علمت نادية بخبر اختفاء علي من خلال منشورات التضامن من أصدقائه. أيدت التضامن، وأعادت نشره مراراً، قالت إن هذا الشخص هو قريبها، ولا يستحق أن يختفي. لكن لا التضامن ولا التجاهل كانا يُحدِثان فارقاً في ذلك الزمن.
ذهبت لوداد تحدثها عما حدث، فطفرت دمعةٌ من عين وداد، وهي تنظر إلى صورة الفتى الريفي النحيل. سخرت نادية من دمعتها، وسألتها: "ما المبكي في الأمر؟"، لقد كان يعرف أن ما يفعله سيتسبب يوماً في مقتله. ثم حدثتها عن قصة الجثة، وكيف طلبت منه أن يكتب عنها، وأرشدته إليها ليحصل على مادة جديدة يكسب من نشرها مالاً. والآن أصبح خبر اختفائه مجانياً. فقط الجثث المرمية في صناديق القمامة والمنشقة لنصفين، هي من تجلب مالاً، أما الاختفاءات العادية التي تطال آلاف الأشخاص يومياً، فهي خبرٌ يعاد نشره وتكراره، وقد يتسبب حتى في خفض القيمة الشرائية لعملة الجثث الهامدة، التي تعتاش عليها الكلاب في الجبهات، وعلى جانبي الطرق في المدن المظلمة. و ضربت لها مثلاً آخر: العجوز الذي جاء يبحث عن حفيده الضائع في المدينة، هل هناك أغبى من هذا؟ سألت نادية، وأجابت: لا! فالعجوز كان يعرف أنه لن يجد حفيده في أي من المدن التي زارها، ومن أخبره أن حفيده يقبع أسيراً في المدينة الكبيرة قد يكون هو القاتل ذاته، الذي اغتال ذلك الحفيد في مدينة أخرى، كي يسطو على بندقيته، أو على ألف ريال يحملها في جيبه. وشرحت نادية أنه كان أحرى بالعجوز أن يحتفظ بماله لبقية أحفاده، وأن يتجاهل طلبات الأم لأنها ليست أكثر من جاهلة. و"هل تعرفين ماذا حدث لذلك العجوز؟" سألت نادية مرة أخرى، وأجابت، لقد مات بمجرد أن وطأت قدماه أرض وادي قريته. وأنا لا أبالغ هنا. لقد أخبر أحدهم أبي هذه التفاصيل بمكالمة هاتفية، لقد مات العجوز لأنه كان متعباً من طول السفر، كان منهكاً وضعيفاً، وبالتالي فإن الأم الحمقاء فقدت ابنها وحماها الذي كان يهتم بها.
تسحُّ دموع وداد وهي تستمع لحكايات صديقتها. ثم تنهدت أخيراً وقالت: "لن يستطيع أحد إنقاذ الأحياء، لكن ماذا – على الأقل – لو كان أحدهم قادراً على إعادة الموتى إلى قراهم؟".
المعتقلون في اليمن، الملف المنسي
23-06-2019
لم تستمع نادية إلى مناجاتها، لكنها – وداد - استمعت إلى كلمات ذاتها بوعي ملتهب، وكأنما كانت على أبواب تلك اللحظة أعمارٌ كاملة، وأنها أخيراً دلفت إلى حياتها/فكرتها الحقيقية. وكالمسحورة، تركت نادية تعبث بهاتفها، وتحصي عدد الإعجابات التي نالتها جرّاء تضامنها ونشرها لصورة علي، واستقرت على طاولتها تعمل على كمبيوترها. ومن صفحة لأخرى، بحثت وداد عمّا يمكن أن يفيدها في مهمة حياتها التي بدأت فقط منذ لحظة. استطلعت عدد الجهات المتقاتلة، من ضد من، ومن مع من، ومن ضد الجميع، ومتى يكون الجميع ضد أحدهم، ثم مسحت في الخريطة عن نقاط الاشتعال والجبهات المفتوحة، ثم راجعت سلاسل الهزائم والانتصارات. بعد ذلك بحثت عن أرقام القتلى والمفقودين والمخفيين قسراً والأسرى، وما هي الجهات التي يمكن أن تتفاوض/ تبحث بشأنهم. لم يكن هناك الكثير، والجميع يكذّب الجميع، ولا شيء يمكن أن تثق به لأي جهة لأن كل الجهات كاذبةٌ مقيتة مجرمة.
