"كنا نطلق البالونات في سماء المحطة لنراها تتلاشى مع قدوم القطار...»، اللعبة الفضلى لطفل بات كهلاً يحكي على التلفاز عن أوقات قضاها مع أخواته في محطة القطار المحاذية لبيتهم في إحدى الحارات الغربية للقدس قبيل العام 1948. هي سكّة القطار التي أقامها العثمانيون خارج أسوار المدينة القديمة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، فوصلت بين نواحي فلسطين وأقطار عربية بعيدة. لكن إذا حصل ومررت عبر الطريق الواصلة بين القدس وبيت لحم اليوم، ولاح لكَ مركز تجاري خطّت على واجهة حجاره القديمة «The First Station» (المحطة الأولى)، فاعلم أنها محطة القطار إياها لكنك لن تجد أثراً لضحك الأطفال وخطاهم اللاعبة، بل بقايا جعّة وخراء كلاب مدللة بعد ليلة صاخبة من عرض «السوبر بول» الأميركي في المحطة، بدخولية بلغت 70$ للـVIP وللعامة بـ15! حوّل الاستعمار المحطة التاريخية التي أغلقت نهائياً العام 1998 إلى مبنى تجاري فخم تقام به فعاليات من طراز دروس اليوغا وحفلات «دي جي» وغيرها من أسباب الاسترخاء لليهود الأوروبيين والأميركان الملعلعين بلغاتهم في فضاءات المدينة. هنا القدس «الغربية".
الشطر والرتق
أأطلال؟ أبكائيات على الماضي؟ أبداً. أتحدث عن حاضر مدينة تعيش يومها لحظة بلحظة بعد أن وقعت عن سكّة الوقت. المدينة التي شقّها سيّاف الاستعمار وما شفعت لها أمٌ حقّة، باتت مدينتين مفصولتين بعد أن كانتا واحدة ارتبط شقّاها حتى النكبة ارتباطاً عضوياً، نهَض بالمدينة بكل نواحيها. ثم أمعن الاستعمار الصهيوني ومعه السياسة الفلسطينية المهزومة في تثبيت الفرقة عبر حصر القدس «عاصمة فلسطين» بشقها الشرقي، وتاريخها باحتلال العام 1967. تنبثق عن هذا الواقع أسئلة يخيّل للوهلة الأولى أنها بديهيّة الإجابة: من هي القدس اليوم؟ وكيف يراها المقدسيّ والفلسطيني؟ هل هي بشقها الشرقي فقط أم بغربها أيضاً؟ وما الذي يجمعها بباقي أطراف فلسطين؟ أي حواجز فعلية ومعنوية تقيمها المدينة بين الفلسطينيين وبين أنفسهم؟ لا ردود حاضرة على أسئلة مدينة منفصمة، تحكي محطة قطار يتيمة فيها قصة الخراب.
يفيض كلامنا اليومي عن القدس بالتأتأة رغم بلاغة تاريخها وخطابته، فنرغي، كل من مكانه بمفردات مثل «الغربيّة» و«الشرقيّة» و«العربيّة» و«الضفة» و«الشمال» و«الداخل» و«إسرائيل» وغيرها مما أفرزه استعمار أحكم سيطرته على المدينة على مراحل، بدءاً باحتلال الشق الغربي للمدينة العام 1948 وتهجير سكانه الفلسطينيين بالكامل، ليلحقه في العام 1967 احتلال الشقّ الشرقي ببلدته القديمة داخل الأسوار، فـ«توحيد» القدس شرقاً وغرباً تحت سيطرة إسرائيل. فتح رتق المدينة جغرافياً منافذ أمام الفلسطينيين في شرقيّ القدس للوصول إلى الجانب المحتل العام 1948، بعدما كان ارتباطهم مقتصراً لغاية 1967 على الضفة الغربية وقطاع غزة. كما فتح منفذاً للفلسطينيين من حمَلة الهويّة الإسرائيلية في الشقّ المحتل العام 1948 للوصول إلى شرق القدس. بيْد أن هذا الرتق لم يطغَ على الشرخ الأصلي، فبانت الحدود التي عمل الاستعمار على إقامتها في وعي الفلسطينيين وواقعهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي على مختلف محطاته.
