هل تتحول مدننا إلى مطارات؟

المطار هو استيعاب الفكرة الأمنية بالكامل في الإجراءات واللوائح وتقنيات الممارسة، وما يتعلق بها من تكنولوجيا قديمة، وأيضاً حديثة مع الثورة التقنية والرقمية والبيولوجية. المطار يحرر الأمن من أعباء السياسة المباشِرة، ويحرر السياسة من القانون ومن الحاجة إلى شرعية ما لتبرير الإجراءات الأمنية، بينما المدن عكس المطارات، فهي تجسيد للصراع الاجتماعي، للحريات والقمع، لصراع الشرعيات والحق في الوجود.
2020-12-27

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
مجسم لجزء من العاصمة الإدارية الجديدة في مصر.

المخيال الأمني آخذٌ في التحقق لأقصى درجاته في القاهرة، والمطار هو ذروة تجسيد الحالة الأمنية الصافية. فالمطار يحرر الأمن من أعباء السياسة المباشِرة، ويحرر السياسة من القانون ومن الحاجة إلى شرعية ما لتبرير الإجراءات الأمنية. كما أن المطار يعمل كمصفاة للتنقية والتنقيح من الأفراد والأجساد والمواد غير المرغوب فيها. المطار هو استيعاب الفكرة الأمنية بالكامل في الإجراءات واللوائح وتقنيات الممارسة، وما يتعلق بها من تكنولوجيا (قديمة وحديثة مع الثورة التقنية والرقمية والبيولوجية).

يجسد المطار أنواعاً متعددة من "المصافي"، فدخوله ليس أمراً متاحاً دون مبرر جاد، ثم هناك ضبط للمسافر كبرنامج متحرك، حتى إيداعه لمطار آخر سيقوم بعمليات تنقيح أخيرة قبل الخروج من حيز السفر.

المدن عكس المطارات. هي تجسيد للصراع الاجتماعي، الحريات والقمع، صراع الشرعيات والحق في الوجود، وهي مساحة لممارسة الحق السياسي والاجتماعي (المكفول أنطولوجياً) للإنسان بحكم وجوده، بما يعني السياسة والحرية إيجاباً وسلباً، إتاحةً وقمعاً. فمثلاً، إذا استوقفك أحد الضباط أو الكمائن في القاهرة أو أي مدينة أخرى في العالم، فما زال بإمكان المرء أن يتساءل عن سبب الإيقاف والاشتباه، ويمكنه أن يعترض على إجراءات التفتيش والإذلال الجسدي. وبالطبع وفي الأغلب سيتعرض الفرد في هذه الحالة لقمع مباشر، ولكنه قمع مصحوب بتبرير ما كبير، مثل الإرهاب، البلطجة، الطوارئ، الظروف الاستثنائية وهكذا. كذلك فهناك أيضاً فكرةٌ جوهرية من قلب منطق الحداثة القديم، وهي المواطَنة. ففي الأخير أنت تتعرض للقمع كأحد المواطنين، أو الرعايا في أسوأ الأحوال. المواطنةُ محل صراع حول جملة من الحقوق والحريات والضمانات الدستورية، التي تقوّض نظرياً من توحش الدولة البوليسية المحضة على الأفراد. أما المسافر فهو فقط يريد العبور، الحركة، الوصول إلى هدفه، فلا أحد يعترض على ملامسة جسده والتحقق منه، لا أحد يعترض ولا تخطر الفكرة أصلاً على باله، كأن يمتعض من انتهاك ممتلكاته ومتعلقاته الشخصية. وبالقطع المسافر لا يمارس السياسة، ولا ينخرط بصراع اجتماعي ما حول الموارد والتمثيل.

