أسوان: دولة مفقودة بين أشلاء مجتمع محتقن

أزمة محتقنة منذ سنوات بين النوبيين من قبائل "دابود" وقبيلة بني هلال العربية في أسوان، تجددت مطلع الشهر الجاري بسبب إساءات متبادلة كتبها شباب من الطرفين على الجدران. ما لبث التلاسن أن تطور إلى اشتباكات بالأيدي والعصي، ثم سالت الدماء، فسقط النساء والأطفال، وأحرقت الجثث بعد التمثيل بها، ونهبت حلي النساء ومواشي البيوت، وقطعت الطرق، واختطف الرهائن، وتفرّجت الدولة!<br
2014-04-23

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك
من أسوان (تصوير اسماعيل الإسكندراني)

أزمة محتقنة منذ سنوات بين النوبيين من قبائل "دابود" وقبيلة بني هلال العربية في أسوان، تجددت مطلع الشهر الجاري بسبب إساءات متبادلة كتبها شباب من الطرفين على الجدران. ما لبث التلاسن أن تطور إلى اشتباكات بالأيدي والعصي، ثم سالت الدماء، فسقط النساء والأطفال، وأحرقت الجثث بعد التمثيل بها، ونهبت حلي النساء ومواشي البيوت، وقطعت الطرق، واختطف الرهائن، وتفرّجت الدولة!

خلفية الصراع وجذوره

في أول مدينة جنوبية في أقصى جنوب وادي النيل في مصر، يعيش النوبيون الــمُهجّرون قسراً من بلادهم التي أغرقها بالكامل مشروع بناء السد العالي، مختلطين مع القليل من الأسوانلية الذين بدأ استيطانهم للمدينة قبل بناء السد، وقبائل عربية عدة وعائلات صعيدية وفد معظمها إلى أسوان للعمل في مشروع السد وما فتحه من آفاق غير مسبوقة للتنمية في جنوب مصر. من بين المهاجرين طوعاً من صعيد مصر (شمال أسوان) إلى المدينة أبناء قبيلة بني هلال، أو الهلايلة، الذين أتوا إليها محمّلين بالوصم والازدراء من سائر القبائل العربية المجاورة لهم في كل من الأقصر وقنا وسوهاج. يعود نبذ الهلايلة إلى قرون عدة من الصراع بينهم وبين الممالك الحاكمة لمصر في الدول الإسلامية المتعاقبة، وتعرضوا لتشنيع أخلاقي كمسوّغ للتهميش الاجتماعي شديد القسوة.

للنوبيين مظلمة حضارية وحقوقية تاريخية، يتم استدعاؤها أحياناً لإنتاج خطاب عرقي وجهوي غير مرحِّب بالوافدين إلى أسوان. يتناقض خطاب النوبيين المنتشرين في أرجاء البلاد وخارجها حين يطالبون بمواطنة كاملة متساوية تثبت ببطاقة الهوية مع خطاب البعض منهم الذين يرون أنهم "أصحاب أسوان"، وأن الوافدين إليها درجة ثانية فيها. أما الهلايلة فقد أنتجوا خطاباً عرقياً وطبقياً مضاداً للدفاع عن أنفسهم ضد الحلف غير الرسمي الذي يجمع النوبيين مع الصعايدة وسائر مكونات المجتمع الأسواني، بمن فيه من مسيحيين، المتفقين جميعاً على نبذ الهلايلة ووصمهم.

يرى النوبيون أنفسهم أحفاد حضارة عمرها آلاف السنين، وأن جدّهم "مينا" هو الذي وحّد القطرين المصريين، الشمال والجنوب. فهم السكان الأصليون لجنوب مصر، وأصحاب التضحيات التي لا مثيل لها حيث تم تهجيرهم جميعا قسرياً وإغراق بلادهم كلها في مشروع بناء السد العالي عام 1964، بعد ثلاثة من التهجيرات الصغرى أثناء بناء خزان أسوان 1902، وتعليته الأولى 1912، والثانية 1933. ويرون الهلايلة غوغاء ويسمّونهم "الجمسة" وهي تسمية تطور مدلولها في جنوب مصر ليكون أقرب إلى "الغجر" بالمعنى التنميطي السلبي.
أما الهلايلة فيرون أنفسهم أبناء قبيلة عربية عريقة تمتد من الحجاز في الجزيرة العربية إلى تونس وما حولها في شمال أفريقيا، ويزعمون مصاهرة بين النبي وبين قبيلتهم الأم. ويقولون إن مشكلتهم ليست مع ذوي الأصل العريق من النوبيين وإنما مع المنحدرين من العبيد الذين استُقدموا من الحبشة قديماً ثم خالطوا النوبيين وتمت مساواتهم بهم بعد التهجير الأكبر لبناء السد العالي.

