مشافي القدس في خطر!

عقب اكتشاف جثة الطفل محمد أبو خضير الذي اختطفه مستوطنون، وقتلوه بإحراقه حياً وفق تقرير التشريح الطبي، انطلقت في القدس مواجهات مع جيش الاحتلال استمرت إلى ما بعد دفنه عقب صلاة الجمعة في الرابع من شهر تموز/يوليو الجاري. بلغ عدد الإصابات بين الفلسطينيين في القدس قرابة الـ400 اصابة. وبرز دور الطواقم الطبية الفلسطينية، وعلى رأسها الهلال الأحمر، في معالجة المصابين عبر إقامة مشافٍ ميدانية في حي
2014-07-16

حنين نعامنة

محامية وكاتبة فلسطينية


شارك
عبد المعطي أبو زيد - فلسطين

عقب اكتشاف جثة الطفل محمد أبو خضير الذي اختطفه مستوطنون، وقتلوه بإحراقه حياً وفق تقرير التشريح الطبي، انطلقت في القدس مواجهات مع جيش الاحتلال استمرت إلى ما بعد دفنه عقب صلاة الجمعة في الرابع من شهر تموز/يوليو الجاري. بلغ عدد الإصابات بين الفلسطينيين في القدس قرابة الـ400 اصابة. وبرز دور الطواقم الطبية الفلسطينية، وعلى رأسها الهلال الأحمر، في معالجة المصابين عبر إقامة مشافٍ ميدانية في حي شعفاط تحديداً، ونقل الحالات الصعبة إلى المشافي المقدسية. وقد أعلن مشفى المقاصد الفلسطيني في المدينة حالة الطوارئ ونادى إلى التبرع بالدم والدعم الفوري من أجل شراء أدوية ومستلزمات طبية مستعجلة. مشفى المقاصد الذي استقبل غالبية الإصابات كعادته في الانتفاضة الأولى والثانية، يرزح كباقي المشافي الفلسطينية في المدينة تحت وطأة ديون باهظة تتهدده بإغلاق وشيك.

في حزيران من العام 1967، ولم تكد القدس قد استفاقت بعد من صدمة احتلال شقّها الشرقي، استولت الحكومة الاسرائيلية على المشفى الفلسطيني الحكومي القائم في حي الشيخ جراح في المدينة. لم يكن المشفى ذاته هو المقصود، بل مبناه الذي حُوّل إلى مقر للشرطة الإسرائيلية في المنطقة الشرقية المحتلة للتوّ. في رسالة محفوظة في أرشيف دولة اسرائيل، كان قد أبرقها وزير الصحة الإسرائيلي إلى مدير المشفى الفلسطيني بتاريخ 1.10.1967، يُعلم الأخير أنه فشل في إقناع حكومته بعدم الاستيلاء على المبنى، وما بيده الآن «غير الصلاة في عيد الغفران ورأس السنة الجديدة»!
الصلاة لم تنفع، بل كانت كمن يقتل القتيل ويمشي بجنازته. هذه السهولة في تغيير طابع المشفى سطّرت فصول الضمور اللاحقة التي طالت القدس، بأهلها ومؤسساتها. إذ بات جسد المقدسي، وداؤه ودواؤه، خاضعين للحسابات السياسية. قامت اسرائيل بضرب القطاع الصحي في المدينة عبر قطع السبل على الأطباء والمرضى ومزودي الدواء إليها. هل سمعتم عن بطالة تطال المستشفيات؟ هذه هي حال مشافي القدس في وقت يتمسك قرابة خمسة ملايين فلسطيني بأطرافها طلباً للعلاج... سلامتك يا القدس.