مقالات ذات صلة

ينجح المطار في الانعتاق من السياسة والعنف والصراع الاجتماعي في صوره المباشرة، وله قدرة عجائبية على تحويل السؤال السياسي إلى جملة إجراءات تقنية محضة تعبر عنها التكنولوجيا في المقام الأول والأخير. فمثلاً ما يعرف بالتصنيف العنصري (racial profiling) ينتهي به الأمر إلى مجموعة مصفوفات في برامج الحاسوب، ومزجها بتقنيات البصمة، والتقنيات المعقدة التي تربط البيولوجيا بالرياضيات المتطورة. هنا تختبئ السياسة تماماً، وتذوب في سلسلة معقدة من التقنيات.

المعضلة الجديدة في المطارات هي دخول عنصر عدم الارتياح والارتياب كممارسة ممكنة لضباطه، سواء في مصر أو على مستوى عالمي. فاستيفاء الأوراق وجواز المرور لا يعني إمكانية المرور في حد ذاته، إلا لأصحاب الامتيازات. والامتيازات هنا عرقية بالأساس، فأولاً أن تكون حاملاً لجواز سفر دولة قوية، ثانياً، أن تتمتع بشكل يوحي بالانتماء "أصالة" لهذه الدول، أي أن تكون أبيض البشرة. فمواطن ألماني أسمر البشرة يظل عرضة للاشتباه. ولكن عملية الارتياب المكثفة هذه مؤمنةٌ بثلاثة عمليات أخرى: 1- فهي ضمن نطاق الخطة الأمنية، 2- أن صاحب السلطة في المطار من حقه طبقاً للوائح أن يُفْرط في استخدام هذه الممارسة، 3- الجانب الأيديولوجي للفرد ولحالة المطار نفسها، كأن يكون أحد الأفراد (الضباط العاملين) يميني التوجه. ولكن ذلك ليس مشكلة مع منظومة المطار، بل تناغماً، شرط عدم تسببه في انفلات أو انزلاق إلى استخدام عنف جسدي غير مبرر. من أنت؟ إلى أين تذهب؟ ولماذا؟ وماذا تعمل؟ هي أسئلةُ المطار، وأسئلة أغلب الكمائن في مصر، على الرغم من وجود هذه البيانات في الأوراق. وهذه قد تكون محضَ تشابه وتقارب بين إجراءات أمنية تحمل الفحوى نفسه.

القاهرة مستمرة في تسييج نفسها عبر التوسع الضخم في المجتمعات المسيجة (compound). حتى المجتمعات العمرانية الجديدة التي ذهبت بعيداً في الصحراء، تتسيج هي الأخرى. ولعل أبرز مثال على ذلك مدينة السادس من أكتوبر، والشيخ زايد غرب القاهرة. فأغلبها يتحول الآن إلى مدن مغلقة داخل المدينة.

الأمر في مصر أكثر تعقيداً. والنزوع اليميني، المعادي لعموم السكان في الحالة المصرية، و"الغرباء" في الحالة العالمية، هو أمر أصيل في بنية الدولة، وقد تحوّل لما يشبه أمراً جينياً يتوارثه رجال الأمن. ولذلك فهذا التقارب الأيديولوجي، هو الآخر، ليس موضوعنا هنا.

