يرفض المسؤولون السودانيون اطلاق صفة التنازع على ما يجري بين السودان وأثيوبيا من توتر في الحدود بين البلدين، وذلك لأن الأمر تم حسمه نهائياً قبل 119 عاماً.
ففي الثامن والعشرين من تشرين الاول / أكتوبر من العام 1902، سلّم المبعوث البريطاني "جون هارينغتون" الى امبراطور أثيوبيا، "منليك"، موافقة بريطانيا، عبر رسالة من الملك أدوارد، على تحديد الحدود بين البلدين. وأصبحت اتفاقية 1902 سارية ونافذة المفعول. وهي تمت على الورق بواسطة الميجور "قوين" الذي قام بالمهمة نيابة عن البلدين وبمعاونة زعماء قبليين من الطرفين. ثم تمّ التأكيد عليها في اتفاقيات متعددة عبر السنين، وأهمها تبادل مذكرتا تفاهم بين البلدين في العام 1972، وقبل ذلك في العام 1963، عند قيام "منظمة الوحدة الافريقية" التي استضافت أديس أبابا مقرها، وتحولت المنظمة فيما بعد الى "الاتحاد الافريقي"، حيث أقر مبدأ تثبيت الحدود الموروث من الفترة الاستعمارية، ولم تقم أثيوبيا بالطعن فيها مطلقاً، وأيضا في العام 2002 عندما أقرت بها أثيوبيا في اجتماع في الجزائر لحسم إشكالات حدودها مع أرتريا.
لكن طوال هذه الفترة، لم يتم تحديث العلامات النهائية أو حتى وضعها، ونَقل ما اتفق عليه فوق الورق على الأرض، وذلك لاسباب متباينة.
وتعود جذور المشكلة الى بدايات الاستعمار البريطاني للسودان أواخر القرن التاسع عشر، إذ طالب امبراطور أثيوبيا وقتها، بريطانيا بأن تعاون بلاده وتقتطع جزءا من أراضي السودان الزراعية لأن أثيوبيا دولة فقيرة، وهي أول دولة مستقلة ومسيحية في القارة الأفريقية، وتحتاج للعون. بريطانيا وافقت على أعطائها منطقة تشمل الأراضي المعروفة باسم "بني شنقول" وغيرها، شريطة أعطاء الشركات البريطانية حق التنقيب عن الذهب في تلك المناطق، وأن تلتزم أثيوبيا بعدم بناء أي عوائق على النيل تعطل من انسياب المياه شمالاً الا بموافقة السودان.
أصبحت اتفاقية 1902 لتحديد الحدود بين السودان واثيوبيا، والتي تمت برعاية بريطانية، سارية ونافذة المفعول، وجرى التأكيد عليها بمناسبات متعددة. ولكن طوال هذه الفترة، لم يتم تحديث العلامات النهائية أو حتى وضعها، ونَقل ما اتفق عليه فوق الورق على الأرض، وذلك لاسباب متباينة.
على ان عوامل الكثافة السكانية التي تتمتع بها أثيوبيا والتي تجعلها بحاجة مستمرة الى توفير المحاصيل الزراعية من ناحية، مقابل قلة السكان مقارنة بأراضي السودان الشاسعة والخصبة، وكون المناطق الاثيوبية تعتبر مرتفعة وجزءاً من الهضبة التي تغري بالنزول الى السهول السودانية، في الوقت الذي تصعب فيه الحركة بالنسبة للسودانيين في تلك المنطقة لفترة خمسة شهور على الاقل طوال فصل الخريف، بسبب موسم الامطار، وجريان ثلاثة أنهار في تلك المنطقة، وغياب البنية الاساسية من جسور وطرق مرصوفة... كل هذا شكل عامل ضغط باتجاه التسلل الاثيوبي الى تلك المناطق المعروفة ب"الفشقة الصغرى والكبرى"، وتمتد على مسافة 5700 كيلومتراً مربعاً وتعتبر من أخصب وأجود المناطق الزراعية، خاصة وأنها تشقها أنهار "العطبراوي" و"ستيت" و"باسلام"، أو بحر السلام كما يطلق عليه في الجانب الاثيوبي. لكن هذه الانهار أصبحت تجري طوال العام مؤخرا بعد اكتمال بناء سدي أعالي نهر عطبرة وستيت بتمويل سعودي.