نكسة صحية

لطالما شكلت مشافي القدس العنوان الرئيسي، وفي أحيان كثيرة، الحصري، للطبابة في جنوب فلسطين منذ النكبة، واستمرت تتصدر هذا الموقع لعقود. إذ كانت تقدم خدمات استثنائية من غسيل الكلى وعلاج الأمراض السرطانية ومراكز الولادة للحالات الصعبة ومراكز تأهيل لذوي الاعاقات الجسدية والعقلية. ومع ذلك فلم تكن بمنأى عن الاستعمار الآخذ في التمكن من القطاعات الحياتية للمقدسيين عقب احتلال العام 1967، فأُغلق بنك الدم والمختبر المركزيان ومركز مكافحة السل. كما أغلقت الحكومة الإسرائيلية لاحقاً، المشفى الوحيد داخل الأسوار الذي عُرف باسم «الهوسبيس»، وهو مبنى أقامته البعثات النمساوية وقد تحول الآن إلى فندق فخم. والذي يعرف تضاريس البلدة القديمة بأزقتها الضيقة، يعي صعوبة نقل مصاب أو مريض مخطر من داخل الأسوار إلى مشفى خارجها.
بقيت سبعة مشافٍ فلسطينية تعمل في الشق الشرقي للمدينة منذ العام 1967، من بينها مشفى تابع للهلال الأحمر القائم أيضاً على خدمة سيارات الإسعاف للمرضى الفلسطينيين، والمشفى الفرنسي، ومشفى العيون، فيما يُعَدّ مشفى المقاصد أكبرها وهو الذي برز دوره كمؤسسة فلسطينية وطنية في ظل المواجهات العنيفة الجارية اليوم. استُهدف هذا المشفى كغيره من المشافي المقدسية في مخطط تقويض البنية التحتية للقطاع الصحي الفلسطيني في المدينة، فمثلاً أُجبر العاملون فيها من سكان القدس عقب الاحتلال مباشرة على الخضوع للترخيص الصحي الإسرائيلي، علماً بأنهم لم يتقنوا اللغة العبرية، ناهيك عن أنهم كانوا يزاولون مهنتهم لعقود سبقت وجود إسرائيل. ونجحت في الحيلولة من دون أن تصبح المشافي الإسرائيلية الوجهة الرئيسية في المدينة... إلى أن بدأ وضعها يتردى ويتدهور أواسط تسعينيات القرن الماضي.