الغربية والشرقية
يرى الفلسطيني عامة والمقدسيّ خاصةً، غربيّ القدس ورغم تلاصقه الجغرافي بها، على أنها مكان قصيّ لا يمت له بصلّة، يقع خارج «فلسطين». وإن لم يبدّل خلوّ الأحياء الغربية مثل الطالبية والبقعة والقطمون من الوجود الفلسطيني أسماءها فعلياً، فذلك لم يكن كفيلاً بتخطي شعور المقدسيين بالهزيمة أمام هذه البيوت الشاهدة على غنى الماضي، الذي لا يفتأ يعززه واقع هدم وإخلاء بيوتهم في الشق الشرقيّ للمدينة. يرى المقدسيون بالغربية عالماً كاملاً كان من الممكن أن يكون ملكهم وإذ بهم عاجزين حتى عن استئجار شقة فيه، فإذا لم تكن أجرته الفاحشة التي تفوق دخلهم الشهريّ المتدني بدرجات، فهناك امتناع «ملاكي» البيوت اليهود عن تأجيرها للفلسطينيين جهاراً أو سراً. أما من تهجّر أصلاً من «الغربية» وانتهى به المقام في «الشرقية»، فيرى بيته قائماً نصب عينيه بنزلائه الجدد من دون أن يتمكن من استعادته بحكم قانون «أملاك الغائبين» الذي يغيّب حقه بممتلكاته باعتباره قد سكن دولة معادية، أي شرقيّ القدس حينما كانت تحت الحكم الأردني لغاية 1967! ولا يغير «توحيد» القدس في العام 1967 من الواقع المنفصم والمثير للسخرية.
لا يقلّ الفضاء العام في «الغربية» دحراً للمقدسيّ وقد أزيلت المعالم الفلسطينية لمرافق اجتماعية واقتصادية وثقافية شكلت، لغاية النكبة، أركاناً مهمة في المجتمع المقدسي برمته. إذ استبدل المدّ النيوليبرالي المتعاضد مع الاستعمار كل هذا بواجهة حداثية تليق بـ«عاصمة» إسرائيل، فامتدت العمارات بواجهات زجاجية عملاقة وتكاثرت المجمعات التجارية الفاخرة مثل «ماميلا»، الذي أقيم على أنقاض مقبرة «مأمن الله» التاريخية المتاخمة للبلدة القديمة. فيما تنقلك الخطوات المعدودة ـ حرفياً ـ بين الشقين إلى عالم يفتك الفقر بأهله إذ يقبع قرابة الـ80 في المئة منهم تحت خط الفقر، والبطالة المتفشية بعد أن ضيّق الاستعمار فرص العمل كما يدل على ذلك تزايد المحلات الموصودة بالأقفال في البلدة القديمة. المقدسي الذي يرى اتساع «الغربية» يقضم من حصته في مدينته بل ويمعن في إفقاره، لا يرى نفسه إلا دخيلاً عليها وسائحاً فيها. من هنا تحددتْ علاقته بها كاستهلاكية بحت، يزورها مرتبكاً ويعمل فيها ضمن الحدود التي رسمها له الاستعمار، هناك في خفاء مطابخ المطاعم الفاخرة وفي تنظيفها، حتى لا يظهر على الواجهة ولا يتعدى الحدود الشرقية. ففي نهاية المطاف ما يُراد للفلسطيني هو أن يُخلي المدينة لا أن تُفتح أبوابها له.
فلسطين و"الداخل"
يسود الاغتراب علاقة المقدسيّ بفلسطين المحتلة العام 1948 وأهلها، وإن بات نظرياً جزءاً منها بعد احتلال شرقيّ القدس 1967 وشمل سكانها الفلسطينيين في المنظومة المدنية الإسرائيلية، بما يعنيه ذلك من ضرائب ومستحقات. لقد أسس الاستعمار تقسيمات صاغت إلى حد كبير حدود العلاقة بين الفلسطينيين في الـ48 والمقدسيين، فهناك المواطنة ـ المفروضة ـ على الفلسطيني المستعمَر العام 1948، مقابل «حق الإقامة الدائمة» للمقدسيين، ويعني بقاءً مشروطاً في القدس، وهو صيغة سياسية أدت إلى طرد 14000 مقدسيّ لغاية العام المنصرم. أنتجت الفروقات و«الامتيازات» ـ الاحتوائية ـ تفاوتاً في أوضاع السكن وحرية التنقل والحركة والوضع الاقتصادي ما بين الفلسطينيين من أهل الـ48 مقابل المقدسيين، وخلقت حواجز لم تكسرها الطرق الممتدة على طول الخريطة. فاقمت هذه الحدود المعنوية خطابات سياسية فلسطينية من الشقين ترى بالفلسطينين «أقلية في إسرائيل»، وفي القدس الشرقية وأهلها جزءاً من «دولة فلسطين» في أذيال الضفة الغربية.
