"الإنسان بينضرب عالغُربة"، هيَ خلاصتي الوحيدة بعد عامين من عيشي في اغتراب لا أعلم ما إذا كان مؤقتاً أم طويل الأمد. الأكيد أنه حتى الآن "ضربني" في رأسي. بلى، صرت أرى بيروت أجمل مدن العالم. بلى، هو رأيٌ انفعالي، غير منطقي وحنينيٌّ بطريقة مبتذلة حتى، لكنّه يمثّل مهرباً سهلاً من محاولة الإجابة على سؤال مزعج زنّان مثل "ليش مش مبسوطين برّا البلد رغم إنو ما صّدقنا نطلع؟". وقت استمعت إلى ألبوم "أحلى من برلين" مؤخراً (ألحان فرج سليمان وكلمات مجد كيّال)، قلت لنفسي أن هؤلاء أيضاً "انضربوا". بدت لي أغنية "في أسئلة براسي"، مثلاً، بدورها محاولة مراوِغة أخرى لسؤال "ليش مش مبسوط؟"...
حكيلي شو بحكو أخبار
عطيني شو عندك نميمة
بلا خرّاف الجارات
القهوة بطّل إلها قيمة
كم هي حقيقية – بصراحة – حرقصة الخروج من دائرة النميمة وتقصّي أخبار المعارف. بدون هذه الأخبار، يصير المرء غريباً بحق، يشحذ المعلومة القيمة عند عودته لبلاده. لكن الخبرية البائتة لا تشفي الغليل. خلَص.. لقد تحقق قطعٌ ما. النميمة مجرد حجة تافهة، لكن الفكرة في الانقطاع نفسه بكل مستوياته، وما يفعله بدواخل الإنسان، كأن تكون "شوي بتوجّع برلين / حلوة وملانة ناس / بس بشتاق لإم صبري / وبشتقلك بالأساس" (من الأغنية نفسها)، مصداقاً لقول كبارنا "الجنّة بلا ناس ما بتنداس" (وعلى القافية أيضاً).
هؤلاء الناس يكزدرون في الألبوم بين أغنية وأخرى، ويفتحون للمستمع أبواب عوالمهم. يجد الواحد نفسه في فقاعة الألبوم في عالم يمشي فيه بين برلين وحيفا، قصص الحب والفقد، مراثي الشهداء، الأغنيات الساخرة، بعض الخبريات والكثير، الكثير من الأسئلة.
أغنية "في أسئلة براسي".
حقلٌ معجميٌ لحيفا
صدر ألبوم "أحلى من برلين" مساء السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2020، وحلّ فيسبوك بديلاً لحفل الإطلاق التقليدي، فرضته ظروف حائجة كورونا. الألبوم يضمّ 11 أغنية، شارك في أداء بعضها شادن قنبورة، هنري اندراوس، سماء واكيم، وائل واكيم، بالإضافة لفرج سليمان كمغنٍّ رئيسي.
تشريح العزلة.. بورتريه لرجل خائف ووحيد
19-03-2020
لم يكد يمضي اليوم الثاني على الإطلاق حتى جاء خبر اعتقال مجد كيّال، كاتب الأغاني، وأخيه ورد، على يد المخابرات الإسرائيلية، فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر (ليُعاد ويُطلق سراحما مساءَ)، وهو اعتقال يقول مجد أن لا علاقة له بموضوع الألبوم، بل هو يأتي كجزء من حملة ترهيب جوّالة في المناطق، ولا تقتصر عليه وعلى ورد. لكنه أمرٌ يعيد تذكيرنا بأنّ أغنيات "أحلى من برلين"، في الآخر، هي عن الحياة "العادية" التي لا يمكن لها أن تكون عاديّة، تحت الاحتلال الذي يغلّف كل نواحيها، وأنه بالمختصر "بعده كل ليلة البوليس بت**** ع ولاد العرب" (من أغنية "في أسئلة براسي"، كلمات مجد نفسه)...