لماذا مصر؟ ولماذا القاهرة تحديداً؟

مصر غائبةٌ في دراسات الأمن والاستثناء والمراقبة، وهذا مستغرب، ولكنها سباقةٌ عملياً في عدة أمور، ولها باع طويل مثلاً في ممارسة الاستثناء وتقنينه، وإعادة إنتاجه بشكل قانوني وسياسي. منذ مدة طويلة، نجحت مصر في تحويل بعض أقاليمها بالفعل إلى نماذجَ مصغرة من المطارات، وهي تمضي قدماً في استكمال هذا الأمر. ولعل النموذج الأعظم هو نفق الشهيد أحمد حمدي الذي يفصل سيناء عن بقية مصر، ويعرفه المسافرون لجنوب سيناء، سواء كعمالة أو كسياحة داخلية. كمين نفق الشهيد، هو واحد من أكثر الكمائن غلظةً من الناحية الإجرائية الأمنية. بالطبع، كانت هناك عوامل عززت من هذا المنحى، وهي متعلقة باضطراب سياسي واجتماعي، وباتفاقية السلام مع إسرائيل. ولكنه مع الوقت تحول لنموذج أمني إجرائي صافٍ، مستقل عن السياسة والقانون. فعلى الرغم من وجودنا داخل القطر المصري نفسه، وأن القانون هنا يتيح نظرياً الاعتراض على سلب الممتلكات أو منع التنقل أو التفتيش، سواء الذاتي أو للسيارة، لكن لا محل للاعتراض هناك. فالكمين تجاوزها تماماً، ولا أحد يفكر في مساءلة الأمر، ولم يعد أحد من الضباط في حاجة لتبريره، بسبب "الإرهاب"، أو لأن قانون الطوارئ يتيح بعض هذه الإجراءات.. محضُ أمن مستقل عن كل شيء وكل عنصر خارجه. والمميز في هذا الكمين أن إجراءاته تطابق تماماً إجراءات المطار، وعليك إبداء سبب حضورك، وإبراز الأوراق المطلوبة. أما التمتع بحرية أكبر في الحركة وحمل بعض المواد، فمرتبط شرطاً بحيازة جواز سفر قوي. فمثلاً لا يسمح في أغلب الوقت للمصريين بحمل الكحول، حتى لو قاموا بشرائها من السوق المحلي المصري، ويقوم أحد العساكر أو الأمناء بكسر الزجاجات. كذلك اختلاط الجنسين، لا يحتاج لمبرر لدى الأجانب، ولكنه محل مساءلة واشتباه للمصريين. المذهل في الأمر هو طوابير المطلوب ترحيلهم. وهذه المرحلة غالباً تأتي في المصفى الأخير، وهو كمين عين موسى بعد بضعة كيلومترات من عبور النفق. وهنا ستجد طوابيرَ من الشباب الذكور بانتظار العودة مرة أخرى إلى ما وراء قناة السويس. والمصطلح المستخدم أمنياً معبّرٌ ودال: الترحيل. وبشكل عام تعمل هذه الكمائن كمصفاة للتخلص من "الشوائب". وهكذا يصبح "المهاجرون" هم عموم السكان من المصريين غير المرغوب بوجودهم هناك. وهذه الحالة تنعكس هي الأخرى داخل بعض مدن جنوب سيناء. فالمصري غير مرحب به عادة من المصريين العاملين هناك، مثله مثل المهاجر، ينظر إليه كهمجي وغير متحضر جينياً واجتماعياً حتى يستطيع إثبات العكس.

مصر غائبةٌ في دراسات الأمن والاستثناء والمراقبة، وهذا مستغرب، ولكنها سباقةٌ عملياً في عدة أمور، ولها باع طويل مثلاً في ممارسة الاستثناء وتقنينه، وإعادة إنتاجه بشكل قانوني وسياسي. منذ مدة طويلة، نجحت مصر في تحويل بعض أقاليمها بالفعل إلى نماذجَ مصغرة من المطارات، وهي تمضي قدماً في استكمال هذا الأمر

