يمكن أن تتناقض بعض المواقف المعلنة مع منطوق السياسات الفعلية للدول. وفي السعودية، هناك ثوابت مألوفة، كالتخادم التبعي مع السياسات الأميركية، وعدم التصادم مع إسرائيل وحتى التفاهم غير المباشر معها، والاستخدام المفرط للبترودولار في دعم النفوذ الإقليمي والدولي، وابتزاز التأثير المادي والمعنوي لإدارة الأماكن المقدسة، واعتزال أي سياسات انفتاحية قد تؤدي الى انكشاف المستور في الداخل والخارج، والتلاعب بكميات النفط المنتَج لتحقيق أهداف سياسية غير معلنة كإغراق السوق النفطي مثلا بمليوني برميل غير محسوبة ضمن حصة المملكة (المقدرة بحوالي 10 مليون برميل يوميا)، أي خارج حصص منظمة الأوبك، ليساهم ذلك بتخفيض أسعار النفط عندما يراد من هذا الاجراء ضعضعة مدخولات دول نفطية أخرى، أو إيقاف الضخ بقصد تخفيض المنتج منه في السوق العالمية عندما يراد رفع قيمة الدولار مثلا، أو إرباك السوق النفطي بهدف زعزعة الثقة بالمنتجين الآخرين لجعل المملكة هي المفضلة دائما عند المستهلكين، والبذخ في التسلح غير الضروري أو الميت، للتغطية على تكاليف التواجد العسكري الأميركي في أرض ومياه وسماء المملكة!
.. ولكن هناك الطارئ وغير المألوف:
من تقاليد إدارة الخارجية السعودية أن يكون القائم عليها من أمراء آل سعود. ومنذ عام 1930، كان الأمير فيصل بن عبد العزيز وزيرا للخارجية التي كانت تسمى حينها المديرية العامة للشؤون الخارجية، واستمر في منصبه هذا وهو ملك حتى عام 1975. وبعد وفاته، تولى المنصب ابنه سعود الفيصل الذي استمر بمنصبه حتى وفاته منذ أسابيع. وهناك فترة سنتين فقط (1960 ـ 1962) تولى المنصب فيهما شخص لا ينحدر من العائلة المالكة وهو إبراهيم بن عبد الله السويل، ثم استرجع الأمير فيصل المنصب منه مرة أخرى. القاعدة المألوفة للنظام السعودي هي حصر مهمة الإشراف على الأمن الداخلي ودهاليز السياسة الخارجية بأبناء أو أحفاد الملك عبد العزيز آل سعود. وعليه، فان تعيين السيد عادل الجبير هو خروج على المألوف، وقد يكون مؤقتا شبيها بتعيين السيد السويل في مطلع الستينات من القرن الماضي.. تعيين انتقالي حتى يتم اعداد احد الأحفاد لهذا المنصب. وعلى هذا، فوزير الخارجية الجديد هو أحد التلامذة النجباء لمدرسة 99 في المئة من أوراق السياسة الدولية فيها هي بيد اميركا.
وغير المألوف، موضوعا وليس شكلا في السياسة الخارجية السعودية، هو الاندفاع للتعاطي المباشر والمعلن مع تطورات الأوضاع في الدول المحيطة التي لم يسبق للمملكة أن تعاملت معها بهذه الحدة، كالتدخل العسكري السعودي المباشر في البحرين ثم في اليمن. صحيح أنه سبق للسعودية ان تدخلت في اليمن إبان التواجد المصري في زمن الصراع بين عبد الله السلال والإمام البدر عام 1962، لكنه كان تدخلا مبطنا ولم تنفرد السعودية به، ولم يشترك جيشها مباشرة بالمعارك وقتها.
وأداء تجريبي:
كثرة السفارات والقنصليات الاجنبية في المملكة وعددها 157، وكثرة البعثات السعودية في الخارج والتي يناهز عددها 116 سفارة وقنصلية ومكتبا تجاريا، تستجيب لمقتضيات الاستهلاك التجاري والخدمي الخاص بمراسيم الحج والعمرة خصوصاً، وأيضا لمتابعة مصالح الدول ورعاياها العاملين في المملكة والذين يقدر عددهم بحوالي 9 ملايين مقيم فيها. البعثات الاستثمارية، والقواعد العسكرية، ومعسكرات الشركات العاملة في مجال استخراج النفط، والمستشفيات الأجنبية.. تحتاج لهذا النوع من التبادل الدبلوماسي، ولاسيما أن السوق السعودي يشكل عامل إغراء لكل المسوِّقين ولكل أصناف المنتجات، صناعية أو زراعية أو كمالية أو ترفيهية أو تسليحية أو صحية أو تعليمية.. حتى أن سياسة "سعودة" سوق العمل التي طبقت بكثافة أثناء فترة الملك عبد الله، وقيل أنها تهدف إلى امتصاص البطالة المحلية ومعالجة مخالفات الإقامة، لم تؤد إلى ما هو معلن من أهدافها، لأنّ ترحيل حوالي ثلاثة أرباع مليون عامل غير سعودي من أصل ما يزيد على تسعة مليون عامل ومقيم أجنبي، في بلاد 70 في المئة من عمال قطاعها العام من الأجانب، و90 في المئة من عمال قطاعها الخاص من الأجانب، لا يغير من الواقع شيئا.