمكنها شراؤه، وتمر قبل سواها!

وهذه ليست المرة الأولى. حدث الشيء عينه مع أدوية "الأيدز". أصلاً لم يبدأ الاهتمام بالوباء القاتل طالما بقي محصوراً في أفريقيا التي "ظهر" فيها منذ قرن من الزمن. كان يجب أن يصل إلى نيويورك ولندن بدءاً من ثمانينيات القرن الفائت، ليصبح "خطيراً" ولتشتغل الأبحاث على إيجاد علاجات له، ولترصد لها الميزانيات، فيصبح قابلاً للاحتواء. ما لا يمنع أن هناك 36 مليون إنسان توفوا جراءه، وأن تكاليف علاجه أو احتوائه باهظةٌ، بحيث إنه ما زال يصيب ويقتل في العالم الفقير. وهذا حدث أيضاً مع وباء 1H1N في 2009، الذي لم يقضِ "إلاّ" على 10 آلاف شخص.. ولعل كوفيد هو ابنه غير الشرعي، بينما يبدو ابناً شرعياً لوباء الإيبولا القاتل، والمنتشر هو الآخر في أفريقيا، والذي وصل في 2020 إلى نسخته العاشرة. هذه المرة انتشر كوفيد في العالم كله وطال (بنسب غير متساوية بالطبع) كل الشرائح الاجتماعية، ولا يبدو أنه بصدد الانطفاء، على الرغم من الكارثة الصحية والإنسانية والاقتصادية والاجتماعية التي يتسبب بها.

ولو انطفأ كوفيد بقدرة قادر، فالسلطات مستمرة في غيّها، وفي الصراعات الحمقاء بين أطرافها، وفي خدمة المتنفذين الذين يقفون وراءها، وفي الطموحات المجنونة لرموزها، وفي هندسة أفضل السبل لاستمرار ديمومة أنظمتها. والمجتمعات تستبطن هذه النماذج، أو تعيش يوماً بيوم.

.. ظنَّ البعض أن حجم الكارثة سيوقظ الضمائر والعقول، سيقلب المنطق السائد القائم على توفير أعلى ربحية ممكنة لأقل عدد من المتحكمين، داخل كل بلد وعلى مستوى العالم، وسيمهد لتغيير في النظام الاجتماعي، تغيير لا تحكمه – ربما لأول مرة في التاريخ الإنساني - اعتبارات تحقيق الغلبة أو العظمة، ولا حتى الأمل بتحسين شروط الحياة، ولا تصوغه المبادئ والقيم والأفكار العظيمة، أو المجنونة، وإنما الأنانية نفسها: حتى لا نفنى! ولكن، لا يبدو ذلك توقعاً صحيحاً. فعدا التصرفات المشينة بخصوص الكارثة الحالية، هناك تعامٍ تام عن سائر الكوارث التي تطل برأسها، نرى ونلمس مظاهرها، وستنفجر لا محالة. وحينها سيكون من الصعب تماماً مواجهة بعضها، حتى لو صفيت النوايا. ماذا سيفعل البشر بالاحتباس الحراري الذي يتسبب به الاستخفاف بالبيئة؟ بدمار الحياة في المحيطات والغابات؟ ماذا سيفعلون بالكوارث المصاحبة لهذا الاحتباس الحراري، من أعاصيرَ وموجات جفاف يرافقها نزوح الملايين، واندثار نباتات وحيوانات أساسية للتوازن البيئي؟ وهذه ليس لها لقاحاتٌ! وهي بدأت فعلياً، وسيفوت الأوان. ولا يمكن لأحد أن يدعيَّ أنه "لم يعرف".

****

*هذا رابط لفيلم وثائقي جميل للغاية وفي الوقت نفسه دقيق للغاية، للباحث البريطاني الشهير ديفيد أتنبوروه، يقدم فيه لمحة عن الدمار اللاحق ب"كوكبنا"، ووتائر تعاظمه السريع. لمن لديه اشتراك في منصة "نتفليكس".
https://www.netflix.com/watch/80216393

مقالات من العالم

جوليان أسانج حرّ

2024-06-27

فعل أسانج المحظور الأكبر في هذا العالم. كشف اللثام عن أكبر أكاذيب العالم وأكثر أساليب الدول وحشية، وفضح تلك البرودة الفظيعة التي يتمتع بها الجميع خلف الكواليس، وتلك السهولة الرهيبة...

عودة إلى فانون: عن فلسطين وسيكولوجيا الاضطهاد والتحرّر

لا يمكننا التكلم عن فانون دون التطرق لتحليله للعنف وسايكولوجيا الاضطهاد، خصوصاً خلال الحقبة الحالية التي يطبعها الدمار والموت. ماذا كان فانون ليقول عن الإبادة الاستعمارية و"سيل القتل" اللذين يحدثان...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...