رفاه اجتماعي، رفاه استعماري

في العام 1995، وإثر ضغط جماهيري داخلي إسرائيلي لقوننة الصحة، سنّ المشرّع الإسرائيلي قانون الصحة الإلزامية. بيد أن القانون الذي اعتبرته اسرائيل جزءاً من كونها دولة رفاه اجتماعي، كان ذا أثر مدمِّر على قطاع الصحة الفلسطيني في القدس، إذ «أمم» صحة الفرد بحيث يساهم الأخير باشتراك ذاتي، وتشارك الحكومة في تغطية نفقات خدمات صحية الزامية له. فعلياً أجبر قانون الصحة الالزامية المقدسيين على الانخراط في نظام الصحة الإسرائيلي على حساب القطاع الصحي الفلسطيني. لكن المقدسيين، وخلافاً للمواطنين الإسرائيليين الذين يسري عليهم القانون، يُحرمون من الخدمات الصحية في حال تخلفوا عن دفع حصتهم، وهم الذين يقبع قرابة 80 في المئة من أسرهم تحت خط الفقر، ما يشير إلى «عدالة» الرفاه الاجتماعي المزمع.
تزامن هذا (بالصدفة أو بدونها) مع حقبة أوسلو التي تركت القدس معلقة من دون تنظيم ومن دون تحديد وجهة أي من قطاعات المدينة، الأمر الذي سرعان ما بدأت تظهر عواقبه، ومن بينها قضية الصحة، إذ أن إقامة وزارة للصحة الفلسطينية بموجب أوسلو لم تكن لتسعف المقدسيين أو مشافيهم في هذه الحالة. وسرعان ما تحوّلت القدس بشقها الشرقي في الفترة اللاحقة إلى سوق رابحة لمزوّدي الصحة الإسرائيليين (اليهود حصراً)، والذين شرعوا يقيمون العيادة تلو الأخرى في المنطقة، متبارين فيما بينهم على استقطاب المقدسيين. الفرق الواضح ما بين جودة الخدمات الصحية المقدمة في عيادات القدس الغربية وعيادات القدس الشرقية، يُسمعك قعقعة السوق في كل هذا، وتحديداً بعدما خُصخِصت العيادات واعتمد في إدارتها على «وكلاء صحة» محليين، ما درّ على مشغليها أرباحاً دون عناء أو مسؤولية. بكونها جزءاً من النظام الإسرائيلي، بدأت هذه العيادات بتحويل المرضى المقدسيين إلى المشافي الإسرائيلية بدلاً عن الفلسطينية. وهي إذا قامت بالتحويل إلى المشافي الفلسطينية فتقدم مساهمة هزيلة في تكلفة العلاج، حتى أصبح من المكلف لهذه استقبال المرضى المقدسيين.
في قلب هذه التقلبات المصيرية، استطاع الهلال الأحمر الفلسطيني الحفاظ على مركزيته في نقل المرضى من أهل القدس، وكذلك من الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى المشافي الفلسطينية والإسرائيلية في القدس. علماً بأن سيارات الإسعاف الإسرائيلية التابعة لنجمة داود الحمراء (خدمة الإسعاف المرادفة للهلال الأحمر والصليب الأحمر)، تمتنع أغلب الأحيان من الوصول إلى الأحياء الفلسطينية في المدينة، أو تشترط مرافقة وحدات أمن إسرائيلية لـ«حمايتها». وقد برز غياب هذه تماماً في المواجهات الأخيرة. ورغم ذلك، يواجه الهلال الأحمر عراقيل عدة، مثل اشتراط التنسيق الأمني مع المشافي الإسرائيلية والتبليغ المسبق عن دخول سياراته إليها بغض النظر عن خطورة الحالة، وذلك خلافاً لسيارات الاسعاف الإسرائيلية. كما يعاني الهلال الأحمر من نقص في عدد السيارات اللازمة لتغطية كل المناطق، وإن كان الأمر لا يحتاج لأكثر من 200 ألف دولار، كما يشير أحد المسؤولين فيه.
بين هذا وذاك، يقف المرضى المقدسيون في حالة عبثية متقطعين ما بين منظومتين: واحدة ينتسبون لها مجتمعاً وثقافة وتاريخاً، وأخرى يخضعون لها على مضض بفعل الشروط التي تسيّر حياة الانسان اليومية. ولا تغادر أثقال الاستعمار وآلياته أروقة المشافي الإسرائيلية، إذ يشعر المقدسي وهو ينوء تحت أوجاعه، جسداً وروحاً، بأنه يدخل مكاناً غريباً عليه ودخيلاً على عالمه.. مكان تملؤه لغة غريبة عنه ولا يتقنها، فيزداد وهنه ويفقد من خصوصيته، إذ يحتاج في أحايين كثيرة لمترجم مرافق. إلى ذلك كله، يضاف الحاجز النفسي الذي يعيق شعور المريض بالأمان وهو يسلم صحته لأطباء يراهم بعين شافية وأخرى مستعمِرة.