البداية
شهد العام 1957 دخول أول ثلاثة مزارعين أثيوبيين بجرارتهم الى المنطقة لاستغلالها. وتضاعف العدد الى أكثر من عشرين في أقل من عشر سنوات، الامر الذي أضطر حكومة الصادق المهدي الأولى في العام 1966 الى أنشاء سبع نقاط للبوليس في تلك المنطقة، ليسجل بذلك أول وجود إداري للحكومة السودانية هناك. لكن مع غياب أي علامات حدودية على الارض، لانشغال البلدين بقضايا مختلقة، وعدم الاستقرار السياسي فيهما، استمر تزايد أعداد المزارعين الاثيوبيين، حتى أصبح قضية تحتاج الى المعالجة. وهي وجدت طريقها في مذكرات متبادلة بين وزيري خارجية البلدين في العام 1972. لكن تغيّر النظام في أثيوبيا وتولي منجستو هايلي مريام السلطة اثر انقلاب عسكري في منتصف سبعينات القرن الماضي، أوقف كل تعامل مع السودان، خاصة وأن نظام أثيوبيا كان يستند بصورة أساسية على اثنية الامهرا الذين لم يرغبوا قط في تخطيط الحدود لأن لديهم أعتقاداً بأن لهم حقا في مناطق السودان الشرقية.
يحدث في القرن الافريقي
17-07-2018
وعلى الرغم من الاطاحة بنظام منغستو بواسطة "جبهة تيغراي" في العام 1991 بقيادة مليس زيناوي، الذي لقي مساعدات كبيرة من السودان وقتها، وتحسن علاقات البلدين، إلاّ أن موضوع علامات الحدود لم يتم حسمه تحت مختلف الذرائع، من عدم توفر التمويل الى الانشغال بترتيبات داخلية كالانتخابات وخلافه، خاصة وأن النظام السياسي في أثيوبيا قام وقتها على اعطاء القوميات المختلفة حقّ تكوين تنظيماتها السياسية، والتجمع تحت راية جبهة واحدة بقيادة تيغراي.
الكثافة السكانية في أثيوبيا تجعلها بحاجة مستمرة الى توفير المحاصيل الزراعية، مقابل قلة السكان في أراضي السودان الشاسعة والخصبة، وكون المناطق الاثيوبية مرتفعة وجزءاً من الهضبة فتغري بالنزول الى السهول السودانية... شكلت عوامل ضغط باتجاه التسلل الاثيوبي الى تلك المناطق المعروفة ب"الفشقة الصغرى والكبرى"، وهي تمتد على مسافة 5700 كيلومتراً مربعاً، وتعتبر من أخصب وأجود المناطق الزراعية.
ويبدو أن زيناوي لم يكن مستعجلاً لحسم موضوع الحدود وذلك لضمان ولاء اثنية الأمهرا. ثم جاءت عملية محاولة أغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك التي ضلع فيها السودان في العام 1995. وكما استغلتها مصر لوضع يدها على مثلث حلايب التابع للسودان شمالاً، فإن أديس أبابا شرقاً بدأت تدفع بالمزيد من المزارعين الاًثيوبيين الى منطقة الفشقة، وساعد على ذلك انسحاب الوجود الاداري من البوليس والجيش السوداني من المنطقة، الأمر الذي أغرى المزارعين الاثيوبيين بأن يستهدفوا مزارعين سودانيين، ويحصلوا على انتاجهم ويطردونهم من مزارعهم، وخاصة أنهم، وعبر العمالة الزراعية الاثيوبية، كانوا على معرفة جيدة بأوضاع الزراعة والمزارعين السودانيين في تلك المنطقة، بل وقاموا بانشاء سبعة مواقع دائمة في "الفشقة الكبرى" وعشراً في "الفشقة الصغرى". وتشير بعض التقارير الى أن خسائر المزارعين السودانيين طوال فترة ربع القرن الماضي قد تصل الى حوالي 11 مليار دولار.
اعادة خلط الأوراق
الخلاف السياسي الذي أشتعل بين رئيس الوزراء أبيي أحمد وجبهة تغراي، ووصل الى درجة الحرب في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، أعاد خلط الاوراق بالنسبة لمنطقة "الفشقة". فأبيي أحمد اعتمد على الأمهرا لمساعدته في مواجهة التيغراي، وبينهما ما صنع الحداد. وفي هذا الاطار أرسل أبيي أحمد مبعوثاً خاصاً الى رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، طالباً أن ينتشر الجيش على طول الحدود لمنع عبور قوات التيغراي المسلحة الى السودان، خاصة وأنه سيسحب قواته من على الحدود لاستخدامها في الحرب ضد التيغراي.
السودان وجد في هذا التطور فرصة لاسترداد أراضيه في منطقة "الفشقة"، وللسيطرة على أكثر من 90 في المئة منها (ما عدا منطقتين عسكريتين) بدون حرب. كما وجد المكون العسكري في الفترة الانتقالية فرصة لتحسين وتعزيز صورته، خاصة بعد علامات الاستفهام التي لا تزال معلقة بخصوص الدور الذي لعبته القوات النظامية في الفض الدموي للاعتصام أمام القيادة في حزيران / يونيو 2019، أو على الاقل عدم التدخل لحماية المعتصمين.