أما القاهرة، فتعاد هيكلتها وبرمجتها بالكامل. بدأ الأمر في أوائل التسعينيات الفائتة، ولكنه اشتد وأخذ منحًى مختلفاً الآن. فقد نجح السيسي في استخدام قدرته على ممارسة العنف في التعامل مع مسألة العشوائيات بشكل مغاير لسابقيه، وقيامه بتصفية العديد من المناطق الحساسة في قلب القاهرة. في الوقت نفسه، فالمدينة مستمرة في تسييج نفسها عبر التوسع الضخم في المجتمعات المسيجة (1) (compound). حتى المجتمعات العمرانية الجديدة التي ذهبت بعيداً في الصحراء، تتسيج هي الأخرى. ولعل أبرز مثال على ذلك مدينة السادس من أكتوبر، والشيخ زايد غرب القاهرة. فأغلبها يتحول الآن إلى مدن مغلقة داخل المدينة، وهي تضم كمية كبيرة من المراكز التجارية، وتتسلح بأحدث تقنيات المراقبة، وتتقارب في إجراءات التفتيش والأمن مع المطار. بعضها أقل حدة من الأخرى بالطبع. المثير أن بعض المدن الجديدة مثل "بفيرلي هيلز"، تتطابق إجراءاتها الأمنية مع المطارات، وتحديداً في إبداء الأسباب والمتعلقات دخولاً وخروجاً. فإذا قمت بشراء كرسي خشبي بسيط من أحد سكانها، فأثناء خروجك، عليك إبداء وثيقة تتيح لك حمل هذا المقعد. وهي وثيقة يدون بها زمن الدخول والخروج، والسبب، وما قمت بشرائه، ورقم البناية ورقم إثبات الهوية الخاص بالساكن. كل ما يتعلق بهذه الإجراءات والآليات الأمنية، ليست محل نقاش سياسي أو قانوني أو تساؤل حول مدى شرعيتها ومشروعيتها. يمكنك فحسب أن تجد إشعارات بسيطة مثل "هذا المكان مراقب بالكاميرات لسلامتك". يذكرني الأمر بالفارق بين المنظومة الأمنية الليبرالية والمنظومة شبه الشيوعية أو شبه الاشتراكية، مثل ألمانيا الشرقية. فعند دخولك لمتحف "شتازي"( Stasi، مقر أمن الدولة الشهير في برلين الشرقية) ستجد حديثاً وخطاباً حول ربط الأمن بالمصلحة الوطنية، وضرورة حماية البلاد من الجواسيس، ومحاولات اختراق المنظومة الرأسمالية والامبريالية للمجتمع الألماني الشرقي، وتدميره عبر بث قيم مخلّة به، وحماية المكتسبات الاشتراكية... إلخ. وكل ذلك لتبرير المراقبة والتجسس الدائم على المجتمع من قبل الجهاز. وعند خروجك من هذا العالم وهذه الحقبة الزمنية، وأنت تنزل درج المترو، ستجد لافتة بسيطة تنبهك بأن المحطة مراقبة بالكامل من أجل سلامتك. هذا مختلف بالكلية عن الاستثناء داخل النظم الليبرالية، مثل الحالة الأمريكية بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001. هذا لا علاقة له بالاستثناء، ولا يعبر عن نفسه من خلاله. خصخصة الأماكن العامة المختلفة والقطاعات الإنتاجية في مصر، وكذلك في دول العالم المختلفة، أتاحت هي الأخرى إدخال حالة المطار إلى هذه المساحات، وهي تعبر عن نفسها كمحض إجراءات.

المميز في كمين نفق الشهيد أحمد حمدي الذي يفصل سيناء عن بقية البلد أن إجراءاته تطابق تماماً إجراءات المطار، وعليك إبداء سبب حضورك، وإبراز الأوراق المطلوبة. أما التمتع بحرية أكبر في الحركة وحمل بعض المواد، فمرتبط شرطاً بحيازة جواز سفر قوي.

القاهرة، وتحديداً منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، نجحت في وضع بعدٍ آخر للكمائن الشرطية التي تسيطر على المدينة والحركة فيها. هذا البعد يتجسد في التنقيح والعزل والفصل. لقد تحول المواطنون إلى مجموعة من المسافرين همّهم الأكبر الوصول من نقطة "أ" إلى النقطة "ب" بأقل تعرض للاشتباه والإيقاف والمنع. في هذا المنحى لم يكن الهدف ضبط الأشقياء، أو منع الجريمة، أو حتى ممارسة القمع والإرهاب من قبل الدولة، ولكنه كان بهدف منع دخول العناصر غير المرغوب في تواجدها داخل حيز ما. بمنطق آخر، كان الضابط مخوّلاً بمنح تأشيرة الدخول. كانت مصر سباقة في ممارسة التصنيف العنصري، فلون البشرة، ومحل السكن وطبيعة المنطقة والمهنة، كلها عواملُ محددة بالنسبة للأمن في السماح والمنع.

برمجة جديدة

نحن اليوم أمام برمجة جديدة. هذا لا يعني انتهاء البرمجة القديمة. المرجح هو اختلاط الجديد بالقديم، وهذا ما يحدث بالفعل. ولكننا أمام تعقيد أكبر، وتحديث أضخم لهذه العملية. فالمشروع الذي تسعى الحكومة لإتمامه لم يعد يتوقف على حس الضباط وخبرتهم الميدانية، أو ارتيابهم وارتياحهم، بل يعتمد على تصريح دخول أو وثيقة دخول لمكان ما، أو إثبات سبب الزيارة. ويتم ربط الشخص فعلياً بعدة عواملَ رقمية أخرى.. فكل السيارات في طريقها لأن يصبح لها رقم إلكتروني (الملصق الإلكتروني)، مرتبطٌ بعدة بيانات أخرى. كذلك يتم ربط الرقم القومي إلكترونياً بالحساب المصري ومحل العمل والصحيفة الجنائية. وقد زودت حالياً أغلب سيارات الشرطة بأجهزة كشف فورية، بحيث لا ينتظر ضابط الكمين تقريراً من القسم الذي يتبع له الشخص محلُّ الاشتباه، بل يقوم بالكشف عليه مباشرة. كذلك تم إعداد الكثير من سيارات الشرطة لتصبح مكان تحقيق سريع. وبالقطع يبقى من البرمجة القديمة كلٌّ من الأداء الاستعراضي والمسرحي للداخلية المصرية، والارتياب الدائم بعموم السكان، والتلذذ بالقهر، والفساد، والبلطجة لابتزاز الأفراد، واستعراض الهيمنة، والدور القيمي والضبط الأخلاقي من خلال هذه الكمائن، والاشتباه السياسي. ولكن هدف البرمجة الجديدة المركزي ليس الضبط أو القمع، فكلاهما في حالة تعثر وفشل مستمر في مصر. والمقصود بالقمع هنا هو قهر إمكانية الإنفلات، وليس القهر على مستواه الاجتماعي والسياسي.

وفرض الانضباط في مصر متعثر منذ الستينيات الفائتة، وقد تشظّى تماماً مع الألفية الجديدة. أما الهدف هذه المرة، فهو المنع من المنبع نفسه، وتنقيح فضاءات معينة من غير المرغوب بهم ابتداءً. هذا يقود بالقطع لتعزيز ممارسة قديمة تعود أصولها لأواخر القرن التاسع عشر في مصر، وفي أوروبا إلى نهايات القرن الثامن عشر (مثلما يشير ميشيل فوكو)، وهي رؤية وتأطير خطورة الأفراد بشكل استباقي، ليس قائماً على فعل ما أو اختراق ما أو مخالفة ما للقانون أو اللوائح، ولكنه تأطير للمجتمع لخطورة الأفراد طبقاً لما هو كامن فيهم من إمكانيات يمكنها أن تتسبب في زعزعة الأمن. الأمر إذاً استباقيٌّ. وهو ما سيعيد إدماج عناصرَ من البرمجة القديمة في البرمجة الجديدة: هو الارتياب العام من عموم السكان، وأن أجسادهم في حد ذاتها تشكل خطورة كامنة.

المشروع الذي تسعى الحكومة لإتمامه لم يعد يتوقف على حس الضباط وخبرتهم الميدانية، أو ارتيابهم وارتياحهم، بل على تصريح دخول لمكان ما، أو إثبات سبب الزيارة. ويتم ربط الشخص فعلياً بعدة عواملَ رقمية أخرى. فكل السيارات في طريقها لأن يصبح لها رقم إلكتروني مرتبطٌ بعدة بيانات. كذلك يرتبط الرقم القومي إلكترونياً بالحساب المصري ومحل العمل والصحيفة الجنائية.

وهنا سيكمن أحد أبرز الخلافات في تحول المدن إلى نموذج المطار، بين نموذج الدولة الليبرالية، والدولة السلطوية شبه الفاشية مثل مصر. فحدة القمع المباشر والعنف الجسدي ستظل علامة مميزة لليومي. ولكنها ستكون هذه المرة محصورةً أكثر في نطاق ما سيتبقى من فجوات داخل المدينة لم تتحول لمطارات بعد. مساكن الفقراء، مثل "حي الأسمرات" و"بشائر الخير"، وغيرها من الأماكن التي تمّ تشييدها لنقل سكان العشوائيات إليها، يوضع لها الميكانيزم نفسه والآليات الأمنية نفسها، مثل المجتمعات المسيجة. الفارق في البنية التحتية ومظاهر الثراء، أما الآليات فواحدة: بوابات تفتيش، إبداء أسباب الزيارة وعلتها وهكذا. أننا ننتقل من نموذج برج المراقبة الشهير عند فوكو، الذي يرسخ داخل الأفراد شعورهم الدائم بأنهم مراقبون، وبالتالي يدفعهم إلى تقويم وضبط سلوكياتهم ذاتياً خوفاً من العقاب، إلى نموذج Ban- opticon الذي يتحدث عنه الباحث الفرنسي ديديه بيغو Didier Bigo، ويشرحه بوصفه جهازاً أمنياً متعدد الأركان والمستويات، وهو قادر على تجاوز الحيز الجغرافي لبرج المراقبة المرتبط شرطاً بالمساحة. هدف هذا الجهاز الرئيسي هو إدارة وحجب العناصر غير المرغوب بها. ويتجسد من خلال أشكال المراقبة الجديدة، ويكمن في التحول الرقمي المهول. وهو نتاجٌ لتطور أكثر من فرع من العلوم، بفضل التشبيك بينها، مثل تشابك ثورة عالم الجزيئات والقياسات الحيوية، والرياضيات المتقدمة والثورة المعلوماتية.

**

تحول مدينة القاهرة إلى نموذج المطار لا يستند ولا هو ينحصر فقط في رغبة سياسية لدى النظام الحاكم والبرجوازية الكبيرة. بالقطع هناك حلم دائم لدى هؤلاء لفصل أنفسهم عن "الرعاع" بشكل كلي وحاسم. ولكنه نتاجٌ أكثر لعناصرَ أخرى. فهذا التحول يستند إلى ثلاثة مرتكزات كبيرة: 1- الإمكانيات التقنية والتكنولوجية التي جعلته ممكناً بشكل نموذجي، 2- وجود ثروات كبيرة لدى قطاع واسع من الأثرياء الجدد يتيح الاستثمار السريع في هذا التحول، وتحديداً التوجه نحو الصحراء للسكن والزراعة من خلال القطاع الخاص وليس الدولة، 3- إمكانية تأمين هذه المجتمعات عبر شركات الأمن الخاصة التي تشهد تطوراً مذهلاً في إمكانياتها من ناحية التقنيات والتسليح والتنظيم، كسوق يزدهر بشكل واسع. هذه الشركات لا تقوم بتأمين الأفراد وممتلكاتهم فقط، ولكنها تقوم بتأمين حركة الأموال، مراقبة المدن، القدرة على التدخل السريع. وهي إمكانياتٌ لم تكن متاحة مثلاً في التسعينيات الفائتة ومطلع الألفية الجديدة، من خلال أفراد الأمن الخاص ذوي الزي الأزرق، متواضعي الإمكانيات الجسدية والمهارات الأمنية. نحن نتحدث الآن عن شركات بحجم "فالكون" (2) . الإمكانيات التقنية وسهولة إتاحتها واستخدامها على المستوى الفردي، جعلت أيضاً الأفراد في بعض مناطق الطبقة الوسطى يسعون لتطبيق نموذج المجتمعات المسيجة بشكل مصغر. فأغلب بنايات السكن أصبحت مسلحةً بعدد كبير من الكاميرات، وبعضها يسعى لإدخال بوابات إلكترونية مدعومة بحضور بعض رجال الأمن الخاص، بدلاً من الاعتماد القديم على حراس العقارات. هذا التحول إلى حالة المطار يتجسد بشكل نموذجي في العاصمة الإدارية الجديدة (قرب القاهرة) ومدينة العلمين (قرب الإسكندرية). ويتكفل نموذج التنقيح والتصفية بإدارة حركة الأموال والأجساد والبضائع. والقاهرة والإسكندرية لهما سابق خبرة، متواضعة مقارنة بالبرمجة الجديدة، في ضبط حركة السكان والبضائع. فكمائنُ "مسطرد" و"المطارية" و"المظلات" و"حلوان" و"طرّى" و"المعادي"، هدفها مراقبة حركة دخول البضائع الغذائية والتجارية والسلع إلى القاهرة، ومن ناحية أخرى حجب أو تنقيح العمالة القادمة من الريف والمحافظات الأخرى، وإشعارهم بالمراقبة، وأنهم تحت سيطرة الأمن. وفي الإسكندرية يمكن رؤية هذا بوضوح في كمين "العايمة" الذي يفصل بين كفر الدوار في البحيرة والإسكندرية، وهو "كمين حدودي" طبقاً لمصطلحات الداخلية، ويعمل ليلَ نهار، وتوقف عمله هو الاستثناء.

