يعتبر المسح الإحصائي السنوي الذي تصدره شركة "بريتش بتروليوم" (بي.بي) بصورة منتظمة منذ العام 1952، من الوثائق البارزة والمهمة التي يتابعها المهتمون بتطورات الصناعة النفطية حول العالم، لما تحتويه من معلومات وأرقام توفر الأساس لأي تحليلات أو تطورات تتعلق بالسوق النفطية.
الطبعة الجديدة من هذا المسح التي صدرت هذا العام في حزيران/ يونيو الماضي، حملت نقلة نوعية تمثلت في أن "بي. بي" تحدثت لأول مرة عن أن الصناعة النفطية في طريقها لتبلغ الذروة. وتعبير ذروة النفط، صكه الجيولوجي الأمريكي كنغ هيوبرت معتمداً على أبحاثه، ويعتبر أنه مع استمرار استهلاك هذه السلعة الناضبة، فإنه سيأتي الوقت الذي لا تتوفر فيه الإمدادات الكافية لتلبية الطلب المتنامي، وهي المرحلة التي أطلق عليها "ذروة النفط".
على أن ذروة النفط في مفهوم "بي.بي" تستند إلى ضعف الطلب، أي عكس ما كان يبشر به هيوبرت والقائم على شح الامدادات، بل ونضوبها من مناطق الإنتاج. وفي تقدير "بي.بي" أن عامل فيروس الكورونا أسهم في التسريع بتحطم الطلب، الذي يبدو أنه وصل قمته مع بلوغ حجم الاستهلاك حول العالم 100 مليون برميل يومياً، وأنه سيكون في حالة تراجع يمكن أن تصل إلى ما نسبته ثلاثة أرباع هذا الرقم، ليستقر عند 25 مليون برميل بحلول العام 2050. وتحديد هذا العام مهم لجهة أنه يشكل علامةً فارقة، إذ حددته اتفاقية باريس للمناخ لخفض معدلات الانبعاثات الحرارية حول العالم. وهذا هو العامل الرئيسي الذي أصبح يشكل عنصر ضغطٍ، تجاوز الاجتماعات المغلقة للعلماء والأكاديميين ليصبح موضوع التغير المناخي قضيةً مطروحة في الفضاء الكبير، بل ويصبح مادة في الجدل السياسي والانتخابي كما هو الحال في الولايات المتحدة مثلاً، وفي اجتماعات الجمعيات العمومية للشركات النفطية. فهي باختصار أصبحت قضية رأي عام مطروحة في كل مكان، الأمر الذي دفع بمختلف المؤسسات من حكومات وشركات إلى أخذها بالاعتبار، والتصرف حيالها بصورة ما.
مراحل الانتقال
في بريطانيا مثلاً قام رئيس الوزراء بوريس جونسون بتقديم الموعد الذي سيمنع فيه بيع السيارات التي تسير بالوقود الأحفوري بخمس سنوات، وذلك ابتداءً من العام 2030، علماً أنه في شباط/ فبراير المنصرم تمّ تقديم الموعد من 2040 إلى 2035.
أوبك في زمن الكورونا
11-03-2020
أما الشركات النفطية، فقد بدأت تتواتر الخطوات التي تتخذها لمرحلة الانتقال من التركيز على الأنشطة في مجال الوقود الأحفوري إلى ميادين الطاقة المتجددة، وهي عملية ستكلف أموالاً ضخمة قدرت بحوالي 15 تريليون دولار على مدى ثلاثة العقود المقبلة، ولتغطي مختلف الميادين خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والتسريع في إنتاج السيارات الكهربائية، وزيادة اعتماد الشاحنات على الوقود الهيدروجيني، والتحول إلى وقود الطائرات الأخضر. وتشير إحدى الأوراق التي قامت بإعدادها "شركة رايستاد للدراسات" إلى أن قائمة من الشركات الكبرى تضم أكسون/موبيل، رويال دتش شل، شيفرون، توتال، أيني، وبي.بي، تخطط لبيع أصول تبلغ قيمتها 100 مليار دولار حول العالم، وذلك في خطوة استراتيجية لمواجهة تحديات عمليات التغير المناخي، والانتقال إلى مشروعات الطاقة المتجددة. وأصبحت هذه القضايا تتصدر اجتماعات مجالس الإدارات. وفي هذا الإطار سيتم التخلي عن أصول تشكل نحو 68 مليار برميل نفط مكافئ، كما سيتم التخلي عن إنفاق مبلغ 20 مليار دولار في العام المقبل كانت مخصصةً لبعض المشروعات، وكل ذلك في إطار الإعداد لمرحلة الوصول إلى الصفر فيما يتعلق بالانبعاثات الحرارية.