مصر من جانبها وجدت في هذا التوتر سبباً أضافياً لتقوية تحالفها مع السودان، وتوحيد موقف البلدين تجاه أثيوبيا، خاصة بما يتعلق بسد النهضة، واستمرار أديس أبابا في سياسة فرض الامر الواقع بملء الخزان. وهي أعلنت من الآن أنها ستبدأ بعملية الملء الثاني في تموز / يوليو المقبل، بغض النظر عن التوصل الى اتفاق بين البلدان الثلاثة، وهو ما يراه السودان تهديداً مباشراً لسد "الروصيرص" الذي يقع على بعد أقل من 30 كيلومتراً من سد النهضة.
الخلاف السياسي بين رئيس الوزراء أبيي أحمد وجبهة تيغراي، وصل الى درجة الحرب في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، وأعاد خلط الاوراق بالنسبة لمنطقة "الفشقة". فأبيي أحمد اعتمد على الأمهرا لمساعدته في مواجهة التيغراي، وبينهما ما صنع الحدّاد، وأرسل مبعوثاً خاصاً الى رئيس مجلس السيادة السوداني، لنشر الجيش على طول الحدود لمنع عبور قوات التيغراي المسلحة الى السودان.
أما أثيوبيا فإن ما يجري يمكن أن يساعدها في التركيز على وجود خطر خارجي، وتشتيت الانتباه عن المتاعب الداخلية المتصاعدة سياسياً واقتصادياً التي تواجه حكومة أبيي أحمد، والذي يحاول الانتقال الى تنظيم سياسي جديد عابر للقوميات، ويجد صعوبة في الوفاء بالالتزام بوعد إجراء انتخابات عامة كان يفترض أن تتم العام الماضي، وتم تأجيلها تحت ذريعة المخاطر الصحية بسبب جائحة الكورونا. وهو يجد أيضاً صعوبة في ضمان استمرار دعم الأمهرا لحكمه في مواجهة تمرد التيغراي وتململ القوميات الأخرى، حتى قوميته من الأورومو.
ويلفت النظر أن نائب رئيس الوزراء، ووزير الخارجية ديمكي ميكونين، من الامهرا هو رئيس الجانب الاثيوبي في اللجنة الوزارية المشتركة مع السودان، ويقال أن له مشروعاً زراعياً في منطقة "الفشقة". وفوق هذه كله، فأن ما يجري في "الفشقة" يمكن أن يكون ورقة اضافية تستخدمها أديس أبابا في مفاوضات سد النهضة.
وجد السودان في هذا التطور فرصة لاسترداد أراضيه في منطقة "الفشقة"، وللسيطرة على أكثر من 90 في المئة منها (ما عدا منطقتين عسكريتين) بدون حرب. ومصر من جانبها وجدت في هذا التوتر سبباً أضافياً لتقوية تحالفها مع السودان، وتوحيد موقف البلدين تجاه أثيوبيا، خاصة بما يتعلق بسد النهضة، واستمرار أديس أبابا في سياسة فرض الامر الواقع بملء الخزان.
السودان أوضح بجلاء انه لم يعلن حرباً وان تحركاته العسكرية تتم داخل حدوده المعترف بها دولياً، وهو يعطي الاولوية للحل الديبلوماسي، ولهذا يقوم مبعوثوه بزيارات الى الدول الافريقية والعربية شرحاً لمواقفه وحشداً للمساندة، بل ولا يستبعد حتى خيار الذهاب الى محكمة العدل الدولية لتثبيت حقوقه، سواء في منطقة "الفشقة" أو حتى بخصوص سد النهضة. لكن القانون الدولي قد لا يكون كافياً بحد ذاته، وأنما الأبلغ أثراً هو إحداث تغييرات ملموسة على أرض الواقع، بداية بتعزيز الوجود الإداري السوداني وإعمار تلك المنطقة، من خلال بنية أساسية من طرق وجسور، واستثمارها، ولو باللجوء الى عمليات الميكنة الزراعية المكثفة للتعويض عن نقص العمالة الزراعية البشرية، وفوق هذا كله تمليك أهالي المنطقة مساحات زراعية توفر لهم حافزاً للبقاء والدفاع عن مصالحهم بدلاً من الممارسة السابقة القائمة على اعطاء مستثمرين من خارج المنطقة مساحات ضخمة لم يستطيعوا استغلالها كلها، ووجدت فيها العمالة الاثيوبية فرصة للزراعة فأغتنمتها. وقديما قيل المال السايب يغري بالسرقة.
ويبقى السؤال عن قدرة الأطراف المختلفة على ضبط تحركاتها ومناوراتها هذه، والاّ ينزلق الطرفان الى حرب لا يريدها أي منهما، بسبب تعقيدات الوضع الداخلي لكل منهما، سياسياً واقتصادياً.