أطباء مع حدود

في فصل عبثي موجع، بدأت المشافي الفلسطينية تخسر مرضاها المقدسيين بالتدريج لمصلحة المشافي الإسرائيلية، فاعتمدت على طبابة المرضى القادمين من نواحي الضفة الغربية وغزة. إلا أنَّه لم تمض إلا بضع سنين حتى سدّت إسرائيل الطريق حرفياً - على هؤلاء للوصول إلى القدس، عبر بناء منظومة حواجز أبرزها الجدار الفاصل وسياسة الدخول المنوطة بتصاريح تمنحها إسرائيل بتعسفية لا تزن فيها الصحة شيئاَ. تتوالى شهادات المرضى وصورهم وهم ينتظرون رحمة «الدخول» إلى القدس لتلقي علاج لا يمكنهم الحصول عليه في مكان آخر من وطنهم. وذاك يسري أيضاً في الحالات الخطرة التي تمنع سيارات الإسعاف ذات اللوحة «الخضراء» (الفلسطينية) من الوصول إلى القدس، فتنتظرها أخرى من الطرف الآخر للحاجز تحمل اللوحة «الصفراء» الاسرائيلية وتنقل المريض إلى إحد المشافي في حال تمت الموافقة أصلاً على إدخاله.
كما لم يشفع الاستعمار للمهنة الأسمى كما يعتبرها البعض، فيعرقل وصول الطواقم الطبية العاملة في المشافي المقدسية ممن يسكنون الضفة الغربية وقطاع غزة، هؤلاء الذين يشكلون عماد المشافي بنسبتهم التي تفوق 70 في المئة من الطواقم. حدد الاستعمار كوتا مقلصة لكل مشفى، معتبراً هؤلاء عمالاً أجانب! وحرم عدداً كبيراً منهم من تصاريح الدخول والعمل بادعاءات أمنية. فعاش عدد منهم في المشافي لشهور طويلة، كأنهم متسللون مخالفون للقانون، من غير الرجوع إلى بيوتهم في الضفة الغربية خوفاً من عدم تمكنهم من الوصول مرة أخرى إلى القدس لممارسة مهنة شقوا طويلاً ليبلغوها. ولا تخلو درب الأطباء أو الممرضين الحاصلين على تصريح بدخول القدس من العراقيل، فهؤلاء يسيرون وفق مزاجية العسكري المرتكز على الحاجز. أما في الأوقات الحرجة، مثل الأيام الأخيرة، حيث تصبح المشافي في أمسّ الحاجة لطواقمها كافة، فإن إغلاق الحواجز وفرض منع التجوال التام يشل حركة الطواقم الطبية، ويحيلهم إلى عاطلين عن العمل، فيما ترتعد الأرض تحت أرجلهم.
أفقدت الضربة تلو الضربة المشافي الفلسطينية موقعها في المدينة، وأنزلتها عن خارطة الريادة الصحية في الجنوب الفلسطيني. بقيت المشافي وحيدة من دون مرضى وأطباء ووزارة صحة تقوم بأعبائها المادية التي تصل إلى ملايين الشواقل. فوفق تقارير صادرة عن مؤسسات فلسطينية، ينتج مشفى المقاصد عجزاً شهرياً بقيمة 1.5 مليون شيقل، يُضاف إلى ديون متراكمة تفوق الـ50 مليون دولار. يأتي ذلك في ظل تراجع الجهات المانحة، على تنوعها، واستثمار السلطة الفلسطينية في بناء مشاريع صحية بديلة عن مشافي القدس في «العاصمة» رام الله. يدفع ثمن التردي الطواقم الطبية الفلسطينية العاملة في القدس التي لا تتلقى أجورها لأشهر طويلة، والمرضى الفلسطينيون من جهة أخرى. ومع ذلك، وفي أوقات الشدّة، تعود المشافي المقدسية إلى الواجهة كمقام وطني في مدينة خلت من مقاماتها. أما الاستعمار.. فينتظر مطبقاً على نفَسِها ليستولي على ما تبقى فلسطينياً في المدينة العليلة.

مقالات من القدس

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه

القدس©: ماركة عالمية استعمارية

في العام 2013 استضافت مدينة القدس سباق السيارات العالمي الشهير "فورمولا وان". باتت حلبة سباق كبيرة استقطبت الآلاف لمشاهدة الحدث المثير. فجأة أصبحت المدينة المقدسة بعمرانها وأهلها الأصليين ديكوراً لـ...

"إخطيّة" اللغة العربيّة في فلسطين

نشرت جريدة "الدفاع" الفلسطينية في عددها الصادر يوم 12 كانون الثاني/ يناير 1945 خبراً جانبياً صغيراً حمل عنوان "رفض برقية باللغة العربية"، ورد فيه أن شيخاً يدعى عيسى أبو الجبين...

في حضرة النكبة

غداً عيد ميلادي الثلاثين. ستتصل أمي كما في كل عام لتعايد علي، وحتماً ستكرر اعتذارها لأنها لم تلدني في تاريخ آخر أقل كآبة من يوم النّكبة. مع الوقت تعلّمتُ أن...