لأيام قادمة انكبّت وداد بدعم من نادية على عمل لا ينتهي. في كل المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي دعت للتطوع ولدعم فكرتها، بعد أن صاغتها باللغتين العربية والإنجليزية، ودعمتها بكل الإحصائيات والخرائط. بدأت بالحديث عن الوضع المأساوي للبلد بشطورها وأقاليمها، وبأن سادة الحروب يتفقون على شيء واحد، وهو أن الموتى صاروا ماضٍ، وأن الجرحى في طريقهم ليكونوا ماضٍ أيضاً، وبأن الأسرى ليسوا سوى عبء غذائي. أخبرتهم أنها تحتاج للمساندة للبدء بحملة يزورون فيها خطوط القتال الحالية والسابقة، ويبحثون هناك عن الجثث المرمية، ثم يقومون بدفنها أينما استطاعوا، وإن كانوا على مقدرة فيعيدونها إلى ذويها. أخبرتهم أنها تريد أن تُعلِم الأمهات عما إذا كان أولادهنَّ أسرى أو قتلى، حتى لا يموت جدٌّ آخر من إنهاك عبوره المدن الآثمة القاتمة. ثم زارت وداد مع نادية - التي تكذب عند كل خروج من المنزل - ومع المتطوعين الآخرين المقرات الأمنية، الأجهزة العسكرية، الوزارات، المنظمات، مستجدين التصاريح والوساطات كي لا يتعرضوا للاعتقال أو القتل.
وحين بدا أن هذا سينجح، تحدثت وداد مع أمها، أخبرتها أنها ستغيّر حياتها، ولن يكون هناك عودة لحياة سابقة، إنها مع نادية ستبدآن العمل الذي طالما أردن أن يفعلنه بعيداً عن النفاق. لم تصدق الأم ما سمعته، وكانت تعرف أنه ليس باستطاعتها أن تمنع وداد ممّا تنوي، لذا حذرتها أخيراً: ستتسببين في مقتل صديقتك.
في أول رحلة لاسترداد الجثث، عبرت الشابتان الجبال الجرداء برفقة أمّ وثلاثة رجال، شاب من متطوعي المبادرة، وآخرين من قرية الأم، في سيارة قديمة بنية وصفراء اللون، كانت ترتج طوال الطريق. جلستا بجانب الأم. تراقب نادية يدي الأم المتجعدتين المتغضنتين، وكان ما حول عينيها يشبه يديها. وفكرت وداد أن الأم مجرد تجعيدة كبيرة تسبب بها الزمن وقسوة الحياة، ولم تفهم لماذا ترتدي لثاماً، وهي بهذا العمر وبهذه التجاعيد.
____________
من دفاتر السفير العربي
2019: اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________
صامتةٌ الأم، صمتها مرٌّ وجارح، صمت الثكلى التي صلّت خلال عام كامل أن يحمي الله فتاها أينما كان، الصغير الذي كان يرعى أغنامه قبل أن يمر المقاتلون، أعطوه كلاشينكوفاً واصطحبوه، وبعث هو بأغنامه مع أخيه الأصغر. هلعت الأم، وصرخت تدور في أرجاء القرية أن أعيدوه قبل أن يعاد جثةً مثل غيره، لكنهم لم يعيدوه، لا حياً ولا جثةً. انتظرت الأم لعام كامل، انتظرت أن يعود، انتظرت أن يبعث برسالة مع قريب أو غريب، انتظرت أن يأتي لدكان القرية اتصالٌ منه كونها لا تملك هاتفاً، انتظرت في الليالي الدافئة، وفي ليالي البرد. سمعت حفيف الأشجار وخطوات الكلاب التائهة، فكرت بقدميه وبشعره وبعينيه، و تذكرت أن آخر مرة احتضنته فيها كانت وهو في الثانية ربما. سألت: لماذا لم تحتضنه طوال تلك السنين؟ لماذا لم تقتص دقيقةً واحدة من عملها ومشاغلها لتشّم شعره، ولتعرف كم طالت ساقاه ؟ سألت أباه مراراً وتكراراً أن يذهب للبحث عنه، لكن الأب راوح بين القلق وبين الفخر. كان قد تسلم في أول شهرين من رحيل الفتى مبلغاً مالياً، لذا فقد انتظر المزيد. لكن المزيد لم يأت قط، وقبل شهر واحد جاءه خبرٌ من قرية أخرى أن ابنه قتل قرب الصحراء مع مجموعة من آخرين، وأن لا أحدَ سيعيد جثثهم، لأن الرحلة بعيدةٌ وشاقة وتكلف مالاً.
