«ما حققناه، وأقول هذا تواضعًا، هو أننا خلقنا رجالاً جددا»: الجنرال كيث دايتون، مدير المركز الأمني الأميركي في الضفّة الغربيّة، في خطابه أمام معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
قدّمت الحكومة الفلسطينيّة إلى مؤتمر إعادة إعمار غزّة الأخير في القاهرة خطّة متعددة المراحل يتطلب تنفيذها جمع ما لا يقلّ عن أربعة مليارات دولار. ولقد نجح مؤتمر القاهرة بشكل مبدئيّ، بحسب تصريحات وزير الخارجيّة النرويجي، في جمع 5.4 مليارات دولار ستتوزّع بين جهود الإغاثة المباشرة لقطاع غزّة، ودعم ميزانيّة السلطة الفلسطينيّة.
لا يختلف مؤتمر الإعمار الأخير هذا عن مؤتمرات سابقة بسبب ضخامة المبالغ المطروحة على طاولته فحسب، بل لرغبة المانحين في أن تكون للسياسة حصّة أكبر في جدول أعماله. لقد ضاق المانحون الأوروبيّون ذرعاً بمنح أموال للسلطة الفلسطينيّة من أجل «التنمية» والإعمار من دون تحقيق تقدّم ملموس في «عمليّة السلام» ما يضمن بحسب الفهم الأوروبي - ألا تعيد إسرائيل قصف كلّ ما يعمّر.
كما أنّ هذا المؤتمر يتميّز بتوقيته الذي يجيء بعد زيارة «نوعيّة» قامت بها حكومة السلطة لقطاع غزّة وتصريحات مطمئنة أدلى بها رئيس الوزراء رامي الحمدلله من فوق الركام متوّجاً سلسلة من التصريحات التي صدرت حول استلام السلطة الفلسطينيّة معابر غزّة والشروع في «تسهيلات» لتنقل الغزيين، والتي كان من بينها منح مئات التصاريح لمن تفوق أعمارهم الستين عاماً للوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه.
إعادة إدخال غزّة في اللعبة
تربّع الفلسطينيّون طويلاً على عرش المتلقي الأكبر لأموال المانحين الدوليين، متفوقين في ذلك على الكونغو ونيكاراغوا. وصلت قيمة المساعدات الإنسانيّة الدوليّة الممنوحة للسلطة الفلسطينيّة في الفترة 2001-2010 إلى حوالي 6.4 مليارات دولار، ما يضعها في المركز الثاني بعد السودان الذي حصل في الفترة نفسها على أكثر من تسعة مليارات. ولولا زلزال هاييتي المدمّر في العام 2010 لكان الفلسطينيون المتلقين الرقم واحدا لأموال المانحين في العام نفسه لجهة نصيب الفرد، بواقع 319$ للفرد الواحد.
أغلقت عن غزّة «حنفيّة الأموال» هذه بعد حسم حماس العسكريّ في عام 2007، في حين ظلّت مفتوحة على الغارب في الضفة الغربيّة التي بدت حسنة المظهر والسلوك، وقدّمت دلالات مرونة سمحت بتحقيق عدّة مشاريع كبرى كان أهمّها نزع السلاح، إعادة تصميم الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة التي قادها الجنرال الأميركي كيث دايتون، ومضاعفة أعداد ونفوذ المنظمات غير الحكوميّة والوكالة الأميركيّة للتنميّة الدوليّة USAID.
ومع هذا الحراك الدوليّ والمحليّ لإعادة إدخال غزّة في اللعبة، يفرض الواقع المركّب في غزّة، والدمار الضخم الذي أحدثه العدوان الإسرائيليّ وسنوات الحصار الطويلة، ضرورة اتخاذ موقف مركّب لا يقف عند حدود الإدانة والشجب، بل يدخل في معترك توفير البدائل وتقييم نقاط القوّة الداخليّة في القطاع واستقراء ما اذا كانت إعادة إدخال غزّة في اللعبة ستمنحها، وهي الإقليم المكتظّ والمسلّح عن آخره، القدرة على إلحاق ضرر أكبر باللعبة من داخلها وبلاعبيها الرئيسيين.
غياب الإعمار المقاوم؟
لا تستطيع حركة حماس أن تحقق إعماراً مقاوماً في قطاع غزّة مثلما فعل حزب الله في جنوب لبنان. ولهذا أسبابه الموضوعيّة التي تدخل فيها جغرافيا غزّة وطبيعة النشاطات الاقتصاديّة فيها، وموقع حماس السياسيّ بعد الثورة السوريّة، وأزمتها الماليّة الخانقة، وهي الأزمة التي دفعت، منذ البداية، للجنوح نحو السلم مع حركة فتح وسلطة رام الله.
كما فرض العدوان الأخير على غزّة واقعاً جديداً لا تستطيع معه حملات الإعمار شبه الذاتيّ المحدودة، كتلك التي حدثت بعد عدوان الرصاص المصبوب، أن تلبي الحدّ الأدنى من المتطلبات الاقتصاديّة والاغاثيّة لقرابة مليوني فلسطيني يسكنون قطاع غزّة، ناهيك بتحقيق أي «تنمية» تحت الاحتلال، كتلك القائمة في الضفّة الغربيّة.لكن العجز عن تحقيق إعمار مقاوم لا يعني بالضرورة العجز عن مقاومة الإعمار الدوليّ الذي سيقوده «الفلسطينيّون الجدد» القادمون إلى غزّة، وقصّ أجنحته.
تنبع إمكانيّة مقاومة الإعمار هذه من عدّة روافد اجتماعيّة وسياسيّة وعسكريّة أهمُّها أنّ الجهات الأكثر تغلغلاً في النسيج الاجتماعيّ الغزّي، والأكثر قدرة على إنتاج العنف القهريّ داخلياً، هي الأجنحة المسلّحة للفصائل الفلسطينيّة، لا السلطة الفلسطينيّة العائدة بخجل.
