التنقيب عن المعادن في الريف الموريتاني: سموم وفوضى.. ونبش قبور

عدا موضوع تلويث البيئة والاعتداء على القبور، يتهم خبراء وسياسيون الحكومة بمحاباة الشركات الأجنبية، وإساءة استغلال الثروة المعدنية بسبب ضعف التفتيش ومراقبة النشاطات المعدنية، وعدم الإلمام بحجم المقدرات المعدنية، وثروات المناجم بمختلف أنواعها..
2013-09-11

المختار ولد محمد

صحافي من موريتانيا


شارك
(من الانترنت)

وسط نزوع مستمر نحو المدنية، تتسارع الأحداث في موريتانيا التي كانت حكومتها قد أقامت، عقب استقلال البلاد عن فرنسا في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، أول اجتماع لمجلس الوزراء تحت خيمة عربية حينما كان العمران غائبا.

فرص استثمارية

تحت شعار «الخزائن المخفية في الصحراء»، عقد العام 2010 أول مؤتمر دولي للمعادن والنفط في نواكشوط، شاركت فيه 400 شركة من 30 جنسية مختلفة، ومن بينها الأكبر عالمياً.

وفي المؤتمر الذي نظمته حينها الحكومة الموريتانية، دعت هذه الاخيرة المستثمرين إلى دخول السوق المحلية بقوة، على اعتبار أنها «مؤهلة أكثر من أي وقت مضى لأن تكون وجهة أساسية للمستثمرين في المجال المعدني والنفطي». بعد ذلك، تهافتت على البلاد شركات التنقيب، وهي اليوم تؤكد أن الاكتشافات المنجمية في ازدياد مطّرد، وخاصة بالنسبة للحديد الذي يعتبر ثروة وطنية، ويعتمد عليه اقتصاد البلاد منذ الستينيات، حيث يصل إنتاج موريتانيا منه حاليا إلى 12 مليون طن من النوع الجيد (الذي تمثل نسبة التركيز فيه 80,64 في المئة).

ولكن شركة «اكسترا» المستثمرة، والتي تعتبر رابع شركة عالمية في المجال، أعلنت أنها ستستثمر ستة مليارات دولار بولاية «تيرس زمور»، وتتوقع أن يصل إنتاجها على المدى القريب الى 50 مليون طن من الحديد. وهناك في موريتانيا الذهب، وخاصة في منجم «تازيازت» الذي يبعد 350 كلم عن العاصمة شمالاً، ويصل الإنتاج السنوي فيه الى مليون أونصة حالياً، ولكنه يملك احتياطيا يبلغ 20 مليون اونصة، ما يؤهله لأن يصبح أكبر مناجم الذهب في افريقيا، وتستثمره شركة موريتانية محدودة تابعة لشركة كينروس الكندية. وهناك في موريتانيا علاوة على ذلك الفوسفات، والنحاس (تم استخراج نحو نصف مليون طن من النحاس الفلزي)، والكروم، والماس، وحتى اليورانيوم في أكثر من منطقة، شمال وجنوب البلاد.

الفوضى المحمومة

إلا أن فوضوية أعمال تلك الشركات راحت تهدد الريف، بينما لا يزال النشاط الزراعي مصدر دخل السكان الاول. وتشير الاحصاءات الرسمية الى وجود نحو ربع مليون موريتاني في الريف لا يزالون يعملون في الزراعة وتربية الماشية. غير ان مستقبلا غامضا يتهدد هذه النسبة العالية من السكان، مقارنة بعدد سكان البلاد الذي لا يصل الى اربعة ملايين وفق آخر إحصاء.

وقد حذر خبراء اجتماعيون من خطورة التنقيب العشوائي عن المعادن، فيما نظم موريتانيون اعتصامات بسبب نبش قبور أسلافهم بحثا عن المعادن، خصوصا في محافظتي «انشيري» و«داخلت نواذيبو». وتبدي منظمات إنسانية مخاوفها من أن تؤثر استماتة الحكومة في بحثها عن المال على حياة سكان الريف الذين سارع الكثير منهم الى هجر مهنهم الاصلية وانضموا للعمل مع شركات التنقيب. وهذه توفر لهم رواتب تناهز الثلاثمئة دولار شهريا للعمال البسطاء، وهو مبلغ كبير مقارنة بدخولهم السابقة.

وبالمقابل، بدأ بعض أبناء شمال مالي من العرب والطوارق يفدون الى بوادي موريتانيا طلبا للعمل في رعي الأغنام والجمال والأبقار. وتشير الإحصاءات الى ان حجم هذه المواشي يفوق العشرين مليون رأس. ويعتبر موريتانيون أن الثقافة البدوية التي لم يستطع الجفاف القضاء عليها في سبعينيات القرن الماضي، لن يطول عمرها بعد اليوم.