دارت الأم مرة أخرى على القرية تبكي وتعول وتسأل أن يعيدوه، أعيدوه للمرة الأخيرة، أعيدوه مرة واحدة. لكن لا أحدَ سيعيده، والأم التي أصبحت تجعيدةً في سن الأربعين، ستجوب القرى والشوارع، ولن تيأس حتى يهديها أحدهم لمبادرة الفتيات. في أول مقابلة، وعدت وداد الأم المكلومة بأنها ستبحث عنه حتى تجده، قالت لها الأم بصلابة إنها ستكون معها خطوة بخطوة. حاولت وداد إقناعها بأنها لن تذهب، بل سيذهب رجال آخرون، لكن الأمر تمّ.
تبادل الرجلان من قرية الأم قيادة السيارة، وجلست هي دون أن تسند ظهرها أغلب الوقت، تَسْبح في قوقعة من فراغ، تحوم حول شعر ابنها الفقيد وقدميه ولون عينيه وصف أسنانه العلوية، صوته حين كان يحبو، وصوته حين طارد الكلاب لأول مرة، وصوته حين أصبح مراهقاً. ولم يكبر الصوت ليصير صوتاً حاداً مثل أصوات كل الرجال. مات الصوت مع جسده. لو كان تبقّى لها الصوتُ، ما كانت لتعترض، كانت لترضى، كانت لتنام محيطة كل حواسها بصوته فحسب، وكانت لتتنازل حتى عن رائحة شعره التي لم تشمّها منذ سنين. وكيف يموت الصوت، ولا علاقة له بالجسد؟ ولماذا يخاف هؤلاء الرجال؟ ولِمَ ترتجف الصبية بجوارها؟ مات صبي صغير خلف هذه الجبال الجرداء، ولم يعرف أحد إن كان جائعاً أم كان قد تناول وجبة، إن كان فكر بأمه أم فكر بأبيه أم لم يفكر أساساً، ما الذي يخيف في هذا العالم أكثر من صحراء وليل وحرب بالنسبة لمراهق صغير؟
لا تخافوا وامضوا.
في كل نقطة تفتيش، كانت نادية تستفيق وتنتظر إن كان مطلوباً منهم أن يعرضوا هوياتهم وبالتالي التصريح بالعبور، وفي كل نقطة تفتيش يتصاعد التوتر والقلق لكأنما كان الجميع هارباً وعلى وشك أن ينكشف، وتلك السمة طُبِعت على وجوه كل العابرين: يتحينون لحظة الإفلات من نقاط التفتيش.
عند قرابة الخامسة، خرجت السيارة عن طريق الإسفلت، ودخلت في طريق ترابي مليء بالصخور. كان الجو بارداً، وبدا أن الأمطار شوهت معالم الطريق وتركت حفراً هائلة. الرجلان من القرية كانا يتبعان إشارات نقلها لهما أحد الجنود العائدين، يتناقشان بصوت خفيض، والشابُ من المبادرة لا يعلق بل يستمع باهتمام.
- سنصل قريباً.. صرّح أحد الرجلين، في دعوة للاستعداد لما سيأتي.
تلتفتت الشابتان، كان عمود كهرباء ضخم يُرى من بعيد وقد نكس نحو الأسفل، ثم عبروا بمدرعة محطمة وسيارات محترقة. تراجعت نادية بقوة، ثم همست لوداد أن تنظر. كانت جثث ثلاثة رجال مطمورةً جزئياً تحت التراب، يبدو أن السيل قد حركها من أماكنَ أخرى فوصلت هناك وقد اختلطت بالطين.
لم تشأ الفتاتان لفت نظر الأم، لكن الأم ذاتها كانت منشغلة بما تراه على الجهة الأخرى من السيارة، والذي لم يكن مختلفاً عما تراه الفتاتان. وقبل أن يصل السائق وجهته، قالت الأم فجأة:
- عد قليلاً إلى الوراء.