لكن، على الرغم من كل هذا، ومن كلّ تغيير طرأ عليها، تبقى حيفا بعين أهلها ومحبيها مدينة أحلى من برلين تلك التي يرغب الجميع بالسفر إليها، بل أجمل من أيّ مكان على وجهِ البسيطة. أهلها شهود على كل ما يتبدل فيها وفي أنفسهم، وفي أغنيات هذا الألبوم، يصير لهؤلاء الشهود صوت يغنّون به ما لم يقولوه عنها بعد.
أغنية "شارع يافا".
تدخل بين الأغاني فتجد معجم كلمات بسيط وغريب في آن. تنتبه إلى أنك لن تجد الكثير من الأغنيات بلغتنا، تقول "العالم كلو ماكدونالدز" أو "شو بدك بجوزك" أو "بيتذكر وينتى الإباضة" أو "بعده بيلبّط معي الرز" - أو مثلاً "شفت لوحات رينيه ماغريت ومفهمتش إشي شيلي شيلي"! عن هذا يقول مجد أنّ كتابة الأغاني تحتاج إلى إيجاد زاوية معالجة ما، صورة جديدة تستوقف المستمع، "كما يفعل أي صانع أفلام أو ستاند-أب كوميدي، يأخذ تفصيلاً معيّناً أو ناحية يعرفها الجميع، لكن لا يركّزون عليها بالضرورة، في الأشياء اليومية، يجد فيها تناقضات أو يتقصّى معنىً مختلفاً، قد يكون ساخراً أو عبثياً أو عاطفياً... هي أمور يفكر بها الأشخاص دون أن يقولوها بالضرورة. تقولها الأغنية..."
أغنية "مرثية لشهيد وحيد".
في الواقع، هناك نوع من فقاعة متخيّلة تلمّ كل أغاني الألبوم في عالم واحدٍ له معالمه وصفاته. فلا تبتعد الموسيقى عن نفسها بين أغنية وأخرى، بل يغلبك شعور بأنها كلها جزء من قصة في فصول، سابحة في فضاء واحد. يقول فرج بأنه يميل في معظم الأحيان إلى اختيار جمل موسيقية قصيرة يلتقطها من يسمعها ويرددها بيسر. لذا كان اللحن يطلع دون كثير عناء، بسيطاً وتلقائياً. بالنسبة له، فإن ما يميز موسيقى الألبوم هو كونها "ما بتشوف حالها عليك، بمعنى أنها بمتناول الجميع، تُشعِر المستمع بأنه يستمع لموسيقى مألوفة، لكنها جديدة في الآن نفسه، سهلة الهضم ولا تخلو من عمق وحساسية". يمكن القول أن الموسيقى "عابرة للأجيال"، "اللي عمره 15 واللي عمره 50 ممكن يسمعها"، ويضيف مجد أن الجديد في الموسيقى السائدة غالباً ما يتوجه للفئات الشابة، مقصياً الأجيال الأكبر سناً من دائرة اهتمامه تماماً، لذا فمن الجميل أن تستطيع هذه الأغنيات الوصول إلى الجميع بلا تعيين.
هويّة فلسطينيّي الداخل ثمناً لهزائم العرب
30-04-2015
كون الألبوم عملاً تشاركياً بالكامل بين المؤلفَين الصديقين أتاح لهما آليّة عمل غريبة بعض الشيء، يصفها مجد كالتالي: "الحقيقة هي أنني لا أنام، أشتغل حتى الصباح. أكتب في الليل وأرسل لفرج فجراً. يستيقظ هو في السادسة والنصف، يرى ما أرسلت له، ويبدأ بالعمل على الموسيقى. نحو الساعة الثالثة، يكون فرج قد بدأ بتأليف شيءٍ ما. يأتي مع كلبته "مسكة" لعندي ليتمشوا في الشارع، فأنزل أمشي معهم ونتحدث عمّا عملنا عليه ونتبادل الآراء. هذه هي الدورة الشغالة بيننا، وهي بطريقة ما ناجحة". وإذ يفترض هذا النوع من الشراكة إلغاءً لل"إيغو" إلى حد ما، يقول فرج أن طول العِشرة والصداقة جعل التعاون شديد السلاسة، يبدأ بأصغر التفاصيل، ويتعدّى الشغل على إخراج الألبوم نفسه إلى الحوار الدائم حول الفكرة وفهم ما يريد العمل أن يقوله بصورته الكبيرة.