"ذروة النفط" في مفهوم شركة بريتش بتروليوم، التي تُصْدِر منذ 1952 تقريراً سنوياً للمسح الإحصائي، يستند إلى ضعف الطلب، أي عكس ما كان يبشر به الجيولوجي الأمريكي هيوبرت الذي صاغ المفهوم، ويعتبره قائماً على شح الامدادات، بل ونضوبها من مناطق الإنتاج.
يبلغ حالياً حجم الاستهلاك حول العالم 100 مليون برميل يومياً، ويتوقع أن يكون في حالة تراجع يمكن أن تصل إلى ما نسبته ثلاثة أرباع هذا الرقم، ليستقر عند 25 مليون برميل بحلول العام 2050. وتحديد هذا العام مهم، إذ حددته اتفاقية باريس للمناخ لخفض معدلات الانبعاثات الحرارية حول العالم.
شركة "بي.بي" مثلاً ستقوم بتقليص أنشطتها في مجال مشروعات الوقود الأحفوري بنسبة 40 في المئة وترفع حجم استثماراتها في ميادين الطاقة المتجددة من الرياح والشمس إلى خمسة مليارات دولار سنوياً، من 500 مليون فقط في السابق. أما رصيفتها شركة شل، فقد قررت إغلاق مصفاة التكرير التابعة لها في نيو أورليانز، التي ظلت عاملة لفترة 53 عاماً، وذلك في إطار استراتيجيتها العامة لتقليص حجم أنشطتها في مجال الوقود الأحفوري، وهي تتضمن في جانب منها خفض عدد المصافي التابعة لها من 14 إلى 6، وأن تلك التي ستبقى ستكون مجمّعات متكاملة تضم معامل للبتروكيماويات. وفي هذا الإطار بدأت تبرز ظاهرة أن معظم دخل الشركات النفطية يعود إلى أنشطة غير نفطية.
ومثال آخر: شركة فيتول العاملة في مجال تجارة النفط بيعاً وشراءً في حدود 8 ملايين برميل نفط يومياً، لكن الشركة أصبحت تتجه في الآونة الأخيرة إلى العمل في مجال السيارات المستعملة، وذلك استناداً إلى دراسة داخلية قامت بها، ووجدت أن الطلب على النفط سيبلغ ذروته بحلول العام 2030، الأمر الذي سيفرض عليها البحث عن ميدان جديد لنشاطها الاقتصادي.
هل يتجه عصر النفط إلى الغروب؟
14-08-2017
على أن أحوال شركة أكسون/موبيل تشير إلى المستقبل القاتم الذي ينتظر الصناعة النفطية. فهذه الشركة كانت تعتبر الأكبر في العالم من ناحية القيمة السوقية للشركات المطروحة أسهمها في البورصات. بل وفي فترة من الفترات، كانت تملك عدداً من ناقلات النفط يتجاوز ما لدى الاتحاد السوفياتي، ثاني القطبين الرئيسيين في العالم وقتها. مؤخراً أعلنت الشركة ولأول مرة منذ 38 عاماً أنها لن تزيد في دفعياتها لحمَلة أسهمها، بعد إعلان نتائج الربع الثالث من هذا العام التي جاءت مخيبة للآمال. وكان من معالم الأداء الضعيف للشركة التخلص من 14 ألف وظيفة، بل وتمّ سحب أسهم الشركة من مؤشر داو جونز الصناعي، وذلك للمرة الأولى منذ قرابة مئة العام.
بدأت الشركات النفطية تستعد لمرحلة الانتقال من التركيز على الأنشطة في مجال الوقود الأحفوري إلى ميادين الطاقة المتجددة، وهي عملية ستكلف أموالاً ضخمة قدرت بحوالي 15 تريليون دولار على مدى الثلاثة عقود المقبلة، وتغطي مختلف الميادين، خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والتسريع في إنتاج السيارات الكهربائية..