لسان حال التفرقة هو تسمية «أهل الشمال» أو «أهل الداخل» التي أطلقها المقدسيون وأهل الضفة الغربية للتعبير عن مكانة اجتماعية وسياسية مغايرة للفلسطينيين من أهل الـ48، الذين يرون بدورهم في شرقيّ القدس وغربها مكاناً خارجاً عن سياقهم الاجتماعي والسياسي. هكذا يصبح الفلسطينيون سيّاحاً في بلدهم. فإذا ما زار المقدسيّ فلسطين المحتلة العام 1948 يعاملها معاملة الزائر، وغالباً لا يتعدى حدود مدنها الفلسطينية، حيفا ويافا وعكا، في وقت يكاد يكون التواصل معدوماً مع القرى الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب، وهي لبّ البقاء الفلسطيني. كما ارتبط إقبال الفلسطينيين من «أهل الشمال» على القدس بمقدساتها، إذ تتكدس المدينة المقدسة بحافلات المصلين أيام الجمعة للصلاة في الأقصى والآحاد في القيامة، يتبعونها بجولات تسوق في البلدة القديمة قبل أن يستقلوا حافلاتهم عودة إلى «الداخل». بذاك تُختصر القدس لدى زائريها. الحدود ذاتها تلف حتى الطلبة الفلسطينيين من «الداخل» حيث يقيمون ويدرسون في الجامعة العبرية في المدينة، حيث يقتصر الانخراط في حياتها السياسية والاجتماعية، والإحاطة بأحوالها المتردّية، على قلّة مسيسّة وفعالّة منهم. لكن يكفي أن تسمع حديثاً عابراً بين مقدسية وجليلية في أحد أزقة البلدة القديمة «إنتم شو بجيبكم من بلادكم على بلادنا! بس الحق يقال بلادكم حلوة» لتعي شسوع الهوّة بين العالمين.
القدس، باتجاه واحد؟
الحواجز بين دولة «فلسطين» العتيدة وعاصمتها «القدس الشرقية» تواجهك أينما يممت شطرك وقد أحاطت القدس من كل الجهات، يسندها جدار إسمنتيّ قطع السبل إليها على أهل قطاع غزة والضفة الغربية. تتحكم هذه الحواجز التي يسميها الاستعمار «معابر حدودية» للتدليل على وجود دولتين قائمتين على حدود وعلاقات ديبلوماسية، بحركة الفلسطينيين من الجهتين، كل بحسب موقعه الجغرافي. حيث تسمح للمقدسيين ولفلسطينيي الـ48 بالعبور من دون مانع إلى الضفة الغربية والعودة منها، وكذلك للإسرائيليين الذين ليس من الندرة مصادفتهم في أحد بارات رام الله هذه الأيام. في الوقت ذاته تحكم حركة أهل الضفة (والقطاع مع تضييقات مضاعفة تكاد تشلّ الحركة) سياسة «تصاريح دخول»، تلغي حقّ الفلسطيني بالدخول إلى القدس بصفتها جزءاً من دولة أخرى. وإذا ما رغب بذلك يتحتم عليه تبرير سبب وافٍ ومقنع لمنحه تصريح دخول. توزع إسرائيل التصاريح عبر إقصاء فئات عمرية من دون غيرها، ووفق مناسبات ومكتسبات سياسية في ظروف معينة، مثل تصاريح الصلاة أيام الجمعة والأحد. إلا أن ورقة المنع الأمني رابحة على الدوام، فإذا ما كنت أخ شهيد أو أسير أو منتمٍ لفصيل ما، فذلك كفيل بحرمانك من بطاقة الدخول إلى المدينة.
عملت إسرائيل وفق منطق «بعيد عن العين، بعيد عن القلب» على عزل أجيال كاملة من الشباب الفلسطيني عن مدينة القدس، بعدما نجحت بإقصاء قطاع غزة عن الوعي والذهن الفلسطينيين بتحويله كياناً معزولاً. هكذا، تجانب الطريق الواصلة بين رام الله وحاجز قلنديا الفاصل بين شمال الضفة والقدس، لافتات تحمل اسم
«القدس» وعدد الكيلومترات المتبقية للوصول. لكن ما أن يصل من لم يحظ بتصريح إلى الحاجز حتى يحيد عن الطريق سالكاً طريقاً التفافية للوصول إلى وجهة هي ليست القدس على أية حال. بذلك باتت معرفة هؤلاء بالمدينة مرهونة، حالنا مع غزة أيضاً، بالتلفاز وحكايا يتناقلها الوافدون من هناك. أما العلاقات الاجتماعية فباتت تتقشر وتقع. عن التفاصيل الصغيرة أتحدث: الزواج بمن نحب وحمل عريس على الأكتاف أو حمل نعوش أصدقاء وأقرباء، أو استقبال الإبن الذي غاب وعاد بشهادة، أو القيام بالواجب إزاء مريض أو أهل بيت مهدوم أو مكسور خاطر. اتصل صديقي من مخيم قلنديا يعتذر لي وأنا أعتل أغراضي إلى شقة جديدة في القدس هذا الأسبوع: «يا ريت أقدر آجي أساعد... ما انت عارفة، فش تصريح».
ألا يصّح بكل هذه الحدود القول إن القدس قد سقطت فعلاً عن سكّة الوقت؟