اشتعال الصراع الكامن

يمثل النوبيون مركز أسوان المهمشة من قبل القاهرة، عاصمة القهر. أما الهلايلة فيعيشون على هامش الهامش. لا تخطئ العين الأوضاع العمرانية والتعليمية والاقتصادية المتدهورة لعموم الهلايلة مقارنة بعموم النوبيين أو أي طرف قبلي آخر مقيم في أسوان، على الرغم من تداخل بعض بيوتهم مع بعض بيوت القبائل الأخرى. وتحكي الروايات المحلية أن قطاعات من الهلايلة قد استبدلت السند الاجتماعي بالاحتماء بالسلاح، فصاروا الأقوى والأكثف تسليحاً في مجتمع أسوان، لا سيما بعد الثورة وما أعقبها من انفلات أمني.

منذ عام، اندلع شجار بسبب الخلاف حول أحقية أفراد من الهلايلة في طابور أنابيب الغاز المنزلية. بدأ النوبيون بالسباب والتعالي العرقي، وكان رد الهلايلة – كالمتوقع – أعنف بدنياً، فانتهى العراك بإصابة شابين نوبيين بطلقيْن نارييْن، ورقدت نار الشباب تحت رماد مصالحة الكبار. أحد المصابيْن صار معاقاً جزئياً بشكل دائم، فلم يجد احتقان قريبه متنفساً سوى على جدار بيت نوبي يراه الهلايلة في ذهابهم وإيابهم، فكتب عبارة مسيئة ضدهم في الأول من نيسان/أبريل الجاري. رد الهلايلة بإساءة مماثلة على جدار المدرسة الثانوية الصناعية، حيث اندلعت الاشتباكات.

كان للشرطة أن تتدخل وتحتوي الأزمة مبكراً، لكنها تقاعست ولم تتحرك إلا بعد فوات الأوان، يقول الطرفان. رفضت الشرطة التدخل في المشاجرة المدرسية صباح اليوم التالي لتلك الواقعة، فتفاقمت إلى معركة لم تنفض إلا بقنابل الغاز عند الظهيرة. وحين توترت الأجواء بعد صلاة الجمعة 4 نيسان / أبريل، واحتُجــِز وفد الهلايلة الذي ذهب للمصالحة في جامع دار الضيافة في "دابود"، طلب كبار النوبيين من الشرطة التدخل لإخراج الوفد المحتجز، لكن القوات المرابطة على مداخل الحي اكتفت بموقف المشاهد السلبي.

سفكت دماء امرأة وشابين نوبيين برصاص البنادق الآلية، واختطف الهلايلة شاباً نوبياً ليبادلوه بالأربعة المحتجزين لدى النوبيين. انتهت المراسلات والوساطات بين الأهالي من الطرفين بالاتفاق على التبادل. حينها فقط أشرفت الشرطة على المبادلة ثم عادت إلى موقع المتفرج السلبي. ذهب كبار النوبيين ليدفنوا قتلاهم، واحتشد الشباب مستعينين بمدد من السلاح والرجال من خارج منطقتهم التي لم تعرف حمل السلاح من قبل. ذهبوا بدعوى القصاص فكان الثأر الهمجي سيد الموقف، وطاول القتل امرأة وطفلاً ومعاقاً مع 11 رجلاً آخرين من الهلايلة، وظلت قوات الشرطة في موقعها القريب تستمتع بنسمات الليل العليلة على أصوات زخات الرصاص وصرخات الضحايا. انتهت المذبحة فجراً، فكان انتقام الهلايلة من عائلة تقطن منزلاً وسط بيوتهم في الظهيرة. حرقت امرأتان، إحداهما مسنّة قعيدة، وقتل طفل ورجل بالغ، وكانت الجريمة بأكملها على مرأى من عيون الشرطة ومدرعاتها ومصفحاتها المرابطة على بعد 100 متر. يتبادل الطرفان الاتهامات بأن الشرطة متواطئة مع خصمه، وعلى الرغم من التناقض الظاهري في هذين الاتهامين إلا أن المشترك بينهما هو الشكوى من خذلان الدولة لمواطنيها وهي التي يفترض بها احتكار شرعية العنف: الأمن والحماية.