لكن بعض أبناء الريف الموريتاني يقللون من شأن هذه الاعتبارات، ويرون ان العمل مع شركات التنقيب سيمنح أبناءهم مستقبلا أفضل. ويقول السالك ولد أحمد، وهو رجل أربعيني يتقن تربية الابل وقد ورث مهنتها عن أجداده، ان العناية بالماشية «ثقافة مهمة»، لكنها أصبحت اليوم مكلفة، وسيكون مستقبلها للأغنياء فحسب، وانه لم يعد مقتنعا بها كمهنة. وهو عاش كل عمره مع عائلته في ريف «الشامي» الذي يبعد أقل من خمسين كيلومترا عن منطقة «الغيشة»، حيث يستخرج الكنديون اليوم الذهب.

السموم تهدد البدو

وتشدد المنظمات البيئية على خطورة تلويث البيئة، محملين السلطات وشركات التنقيب المسؤولية عن ذلك، لعدم التزامهم بالمعايير العالمية أثناء عملية التنقيب وعند الاستخراج. فالمسلك المتبع هنا هو توفير أعلى ربح بأقل كلفة ممكنة، والالتزام بأقل استثمار في أية احتياطات أو بنى. وهذا كله يتم على حساب سلامة المواطنين وسلامة الوسط الطبيعي. فهناك انتشار للسموم التي تستخدمها شركات التنقيب في عملياتها التنقيبية والاستخراجية، وتعتبر المحافظات الشمالية الأربع الأكثر تضررا.

وتشير مصادر غير رسمية الى ان هذه السموم مسؤولة عن انتشار بعض الأمراض الخطيرة والسرطانات المتنوعة التي كانت غائبة حتى امس قريب، بل انها السبب في نفوق المواشي، كما حدث في منطقة الشامي ودامان قبل أشهر. ويقول مهتمون بالبيئة ان السلطات ترفض فتح تحقيقات في الموضوع، وتهدد بعزل المفتشين أو موظفي الوزارات المعنية الذين أرادوا فتح هذه الملفات، واستبدالهم بآخرين. ويؤكدون ان الأجيال الموريتانية القادمة ستدفع أثمانا باهظة للتخلص من الأضرار البيئية التي ستخلفها الشركات الأجنبية، وهي ستكون أعلى بكثير مما تدفعه تلك الشركات حاليا من العائدات للسلطة القائمة في البلد.

نبش القبور... بفتوى دينية

قامت شركة مناجم النحاس الموريتانية مؤخراً بنبش عشرات القبور، ونقلها إلى مكان آخر. وقد حدث ذلك بموافقة أهالي الموتى أحيانا، أو من دون موافقتهم إما بسبب عدم التمكن من الاتصال بهم أو لرفض آخرين نقل رفات ذويهم، ما حدا بالشركة إلى نبش القبور بداعي أنها قبور مترامية في أراضي شاسعة مليئة بالمعادن النفيسة، مستندة الى فتوى دينية وموافقة وزارتي الشؤون الإسلامية والمعادن. وفي منطقة على بعد مئتي كيلومتر الى الشمال من العاصمة نواكشوط، قامت شركة للتنقيب عن الذهب بنقل مجموعة من القبور المبعثرة، وأجازت رابطة العلماء الموريتانيين حكماً شرعياً بنبش هذه القبور ونقل جثامينها إن وجدت إلى مقابر أخرى. وفي سرية تامة حتى لا يثار غضب سكان المنطقة، بدأ تنفيذ العملية. غير ان إجادة بعض أحفاد من تمّ نقل رفاتهم استخدام الانترنت أعاق لبعض الوقت جهود السلطات وشركات التنقيب.

وحاولت بعض شركات التنقيب دفع مبالغ، وصلت أحيانا الى سبعة آلاف دولار، لتعويض ذوي الجثامين المنقولة. إلا أن الحادثة التي تعد سابقة في البلاد أثارت استياء واسعاً بسبب حساسية نبش القبور، وشيوع الدفن في الصحراء بين الموريتانيين. واعتبر باحثون موريتانيون أن إشكالية التعامل مع المقابر القديمة كانت قد طرحت في أغلب الدول العربية، حيث ألزم الزحف العمراني على تجميعها ونقلها وفق فتاوى شرعية لا تنتهك حرمة القبور. أما في موريتانيا فلا حاجة ملحة لنبش القبور والعبث بها، فمساحة البلد تزيد على المليون كلم مربع.

إساءة استغلال وطنية

وعدا موضوع تلويث البيئة والاعتداء على القبور، يتهم خبراء وسياسيون الحكومة بمحاباة الشركات الأجنبية، وإساءة استغلال الثروة المعدنية بسبب ضعف التفتيش ومراقبة النشاطات المعدنية، وعدم الإلمام بحجم المقدرات المعدنية، وثروات المناجم بمختلف أنواعها. وترتفع الأصوات أكثر فأكثر، مطالبة بانتداب خبراء لتثمين المخزون المعدني ما دام «كنزا مخفيا في الصحراء»، ومنع تهريب المعادن النفيسة، والاستغلال الفاحش لفرص الاستثمار المعدني في موريتانيا، وعقلنة الإنتاج، بحيث لا يسمح بنضوبه وتوضع خطة لاستثمار مردوداته في البنى التحتية الاساسية، كمؤسسات التعليم والصحة وسواهما، التي تدوم للأجيال القادمة.
 

مقالات من موريتانيا

للكاتب نفسه