على طرفي نقطة التموضع التّام مع خيار المقاومة، بكلّ ما يحمله ذلك من تبعات الغوص الكامل في مستنقع سياسة الإقليم والمرحلة، تسود الكثير من الخطابات البائسة، والتي ينتج بعضها محلياً - بحسن نيّة، أو بسوء ـ في حين يُستورد البعض الآخر عبر التّرجمات. واحدٌ من هذه الخطابات هو خطاب «الشّعب يدفع الثّمن»، الذي يطلّ برأسه بأشكال عدة، لا سيّما حين يتعلّق الأمر بالبحث في «مطالب» فصائل المقاومة الفلسطينيّة للوصول إلى وقف لإطلاق النّار.
ليس نادراً، بهذا المعنى، أن تجد من يحلل لك المشهد بمعركة تدور بين حماس مثلاً، وبين إسرائيل، وقد علِق «الشعب» فيها عن طريق الخطأ. ولا سرّ يكشف حين نقول نعم، بلا شك، هناك شريحة مجهريّة من سكّان غزّة يعتبرون ما يجري معركة حماس التي لا دخل لهم بها، والتي قد يُضطرون للمساهمة في دفع فاتورتها «رغماً عنهم».
وفي واقع الأمر، فإنّ خطاب «الشّعب يدفع الثّمن» ليس بالغ الخطورة فحسب، بل وممتلئ عن آخره بمغالطات ووقاحات. أوّلى هذه المغالطات هو افتراض انعدام قدرة الجماهير الفلسطينيّة في غزّة (الشعب) على إنتاج المعنى السياسيّ، وتقديم هذا (الشعب) على أنه مجموع عاجز بالمطلق. من يقدّم هذا الخطاب إنما يضمر في دواخل نفسه احتقارا شديدا لكلّ من ليس فردا في جناح مسلح لفصيل فلسطيني فاعل في غزّة، ويعتبره أبله، تافها، «يدفع الثمن»، ويحتاج من يدافع عنه ويتحدث بلسانه، ناهيك طبعا عن تغييبه البالغ الوضاعة لتاريخ قطاع غزّة في العقد الأخير.
إنّ المجموع الفلسطيني في غزّة، هذا «العاجز الذي يدفع الثّمن»، هو الذي انتخب حماس في 2006، وهو الذي نسف (بكلّ معنى الكلمة) مشروعاً دولياً شاركت فيه أميركا وأوروبا وإسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينيّة، كان يهدف لحصار غزّة حتى يثور أهلها على خيار إطلاق النار على إسرائيل. وهنا نتحدث عن ممارسات يوميّة، وقرارات، وأفكار ابداعيّة للتغلّب على العالم يمكن أن نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر أنفاق رفح، وبابور الكاز، وتسيير السيّارات على زيت القلي.
أمّا ثاني المغالطات، والتي لا تقلّ وقاحة عن الأولى، فهي محاولة استحداث «جدار فصل» بين الفلسطيني المسلّح في غزّة، والفلسطيني الذي لا يحمل السلاح، في حين أنّ العلاقة بين الاثنين، على الأرض، هي مثال فاقع على التبادليّة والتفاعليّة، لا سيّما في أوقات العدوان. فلنتذكر أنّ (الشعب) الغلبان الذي (يدفع الثمن) خرج يرقص بعد انتهاء عدوان عامود السحاب فرحا بضرب تل أبيب.
أما المغالطة الثالثة، والأهم، فهي تغييب الجذر والتعامل الوقح مع تاريخ آخر 66 سنة من حياة الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة وخارجها. يريد لنا جماعة «الشّعب يدفع الثمن»، بطريقة ما، أن نلغي تماما فكرة أنّ إسرائيل قائمة، وأننا سنظلّ نموت ما دامت قائمة، وأن نغضّ البصر عن الحقيقة التالية: منذ لحظة نكبتهم إلى اليوم، مال فؤاد الفلسطينيين إلى الذين يقاومون ضدّ إسرائيل. عندما كانت فتح تقاوم، كان (الشعب) مع فتح. عندما قاومت حماس، صار (الشعب) مع حماس. لم يحدث ولا مرّة في تاريخ القضيّة أن وُجدت مسافة بيّنه، بين أي تجمع بشري فلسطيني، وبين الحالة الرياديّة المنطلقة من هذا التجمّع في مواجهة إسرائيل.
والقائمة، في حقيقة الأمر يمكن لها أن تطول. فهذا الخطاب ينزع عن المقاومة، وأفرادها، مركباتهم الإنسانيّة والشعبيّة. إذا كان (الشعب) يدفع الثمن، فهذا يكون بافتراض أنّ «المقاومة» لا تدفع الثمن - وإنّ هذا افتراء وهبل. إنّ أفراد كتائب القسّام وسرايا القدس هم من شباب غزّة، وأنا متأكد أنّ من لا يستشهد منهم في ميدان المعركة، فسيكون - بلا شك - على جدول أعماله بعد انتهائها أن يزور قبر أخيه، أو ابن عمّه، أو صديقه، أو أن يلقي نظرة على بيت مهدّم مملوك له أو لأحد من معارفه.
ولهذا كلّه نقول لأصحاب خطاب «الشعب يدفع الثمن»: روح يا حبيبي العب بعيد أرجوك، ومتصدعناش.
مواضيع
عن خطاب "الشّعب يدفع الثّمن"
مقالات من غزة
خالدة جرار مسجونة في قبر!
"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...
اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة
لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...
كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..
شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...
للكاتب نفسه
الكنيست الإسرائيليّ كما يُشاهد من غزّة
عادت مشاركة العرب الفلسطينيين في إسرائيل في انتخابات الكنيست لتحتّل نصيب الأسد من جدالات المقاهي وشبكات التواصل. الحدّة التي تتسم بها هذه الجدالات بين أطراف يصعب على مراقب خارجيّ أن...
داعش والأربعون مثقّفًا
ضجّ الفضاء الإلكتروني الفلسطيني في الأيّام الأخيرة بأحاديث تتعلّق بالدولة الإسلاميّة ووجودها في قطاع غزّة. جاء هذا بعد أن عثر طلاب في جامعة الأزهر بغزّة على بيان يحمل شعار الدولة...
لا نريد «رام الله» أخرى هنا
«ما حققناه، وأقول هذا تواضعًا، هو أننا خلقنا رجالاً جددا»: الجنرال كيث دايتون، مدير المركز الأمني الأميركي في الضفّة الغربيّة، في خطابه أمام معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.قدّمت الحكومة الفلسطينيّة...