نادية وطائر الموت

كان الشارع مظلماً كقبر. لم تعد هناك منذ زمن طويل أعمدة إنارة في الشوارع، ولم يكن هناك ما يضيئها غير كشّافات السيارات والهواتف المحمولة. وأما كبار السن فكانت لهم كشّافاتهم المثبتة على الرؤوس. وفي ليال كثيرة كانت القذائف والرصاص هي ما يضيء الشوارع.
2019-12-12

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
نديم كرم - لبنان

في الضفة الأخرى من الشارع، حيث يقف صندوقا قمامة قذرين محاطين بكومة من أكياس القمامة بعد أن فاضا، توقفت سيارة صغيرة يبدو أنها قديمة من حشرجة محركها، وعلى ضوء كشّافاتها، شاهدت نادية رجلاً يترجل منها مسرعاً، أعاد شيئاً ما إلى كرسي القيادة، ثم قام بخلع الجاكيت الذي يرتديه باستعجال، واستدار مسرعاً ليفتح صندوق السيارة الخلفي. كان يحاول جاهداً أن يخرج شيئاً من الصندوق. وأخيراً حمل على كتفه الشيء، اقتربت نادية من النافذة أكثر وألصقت أنفها على زجاجها لرؤية أوضح. تقدم الرجل نحو كومة القمامة المحيطة بالصندوقين، لكنه استدار عائداً من جديد، وظل لبرهة ينظر إلى الصندوقين والأكوام المحيطة بهما. تحرك باتجاه مقدمة السيارة، يبدو أنه عزم الذهاب للجهة الأخرى من الصندوقين. كان الشارع مظلماً كقبر. منذ زمن طويل لم تعد هناك أعمدة إنارة في الشوارع، ولم يكن هناك ما يضيئها غير كشّافات السيارات والهواتف المحمولة، وبالنسبة لكبار السن عابري الشوارع ليلاً، كانت لهم كشّافاتهم المثبتة على الرؤوس، وفي ليال كثيرة كانت القذائف والرصاص هي ما يضيء الشوارع، لكنه ليس الضوء الذي يفضله العابرون.

عبر الرجل بحمله على كتفه من أمام كشّافات السيارة، ارتعدت نادية المتلصصة بجانب النافذة وهوى قلبها، شاهدت في اللحظة التي خطا فيها الرجل أمام ضياء السيارة يدان متدليتان من على كتفه تلامسان أسفل ظهره. كانت الأخبار تنتشر في المدينة عن أرقام مخيفة من الجثث الملقاة في أكوام القمامة، لأطفال ونساء ورجال، لم تقتلهم الحرب ولا الجوع أو المرض، باعتبار هذا الثلاثي هو مندوب عزرائيل الدائم لليمن. كانت تلك الجثث لأناس قتلوا عمداً، ولم يكن ذلك يقلق أحداً أو يستدعي شعور الصدمة، فالموت في نهاية الأمر واحد. فكرت نادية بهذه الخلاصة بينما ظلت تراقب الرجل المستعجل وهي تعي أنها فقدت القدرة على الحركة والتنفس، حين وصل لأعلى نقطة في كومة القمامة فرمى بحمله عليها. غاص الحمل من ثقله كما استنتجت نادية من الصوت، فشرع الرجل بيديه الاثنتين يخفي ما رماه مستخدما الأكياس المتناثرة. اقترب هدير دراجة نارية، فقفز الرجل من مكانه مسرعاً لسيارته مطفئاً الكشّافات، جامداً في مكانه حتى مرت من الزواية المقابلة الدراجة النارية بهديرها المزعج. خرج الرجل عائداً لتل القمامة، لكن مستعيناً هذه المرة بالضوء الباهت القادم من السماء. وحين أكمل عمله، وقف لبرهة، نفض يديه ثم مسحهما على بنطاله. وبالسرعة والاجتهاد نفسهما، امتطى سيارته، أشعل كشّافاته وغادر المكان.

كانت الأخبار تنتشر في المدينة عن أرقام مخيفة من الجثث الملقاة في أكوام القمامة، لأطفال ونساء ورجال، لم تقتلهم الحرب ولا الجوع أو المرض، باعتبار هذا الثلاثي هو مندوب عزرائيل الدائم لليمن. كانت تلك جثث إناس قتلوا عمداً. ولم يكن ذلك يقلق أحداً أو يستدعي شعوراً بالصدمة.

كان الديوان (غرفة الجلوس)، يطل على االشارع الذي توجد فيه براميل القمامة، اعتادت الأم مع بناتها اختلاس النظر من زوايا الشبابيك في النهارات حين لا كهرباء عمومية ولا مولدات توفر الطاقة للتلفزيون والهواتف. تتربع واحدة أو اثنتان منهن، وتبدآن التلصص على الشارع ناقلات الحدث للبقية. لكن نادية المولعة بالتلصص طورت العادة منذ بدء الحرب، لتبدأ به وحيدة في الليل حين يجافيها النوم، كانت قد سمعت من الحكايات ما جعلها متأكدة بأنها يوماً ما سترى ما لم يَرَهُ الآخرون. في ليال كثيرة تنتظر نادية أختها الكبرى لتكمل صلاتها الليلية، ثم تتسلل إلى الديوان، وفي الظلام الدامس للغرفة وللشارع، تستمع للأصوات المخيفة في الخارج، وتراقب عبور الناس والمركبات. شاهدت نادية كلاباً تمزق بعضها البعض بجانب براميل القمامة، تابعت أضواء القناصين من على الأبنية العالية، راقبت لصوصاً يعتلون سور المنزل المقابل، رأت بعينيها كيف يغير الرجال ملابسهم، ويرتدون العباءات النسائية استعداداً لاصطياد رجال آخر الليل ثم سرقتهم. كانت الليالي التي تعود فيها بحكاية مثمرة بالنسبة لها وإن كان الحدث أليماً. وفي تلك الليلة، لم تعرف نادية ما الذي يجب أن تشعر به. كانت خائفة وترتعد. لكنها كانت مشدودة برغبة وحشية بأن تتفقد الجسد الذي تركه الرجل، ظلت لدقائق تحسب نسبة الخطر إن هي قررت النزول وتفقد الجثة المرمية:

- يسمع أهل البيت حركتها: خطر رقم واحد ونسبته 50 في المئة.

- يعود المجرم لمكان الجريمة: خطر رقم اثنين ونسبته 20 في المئة، وهي كانت مقتنعة بأنه لن يعود.

- يهاجمها أحدهم بينما تكون هناك ولا تستطيع العودة، الخطر الأكبر ولم تستطع احتساب نسبته.

ثم قررت نادية أنها لو تجاوزت كل ما سبق، فإنها ستحتاج إلى الاستحمام بعد عودتها من الكومة القذرة، وقد تلمس بيديها الجثة، وماذا إن كانت الجثة ما تزال حية؟ تذكرت نادية أفلاماً من هذا القبيل، وعرفت أن الأفلام لا يمكن أبداً أن تكون كالحياة الحقيقية، لا في رومانسيتها ولا في قسوتها. فما كان منها إلا أن أعادت الستارة لموضعها وتسللت عائدة بفكرة تلتمع في ذهنها، وأحست بالنظافة والراحة. كانت تود فعلاً رؤية الجثة، لكن تخيل رائحة المكان كان أكثر إرعاباً لها.

في الأسبوع السابق للحدث، كان الأب قد دعا إلى الغداء شاباً نحيل القوام ريفيّ المظهر، قال أنه اكتشفه بالصدفة، وأنه قريب من الدرجة الثانية. بالطبع لم تحضر نادية ولا أيٌّ من النساء الغداء. لكن بعد أن غادر الفتى، ظل الأب تحت تأثير سطوة المزاج الجيد للقات، يتحدث طويلاً عن الشاب حسن النوايا، وكيف أنه يكسب رزقه من مصادر متعددة منها نقل حوادث الشارع للصحف الإلكترونية بأسماء مستعارة. تابعت نادية الحديث بدون اهتمام، لكنها في النهاية قررت أنها ستجده على فيسبوك، فربما يكون هدفاً يوماً ما. سألت والدتها عن اسمه، وكانت قد شاهدته متلصصة من النافذة لحظة مغادرته المنزل. ولم تفشل محاولاتها، كان فعلاً على فيسبوك، لكنها استغربت أنها لم تجد أيّاً من قصصه المزعومة منشورة على حائطه. وعلى الرغم من احتمالية أن يكون كاذباً، فقد أضافته إلى قائمتها. وبعد ما شاهدته، قررت أنها ستختبر ادعاءاته وأن الفرصة سنحت لها. وبلا مبالاتها المعتادة، نامت وأجلّت خطتها إلى اليوم التالي.

الشيء الوحيد الذي تمنته نادية هو أن تشارك الشاب الريفي تفقد الجثة. أرادت أن ترى الموت بعينيها. كانت تشتم رائحته في كل زوايا المدينة لكنها لم تلمسه بيديها.

في اليوم التالي، بعثت نادية برسالة للشاب الريفي، أخبرته أنها تعرف أنه يكتب قصصاً حقيقية من الشارع للصحف الإلكترونية، وحيث أنها تملك حساباً باسم مستعار، كان صعباً عليه أن يكتشف أنها الفتاة التي أعدّت السلَطة التي أكلها قبل أيام وأثنى على تصميمها البديع. قالت له أن لديها قصة من الشارع، وبما أنها فتاة، فهي أولاً لا تستطيع التحقق من تفاصيل القصة، وثانياً لا تستطيع نشرها. انتظرت نادية ساعتين لتجد الرد من قريب الدرجة الثانية مقتضباً بـ: ما هي القصة؟ ترددت نادية، إن لم يستجب لها فستتعفن الجثة وسيعرف المارة والجيران بأمرها، وستكون حكاية مثل مئات الحكايات التي يتبادلها الناس في أيام الحرب.أخبرته نادية أنها قد تكون شاهدة على جريمة، ولا تستطيع إعطاءَهُ تفاصيل كثيرة لكن هناك جثة في كومة قمامة في شارع جانبي، فلو كان يريد التحقق من ذلك فستعطيه العنوان، ولا يحق له أن يطالب بإجابات إن كانت لا تستطيع تقديمها. كان رده بأنه غير مهتم فعلاً، لكنه فقط يريد أن يعرف ما الذي دعاها لأن تختاره هو، خاصة وأن قلة يعرفون أنه يكتب قصصاً للصحف الإلكترونية. سخرت نادية منه في أعماقها مدركة أنه شعر بالتميز والفخر، وأوضحت له أن لديها أسبابها، وأنها تعرف حقيقة عمله من مصدر موثوق وأنه يستطيع الوثوق بها كما وثقت به.

____________
من دفاتر السفير العربي
اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________

كان الشيء الوحيد الذي تمنته نادية هو أن تشاركه تفقد الجثة. أرادت أن ترى الموت بعينيها. كانت تشتم رائحته في كل زوايا المدينة لكنها لم تلمسه بيديها. تلك الأمنية الوحشية لم تكن قابلة للمشاركة مع نحيل القامة، وفي المساء أصرت أن تجلب بنفسها الخبز من الفرن المجاور، أمسكت بيدها حقيبتها وفي الحقيبة خنجرٌ مطويٌّ مثل ولاعة ضخمة، كانت قد حصلت عليه كهدية من صديق، تحسسته بينما تعد درجات السلم، كان شعور الموت قد رافقها طوال النهار، ليست حزينة لكنها شعرت بوجوم مخيف. تخيلت نادية يومها يرزح تحت ظل جناح طائر خرافي، طائر الموت الذي لا يتزحزح إلا بإرادته. سقطت ورقة من شجرة قريبة، وقهقه طفل من نافذة مجاورة، تغامز شبان لرؤية فتاة بردفين ضخمين.. لم يكن جناح الطائر الخرافي قريباً منهم. لكن، وقريباً جداً كانت هناك الجثة الملقاة في تل المخلفات. كان الطائر قد وقف عليها حتى اختفت في تفاصيل يومه القذر والكابي. أو ربما لا.. أعادت نادية صياغة فكرتها، وأن جناح الطائر المهيب يخيم على يومها لأنها تعرف الموت، أما الميت فهو لا يعرف الموت وبالتالي لا شأن للطائر به.

"أنه في منزل أهل الجثة، هذا الطائر القذر الملعون". اختتمت نادية الفكرة، وعادت لتفكر في أشيائها الخاصة جداً، بعيداً عن الموت وطائره الخرافي هائل الجناحين. وحين قفلت راجعة من رحلة الفرن، كانت الليلة الماضية قد أصبحت ذكرى، ونست حتى أن تلتفت إلى تلة القمامة بجثته المزعومة.

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...