دولة مهلهلة تائهة

نطقت الدولة أخيراً على لسان المتحدث العسكري الذي وجه الاتهامات إلى جماعة الإخوان المسلمين، ونسجت منابر الإخوان قصتها الخيالية عن انتقام السلطة من مؤيدي "الشرعية". كان المجتمع المحلي مشتعلاً، والعقلاء يحاربون بما استطاعوا سيناريو حرب أهلية محتملا، ذلك لأن امتدادات النوبيين والهلايلة منتشرة على طول وادي النيل حتى الإسكندرية على ساحل البحر المتوسط. طار رئيس الوزراء برفقة وزيرين إلى أسوان، فالتقوا عدداً من النوبيين وآخرين من الهلايلة. اتفقت الآراء من الجانبين أن من التقاهم المسؤولون لا يمثلونهم. انتظر المفجوعون بالأخبار في أرجاء مصر أن تسفر الزيارة عن نتيجة تليق برأس الجهاز التنفيذي للدولة، لكنهم باتوا على نبأ فشل رئيس الوزراء في "عقد صلح" بين القبيلتين.

قطعت الطرق يوم الأحد 6 نيسان/أبريل عن مدد الطرفين بأقاربهم المنتشرين في نواحٍ من المحافظة خارج مدينة أسوان، وقطعت السكك الحديدية، وانتشرت نقاط التفتيش الأهلية في نواحي المدينة، وسقط عدد محدود من القتلى. أتى الشيخ كمال تقادم، الرمز الصوفي والقبلي، ونجحت وساطته في عقد هدنة من 3 أيام ليدفن كل طرف قتلاه.

أوشكت حرب أهلية أن تندلع منذ عامين بين الهلايلة والنقادية، أخلي في استعداداتها النساء والأطفال، ونصبت المدافع فوق أبنية المدارس، واحتشد الطرفان بالسلاح الثقيل والمتفجرات. لم تنته الأزمة إلا بوساطة مشتركة بين السيد الشريف الإدريسي، أكبر مشايخ الصوفية نفوذاً في جنوب مصر، والشيخ أسامة القوصي، أمير الجماعة الإسلامية في أسوان. في الأزمة الراهنة، غاب القوصي عن المشهد لهروبه إلى السودان كمطلوب لدى السلطات المصرية بعد 3 تموز/يوليو 2013، وقطع الإدريسي سفره إلى الكويت ليعود ويستكمل ما بدأه الشيخ تقادم.

خلال الزيارات الميدانية المكثفة واللقاءات المطولة مع أطراف الأزمة، لم يبدُ أن أياً من الناس يكترث لانتشار القوات الخاصة أو غير الخاصة. فالدولة أشبه بكيان وهمي لا يتوقع منه المجتمع في أسوان شيئاً. على الجانب الآخر، توافدت إلى أسوان جموع من ممثلي تحالف القبائل العربية من جنوب مصر وسيناء والصحراء الغربية، ساعية للصلح واحتواء المشكلة قبل أن تتحول إلى كارثة. وقد نجحت جهود الوساطة الشعبية في تمديد فترة الهدنة لمدة طويلة – لم تحدد – ولا يسيطر على الأذهان سوى التفكير في البديل العرفي لما تستلزمه هذه الجرائم من عدالة جنائية ناجزة، صار يقينياً أن الدولة أعجز من أن توفرها، فضلاً عن أن ترغب فيها من الأساس.

ولكن الدولة، رغم عجزها، حاضرة في وعي المجتمع المحلي ووجدانه، عبر الشعور بالافتقاد والافتقار، كما هي قوية الحضور في الخطاب والمطالبات، وإن كان الواقع يخفّض توقعات الناس من تلك الغائبة الحاضرة. ويبدو أن الدولة لا تريد أن تؤدي الدور المنوط بها، متعللة باحترام العرف والتقاليد السائدة. والمفارقة أن رئيس وزرائها قد فشل في عقد صلح يقول المتمرّسون في الوساطات الأهلية إنهم يلجأون إليه لأنهم ليسوا الدولة التي تضطلع بتنفيذ القانون.

مقالات من أسوان

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه