تعاظمَ الإفلاس، فاتسعت شهيته ليتمكّن من شكل الحياة نفسه، ومن إعادة برمجة الوعي الاجتماعي بما يقتضيه تراكم الخيبة خلال السنوات الماضية، حيث الصورة النمطية لشكل الحياة المزري مثبّتةٌ، ولا تزال السلطة حريصةً على إبقائها كمعطًى مادي ذي دلالة رمزية، تُعاقب من خلاله مجتمعاً تجرّأ عليها حين نادى بإسقاط النظام.
رأس السنة، بهارجُ الضوء الخائب
الإفلاس حقيقي، يمكن التمعّن به وهو يستنطق وجوه الناس، حين تجتاز الأسواق بملامحَ بليدة، أو حين تتودد لدفء شمس المرتفع السيبيري بارد الهواء. سمكٌ رخيص افترش بسطات مرتجلة، وتسبب بتسمم العديد من العائلات، لكن سعره كان يقل بخمسة أضعاف عن سعر السمك المضمون. الجيوبُ المفلسة تجذبها الأسعار المنخفضة، فلا تبحث عن مفردات الجودة والصحة. تفعل ذلك أيضاً حين تبتاع الدجاج المجمّد، الذي جاء بعضه غير صالح للاستهلاك البشري، فتمّت مصادرته. فيما وصل سعر كيلو اللحم الأحمر إلى ستة دولارات، وهذا مقياسٌ قديم يعرفه الاقتصاديون لاحتساب الأجر اليومي، الذي يعادل سعر كيلو من اللحم، ما يعني أن الحد الأدنى للدخل الشهري يجب أن يقارب 180 دولاراً (نصف مليون ليرة سورية اليوم).
قبل انسحاب العام 2020 من المشهد السياسي والاجتماعي، خرج السلاح الفردي، ورشق الأجواء برائحة البارود، وبصوته. فهل كان حاملوه سعداءَ حقاً؟ وبماذا كانوا مبتهجين؟ أم فعلوا ذلك تحت تأثير سلطة الكحول الرديء، و"حشيش حزب الله" (هكذا اسمه هنا) المتوافر حيثما كان، وبأسعار مدروسة. ثم يصير لكلام المنجمين سلطة على مسارات الحياة المقفلة، يحضر التنجيم بقوة داخل إفلاس الفعل السياسي للمجتمع، من توقعات ميشيل حايك إلى ليلى عبد اللطيف مروراً بمايك فغالي، الذين قرروا بصورة متقاربة بهاءَ الحياة في سوريا عام 2021، وقالوا إن العام الجديد سيحمل تدفقاً منقطع النظير للاستثمارات الخليجية إلى ريف دمشق، وتحسناً في سعر صرف الليرة واستقراره، وانتصاراتٍ عسكرية وسياسية مدهشة للنظام. لكنه يظل كلاماً يواجِه ثبات المعادلة السياسية الاجتماعية، وخلوّها من المتغيرات الفعلية. وهذا ثباتٌ يشبه الإفلاس حقاً، إن لم يكن متطابقاً معه.
كوفيد 19 وبابا "نويل" قبل المنحة الثانية؟
استمرت الحياة، وكأن فيروس كوفيد بطرازيه 19 و20 مجرّدُ خيال علمي، بالرغم من أن الموجة الثانية من كوفيد 19 ضربت بقوة مناطق سيطرة النظام، حمص في وسط البلاد، والسويداء في الجنوب. وكانت التصريحات الرسمية مقلقة للغاية حول الانتشار الأفقي المرعب للفيروس، ومع ذلك لم تقرر وزارتا التربية والتعليم العالي تعليق الدوام في المدارس والجامعات، ولم تطبق الحكومة أيَّ إجراءات تحدّ من الاختلاط الاجتماعي بصورة جادة، سوى بعض القرارات التي طالت إغلاق صالات الأعراس، وإلزام المواطنين ارتداء الكمامات الطبيّة لدى مراجعتهم عدداً من الدوائر الحكومية. الطوابير بقيت ملتصقةً بصالات التجزئة لتوسّل مخصصات السكر والأرز، ومثلها الطوابير التي تلازم الأفران، ومحطات بيع الوقود.
انصرف العام 2020 مع منحةٍ ثانية للموظفين والمتقاعدين، وكأن المجتمع كلّه عبارةٌ عن موظفين لدى النظام. ومع ذلك ظل الكساد سمةً بارزة أقلقت أسواق التجزئة التي لم تتعافَ خلال مناسبتي عيد الميلاد ورأس السنة. الأولادُ وحدهم استطاعوا قطف بعض البهجة، وهم يتصورون مع بابا نويل، أمام المحلات الكبيرة ومراكز التسوق، وهنا يسمّيه البعض بابا "نوال"، ويسمّون المنحة "مكْرُمة" ويعتقدون بأن شعار "الحرية" هو الذي جرّ البلاد إلى كلّ هذه الويلات.
العراق والصومال معانٍ جديدة للخلاص
لا يمكن اشتقاق حلول حقيقية اقتصادية كانت أم اجتماعية من نظام سياسي كالنظام السوري، حيث يمسك رئيس الجمهورية وحده بكل السلطات، وما دونه مجرّد موظفين، لا سلطة لهم، ولا أحد يحاسبهم. وبقي على المجتمع الذي فارقته الحياة السياسية منذ أكثر من نصف قرن أن يزجّ بأفراده داخل حلول فردية للنجاة، كان أرقاها السفر والهجرة، وأقذرها اللصوصية والبلطجة المسلحة. وخلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية كالمطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على المغادرة فقد أمنّوا موطئ قدم لهم في مستشفيات الصومال، حيث يتقاضون هناك نحو ألف دولار في الشهر.
شمسُ المرتفع السيبيري لا تزال ساطعةً، قويةً بما يكفي لكنس برودة الشتاء، وكأن هذا الدفء منحةٌ سماويّة طالت الجميع بلا استثناء. لكن من غادر البلاد، سواءً بالهجرة أو بالسفر، لن يلوّث أصابعه بالحبر هذا العام إن شاء ذلك، فلا حواجزَ هناك لتبحث عن الحبر فوق الأصابع في موعد الانتخابات الرئاسية، ولا خوف من الاعتقال بتهمة عدم الانتخاب، أما العالقون في الداخل فعليهم الاستعداد منذ الآن، فالحبر كثير، ويكفي الجميع.