مساكن الفقراء، مثل "حي الأسمرات" و"بشائر الخير"، وغيرها من الأماكن التي تمّ تشييدها لنقل سكان العشوائيات إليها، يوضع لها الميكانيزم نفسه والآليات الأمنية نفسها، مثل المجتمعات المسيجة. الفارق في البنية التحتية ومظاهر الثراء، أما الآليات فواحدة: بوابات تفتيش، إبداء أسباب الزيارة وعلتها وهكذا..

القاهرة وجنوب سيناء مرشحتان أكثر من غيرهما من المدن في مصر لاستكمال نموذج المطار. وذلك بحكم الجغرافيا والديموغرافيا. فالقاهرة مدينة يتحقق فيها بالفعل الشرط الرئيسي المطلوب، وهو وجود مساحات شاسعة منعزلة عن بعضها البعض بحكم الجغرافيا، ويمكن فصلها وتقسيمها أمنياً بسهولة. على عكس مدينة مثل الإسكندرية التي تتشكل من أربعة خطوط متوازية، أو مدينة مثل بورسعيد يمكن فصل بعض مناطقها ولكن يصعب تقطيع وفصل أوصالها مثل القاهرة.

هذا التحول لن يحدث في المستقبل، فنحن في المستقبل بالفعل. النموذج يُستكمل الآن، ويقطع أشواطاً مبهرة في التحقق. وهو أشبه بحالة العولمة: مدن ومساحات معولمة ومحدثة ومزدهرة، يتطلب الولوج إلى عوالمها صدفة ما، أو وجودك داخل طبقة معينة، وعوالم أخرى ستستمر عناصر القسوة والتوحش والقمع المباشر في إدارتها. ربما لم يكن رجال الحكم والأمن في مصر يحلمون بأن هذا النموذج ممكنٌ. الأمن يتحرر الآن من قيود العنف والاستثناء والطوارئ والسياسة، ينعتق نحو حالة صافية من الإجراءات والتقنيات والتكنولوجيا، غير مكترث هذه المرة بتبرير نفسه تحت أي مزاعمَ خارجه.

______________

1-رابط دعائي لشركة عقارية تروج لما تقول أنه أفخم الأحياء المسيجة في العاصمة الادارية الجديدة
https://realestate.eg/ar/blog/new-capital-compounds/new-administrative-capital-map
2- تقول في تعريفها عن نفسها إنها "تقوم بخدمة أكثر من 1500 موقع عبر فروعها المنتشرة في أنحاء الجمهورية وغرفة عمليات مركزية تعمل 24 ساعة على مدار الاسبوع. وتحرص الشركة على تعزيز أنظمتها الأمنية وفقًا لأحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا في ذلك المجال إلى جانب مواكبة أحدث التطورات التي تطرأ على الساحة العالمية في مجالي الأمن والحراسة، وذلك في إطار مساعيها الرامية لتصبح واحدة من أفضل مقدمي خدمات الأمن والحراسة حول العالم." www.falcongroupinternational.org

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...