الشركات النفطية الأوروبية كانت الاكثر استعداداً وبذلاً للجهد في الاستجابة لهذه المتغيرات والعمل على التحول إلى ميادين الطاقة المتجددة، عكس رصيفاتها الأمريكية التي وجدت في قرار إدارة ترمب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ما يعطيها وقتاً إضافياً، لكن عودة الديمقراطيين إلى الحكم سيضعها تحت ضغوط جديدة.
نبوءة اليماني
يبقى السؤال الأكبر يتعلق بالشركات النفطية الوطنية في الدول المنتجة، خاصة الخليجية منها، التي تملك احتياطيات نفطية ضخمة من الوقود الأحفوري وفرت الأساس الاقتصادي لأنظمتها السياسية، ومخرجاً لبعضها عندما انهارت تجارة اللؤلؤ، عماد النشاط الاقتصادي وقتها.
الرؤية الاقتصادية قصيرة النظر لأمير النفط
06-10-2019
وتعطي المتاعب التي تمر بها شركة النفط الوطنية السعودية (أرامكو) لمحةً عمّا ينتظر هذه الشركات ومن ورائها حكوماتها. فنتائج الربع الثالث لهذا العام توضح تراجع أرباح أرامكو بنحو 44 في المئة، إلى 11.7 مليار دولار، وذلك مقارنة بما كانت عليه قبل عام، أي في الربع الثالث من 2019. والمؤشرات القائمة على وضع العرض والطلب في السوق، واستمرار المنتجين بقيادة السعودية وروسيا في برنامج الخفض المستمر، وبنجاح منذ أكثر من أربع سنوات، وبدون تحقيق اختراق يذكر فيما يتعلق بتحسين وضع الأسعار، يوضح أن نتائج الربع الأخير من هذا العام قد تكون أسوأ، إذ لا تزال الأسعار في حدود 40 دولاراً للبرميل، بينما ميزانية الدولة تمَّ وضعها على أساس سعر 50 دولاراً للبرميل، وبكل ما يعنيه ذلك من انعكاسات على مجمل الوضع الاقتصادي.
ها هو التاريخ يعيد نفسه بصورة أخرى، وتحقيقاً لنبوءة وزير النفط السعودي الأسبق أحمد زكي يماني الذي قال مرةً إن العصر الحجري لم ينتهِ لنقص في الحجارة، وهو ما يمكن أن يحدث للصناعة النفطية. وفي الحالة الراهنة للسوق، فقد أسهم عامل التقدم التقني عبر تقنية الحفر الهيدروليكي في فتح آفاق لاستخراج وإنتاج النفط والغاز الصخريين، ثم تراكمت تأثيرات التغير المناخي لتفرض على العالم اتخاذ خطوات محددة لمواجهة الانبعاثات الحرارية التي يلعب فيها الوقود الأحفوري دوراً مهماً بدأ ينعكس سلبياً على تجارة النفط. وأخيراً جاءت جائحة الكورونا، لتقوم بعملية تسريع تحطيم الطلب التي أطلقت عليها شركة بي.بي "ذروة النفط" في استخدام معاكس لما قصده مَن صك العبارة لأول مرة قبل أكثر من 70 عاماً متوقعاً نضوب امدادات النفط، بينما المؤشرات الحالية تنبئ بتخلي المستهلكين عن الوقود الأحفوري على الرغم من وجود 1.7 ترليون برميل في الاحتياطيات.
تعطي المتاعب التي تمر بها شركة النفط الوطنية السعودية (أرامكو) لمحةً عمّا ينتظر هذه الشركات ومن ورائها حكوماتها. فنتائج الربع الثالث لهذا العام توضح تراجع أرباح أرامكو بنحو 44 في المئة، إلى 11.7 مليار دولار، وذلك مقارنة بما كانت عليه قبل عام.
واستبقت شركة "بي.بي" هذه التحولات بتغيير اسمها، وإعطاء دلالات للمرحلة الجديدة القائمة على إعادة اكتشاف نفسها ودورها، على الرغم من احتفاظها بالحرفين الأولين من اسمها الذي يعود إلى قرن ونصف من الزمان، فأصبحت "بي.بي" تعني Beyond Petroleum!