ولا تستوي مقاومة الإعمار الدوليّ هذه إلا بالكشف عن الروابط والنقاط التي تتقاطع فيها مصلحة إسرائيل واقتصادها مع هذه الجهود الدوليّة والمليارات الموعودة، ومحاربة هذه الدائرة المفرَغة حيث تدمّر إسرائيل بيوت الفلسطينيين ومدارسهم، ثمّ تستفيد من استيراد مواد البناء عبر «أراضيها» لإعادة البناء، ثمّ تسمح للعمال الفلسطينيين سكان البيوت المدمرة - كما صرح حسين الشيخ رئيس هيئة الشؤون المدنيّة، بالدخول للعمل في إسرائيل ليستفيد الاقتصاد الإسرائيلي ويبني المقتولون بيوتَ القَتلة.
الحدّ من شرورهم
يقول عالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو انّ كلّ سلطة تدين جزئياً في وجودها وبقائها للجهل ببعض آليات عملها. ومن هنا تنبع أهميّة الكشف عن آليات وسياسات جهود إعادة الإعمار الجارية على قدم وساق، وفهم ارتباطها الوثيق بسياسات وآليّات الاضطهاد والاحتواء والتحكم، وضرورة الاستعداد لمرحلة قادمة تكون فيها غزّة على موعد مع الفلسطينيين الجدد.
وإن كانت غزّة، بعد حصارها ودمارها الواسع، غير قادرة على غلق الأبواب كلياً في وجه الفلسطينيين الجدد، فإنّ بإمكانها، وهي البيئة الحاضنة للمقاومة المسلحة الفلسطينيّة ومكان انكشاف ماكينة القتل التي اسمها «إسرائيل» على حقيقتها المجرّدة، بإمكانها أن تحدّ من شرور الفلسطينيين الجدد، وشرور رؤسائهم في تلّ أبيب، بل أن تقلب السحر على الساحر.
ولغزّة في هذا أوراق قوّة جاهزة وأخرى مكتسبة. إعادة الربط بمنظومة السلطة الفلسطينيّة سيحقق لغزّة، سياسياً، قدرة أكبر على إلحاق الضرر بمشروع أوسلو من الداخل. كما سيوفّر تخفيف الحصار، أو إزالته، وهي الشروط اللازمة للشروع في تطوير وتجهيز البنية التحتيّة للمقاومة وأدواتها الهجوميّة بوتيرة أسرع من سنوات الحصار.
إنّ كلّ «مخاطر» الإعمار والتسهيلات والتنمية الاقتصاديّة التي يتوعد بها الفلسطينيون الجدد غزّة يمكن لها أن تكون ثنائيّة الغاية والموئل. السماح للعمال الفلسطينيين من غزة بالعمل في إسرائيل، مثلاً، هو إعادة فتح خطيرة لباب قمع واستلاب مغلق منذ سنوات، لكن ثمّة فيه، إنْ تحقق، مركبات يمكن استثمارها لإلحاق الضرر بالاخطبوط الإسرائيليّ.
وأياً تكن طبيعة التطورات في مستقبل غزّة القريب، وبغضّ النظر عن وتيرة جهود الإغاثة وإعادة الإعمار وطبيعة الإجراءات الاحترازيّة التي ستطبقها الأمم المتحدة لضمان عدم وصول الأموال «إلى الأيدي الخطأ»، فإنّ في غزّة، بشكل مبدئيّ، ضمانة تشي ببعض الطمأنينة المحدودة. ومهما حدث، فإنّ غزة، أقلّه في المستقبل القريب، لن تكون مصنعاً للفلسطينيين الجدد.
مواضيع
لا نريد «رام الله» أخرى هنا
مقالات من فلسطين
نحن شعوب مستعدة لمقاومة بربريتكم وبربريتنا
نحن نعرف تماماً من نحن. فمن أنتم؟ وعلامَ تقدرون؟ نحن نعرف أنفسنا بعمق، بالعاطل والحسن الذي فينا، ونعرف أنكم لا تملكون شيئاً. أية قدرات، أية معرفة، أي تاريخ، أي معطى...
الإمبريالية وأزمة المناخ وتحرير فلسطين
تُظهِر فلسطين اليوم بوضوح تام قبحَ النظام الحالي وتُكثّف تناقضاته القاتلة. وهي تُظهِر أيضاً ميله إلى الانتقال نحو استخدام العنف الوحشي الخالص على نطاق واسع. ما يجري أيضاً هو إبادة...
لا شيء سوى الصمود!
قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.
للكاتب نفسه
الكنيست الإسرائيليّ كما يُشاهد من غزّة
عادت مشاركة العرب الفلسطينيين في إسرائيل في انتخابات الكنيست لتحتّل نصيب الأسد من جدالات المقاهي وشبكات التواصل. الحدّة التي تتسم بها هذه الجدالات بين أطراف يصعب على مراقب خارجيّ أن...
داعش والأربعون مثقّفًا
ضجّ الفضاء الإلكتروني الفلسطيني في الأيّام الأخيرة بأحاديث تتعلّق بالدولة الإسلاميّة ووجودها في قطاع غزّة. جاء هذا بعد أن عثر طلاب في جامعة الأزهر بغزّة على بيان يحمل شعار الدولة...
شباب غزّة المهاجر مات مقتولاً
في واحدة من أعذب أغنياته، غنّى وليد عبد السلام لغزّة، المدينة التي لم تخن بلدها. المدينة التي جاعت ولم تقدّم سَمَكها للاحتلال. غزّة، بحق، لا تعرف الخيانة، ولا تحيد عن...