تعاون الاثنان سابقاً في ألبوم للأطفال بعنوان "قلبي غابة" (غناء رنين حنّا)، والآن يحضّران لما بعد "أحلى من برلين": ألبوما أطفال، أحدهما سيصدر خلال نحو شهرين. يؤكدان أنهما منفتحان على أفكار كثيرة مستقبلاً، قد تتعلق بالمسرح، عروض الكباريه والميوزيكال. "نحن في علاقة مفتوحة مع مختلف أنواع الفنون"، يقول مجد. حتى أنّ المستمع إلى الألبوم الحالي سيجد لا بدّ نفَساً مسرحياً فيه، في طريقة نطق الكلام وتلحينه وفي تقديم شخصيات لها قصص وصفات وعوالم وعواطف يشاركونها، وأدائها بصوت السكران والمشتاق والعاشق والزوجة وغيرهم.
أغنية "رقصة السّكران".
مدننا "نحن"
إذا كانت الكلمة المفتاح هي حيفا، فإن مواضيع الألبوم بالتأكيد تعرّج دوماً على الاغتراب. في "الجنترة" (gentrification) والاحتلال وشبح الهجرة وفقدان التواصل مع الأحبة، اغترابات متعددة تعود إليها الأغنيات مرّة بعد أخرى. يقول مجد أن الشعور بالاغتراب يصيبك أحياناً حتى حين تسكن في البلاد ولا تغادرها، ويضيف فرج، "نحن نتوجه لأنفسنا بالكلام في الأغاني، نحاول إقناع ذواتنا بأن مدينتنا أحلى من برلين ومن أي مكان، ونراها كذلك فعلاً، ونجد أسباباً للبقاء". يكرر الاثنان أنّ نظرتهما إلى حيفا تحكمها "التّياسة" وانعدام المنطق، لكنها حقيقة شعورهما.
وأنا أهزّ برأسي. عندما كنتُ في بيروت، كنت أشعر بالحنين إلى بيروت الأغاني، إلى فكرةٍ أجمل عن المدينة المتعِبة، إلى مدينة في المخيال لا أجدها حين أمشي في الشارع وتعتدي عليّ بكلّ صلافتها المألوفة. وعندما تركتها و"انضربت"، صرتُ أراها أجمل من الأغنيات. لا أعلم ما هو المطلوب من أغاني المدن، لكنها أحياناً تصير باب عبورٍ أخير إلى ما تمنينا من مدننا أن تكونه. مدننا "نحن".
أغنية بعد أخرى، تصير تتشكل صورة ما عن حيفا في المخيلة، هي صورة محوّرة عن بيروت وبحرها وأحيائها. "مين قال إنه الشوارع راح تضلا نفس الإشي؟ مين قال إنه المدينة بعدها بتنقطع مشي؟"، نفس الأسئلة التي نسألها منذ سنوات في مدننا التي تتعرض للطعوجة والبتر والتركيب العنيف بوساطة ال"جنترة" الممنهجة. حيفا تحمل ذلك كله بالإضافة للاحتلال. هموم الشوارع تتسرّب حتى من أكثر الأغنيات فرحاً، وإذ يسأل السائل في أغنية تلّ السمك، "شو كان لو أرجع ولد/ بعدُه ما خاف من الأمل؟/ شو كان لو ضلّ العمر/ أيام سايقها الهبل؟"، يجيب فرج ومجد بأنهما، كما الجميع، لا يملكان الإجابة على السؤال، ويعوّضان الإجابات بأسئلة صغيرة وكبيرة يملآن بها الأغنيات.