عاد السائق قليلاً فقالت له الأم :
- هنا.. ثم فتحت الباب نازلةً، وتلاها الآخرون. لم تقل الأم شيئاً، تحركت إلى الأمام، مترين آخرين، توقفت، ثم عاودت المشي، كانت هناك صخرةٌ قريبة، توجهت المرأة ناحيتها، تجاوزتها ثم اختفت وراءها.
وجدتها نادية التي كانت أسرع إليها من الآخرين جالسةً بجانب جثة تتكئ على الصخرة، كانت الجثة متعفنة بالكامل، لم تحركها السيول من مكانها بسبب حماية الصخرة، كانت الدماء يابسة في منطقة الصدر ما بدا أنه سبب الموت. كانت المرأة جالسةً بهدوء، تنظر في الجثة بتأمل، قريبةً منها دون أن تلقي بالاً للرائحة، وقف الآخرون بعيدين ينتظرون منها أن تقول شيئاً، لكنها ظلت على حالها لعشر دقائق على الأقل، ثم قالت:
- هذا هو ابني، وعادت للصمت.
حفر الرجال حُفراً سريعة في الأرض الترابية الرطبة، دفنوا فيها الجثث التي لم يكن لأي منها أيُّ بطاقات هوية، ثم أخذوا معهم من جاؤوا لأجله، وانطلقوا لرحلة العودة في الظلام. سعداءَ بأنهم وجدوا الجثة بسرعة على غير المتوقع.
ما تحجبه الحرب من أثرها النفسي في اليمن
06-03-2020
في الليل، صار الهواء خوفاً، ونقاط التفتيش التي كانت توحي بالشؤم في النهار، تصبح صورةً أخرى عن الموت في الليل. عمّ الصمت السيارة وأطفئ المذياع، لم تعد الفتاتان تتهامسان، ما الذي يمكن أن يقال في لحظة كتلك؟ حوصر من في السيارة بفكر واحدة: ما هذه الحياة التي نعيشها؟ ربما لم تفكر الأم بتلك الفكرة مع الآخرين، لقد غاصت في الظلام والفراغ، كانت تريد أن تنسى، أن تنطفئ مرة واحدة إلى الأبد، ألاّ تشعر بالألم ولا الذنب ولا الخوف، ألا تكون أُمّاً مرة أخرى، ألا تكون باختصار.. انتحت الأم بنفسها جانباً ولم يُسمع حتى تنفسها، قبل أن يحملوا جثة ابنها إلى السيارة، ركعت على الأرض وانخرطت في بكاء مرير، ضربت صدرها بكفيها وخربشت وجهها، بكت الفتاتان بجانبها، وبكى رجلٌ من الذين جاؤوا من قريتها، قالت نادية:
- لا شيء يطفئ ألماً كهذا غير الموت.
في اليوم التالي استلمت وداد رسالة من فتاة اسمها سلمى، تقول إن لديها عزيزاً اختفى منذ فترة، لا تعرف أين ولا كيف، ولا أحدَ في الحقيقة يعرف، لكنها تعرف أن السبب قد يكون ما يكتبه. تقول المرسلة إن هذا الشخص نحيلٌ بشكل مقلق، لذا سيموت لا محالة إن تعرض للتعذيب أو التجويع: هل ستتمكن مبادرتك من إيجاده؟
موت
06-06-2019
نادية
14-06-2019
علي
27-06-2019
سلمى
18-07-2019
نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة
26-07-2019
علي: القصص الأخرى
08-08-2019
سلمى، ليالي الحب والحرب
16-08-2019
لقاء نادية بسلمى
29-08-2019
علي: البحث عن أسير
12-09-2019
سلمى: بهجة الحكاية
21-11-2019
نادية وطائر الموت
12-12-2019
حرائق
09-01-2020
سلمى: في حضرة الحقائق
01-02-2020
نادية: أشياءٌ لا تُحكى
14-02-2020
على الطريق الى الريحان
27-03-2020
سلمى: بؤس الصفيح
09-04-2020
مطر
08-05-2020
عليّ: جزء من حقيقة
06-11-2020
سلمى: وحيدة في الحديقة
04-12-2020