"ثورة تشرين" في العراق... مرّ عام!

أمسك بهاتفي طوال الليل والنهار، ألتهم صور ساحات الاحتجاج بعيني، أنظر إلى وجوه الشابات والشبان يعلوها الحماس، وأصواتهم تصدح بالأغاني. تضيء الشاشة وجهي في ظلام غرفتي البعيدة في هذا الشمال البارد. قبل سنة كنت هناك، بينهم..
2020-10-08

ديمة ياسين

كاتبة صحافية، من العراق


شارك
لوحات جدارية في نفق السعدون الذي يمر من ساحة التحرير. تصوير ديمة ياسين 2019 - بغداد.

أراقب شاشة الهاتف، وأنتقل من تطبيق إلى آخر، لأتابع أخبار حضور الذكرى الأولى لثورة تشرين في العراق. الأول من تشرين الأول/ أكتوبر منذ سنة تماماً، انطلقت رصاصات القناص، فسالت الدماء، وكانت الشرارة الأولى.

أمسك بهاتفي طوال الليل والنهار، ألتهم صور ساحات الاحتجاج بعيني، أنظر إلى وجوه الشابات والشبان يعلوها الحماس، وأصواتهم تصدح بالأغاني. تضيء الشاشة وجهي في ظلام غرفتي البعيدة في هذا الشمال البارد.

قبل سنة كنت هناك، بينهم. أقلّب مئات الصور والفيديوهات التي سجلتها على هاتفي الذكي. هو ذكيٌ فعلاً، يحمل خلف شاشته الصغيرة كماً هائلاً من الذكريات. كيف لتلك الصور أن تنقل لي رائحة المكان، وتلك الشوارع المتعبة التي تضيق بالإهمال وتتسع بالناس. كيف لها أن تجعلني أشعر بهواء المدينة الدافئ، وهو يداعب وجهي، وعلو النخل، وذاك القمر البغدادي المستحيل. هل يعلم من اخترع التصوير أننا في يوم ما وبعد قرون، سننظر إلى صورنا فنعيد حتى إحساس الخوف والترقب في أجسادنا؟

يظهر وجهي في أحد الفيديوهات، وصوت صديقتي يسألني "ما هو شعورك؟". أتذكر ذلك اليوم جيداً. كان أول يوم لي في بغداد بعد ما يقارب 30 عاماً من الغياب. لم أعرف المدينة، وأنا أمر في شوارعها في النهار. كل شيء بدا كأنه مُغطًى بعقود من ذرات متراكمة من الوجع والإهمال. كانت النخلة أول من عرفني وتهلل لعودتي. هكذا أوحى لي خيالي التواق لأن تعرفني المدينة، وتتذكر خطواتي.

ثم حلّ ليل بغداد. عاد لي. فما إن هبط ليلها، ذاك السواد الكالح العميق كأن المدينة تنام في فم الكون، حتى بدا كل ما فيها يعرفني. في طريقي إلى ساحة التحرير، ابتسمت دون أن أشعر لتمثال كهرمانة، وهي تصب السائل في الجرار، ألقيت عليها التحية. بدا كل شيء أقرب. دخلت ساحة التحرير مع أصدقائي، و ما إن التقطت عيناي نصب الحرية حتى أصابتني الرهبة. كانت من حولي خيمٌ وبطاطين، وبشر يأكلون ويتحدثون وينامون. يفترشون الأرض والأرصفة و حشيش حديقة الأمة. أصبح ذاك بيتهم ومكانهم.

مشيت في الساحة، وفي نفسي رغبة في أن أعتذر لكل واحدة وواحد موجود فيها، أن أقبّل رؤوسهم وأياديهم. تملّكني إحساس كبير بالذنب لأنني في رحلة قصيرة مهما طالت، سأعود بعدها لأمان غربتي وهم ينامون هنا، على الأرض، مُعرّضين لأخطار "الوطن".

لم تغادرني الرهبة، وأنا أمشي بينهم، وأحط خطواتي حيث يرمون وجع نهارهم. حيث يرتاحون من تعب ما شاهدوه من عنف "قوات الشغب"، وأولئك "المجهولين"، الذين تتشبث بهم روايات حكومة تتخبط في الفساد والإجرام. كان الجو في الساحة تلك الليلة ثقيلاً يخيم عليه الحزن والتعب. فقد غادرت الساحة يومها الكثير من الأرواح على أيدي "مجهولين" بلا وجوه ولا ملامح، لكنهم يحملون الكثير من الأسلحة، وكل حقد الأرض على بشر لا يحمل في جيبه ما يسد جوعه أو جوع عائلته.

خيم المعتصمين تحت "نصب الحرية" للفنان العراقي الكبير جواد سليم. تصوير ديمة ياسين 2019 - ساحة التحرير - بغداد.

مشيت في الساحة، وفي نفسي رغبة في أن أعتذر لكل واحدة وواحد موجود فيها، أن أقبّل رؤوسهم وأياديهم. تملّكني إحساس كبير بالذنب لأنني في رحلة قصيرة مهما طالت، سأعود بعدها لأمان غربتي وهم ينامون هنا، على الأرض، معرضين لأخطار "الوطن".

مررت بشموع تتلامع في ظلمة الليل، تحيطها صور لوجوه شابة مبتسمة. تسريحات شعرهم تدل على حبٍ كبير للحياة. فكيف لمن لا يحب الحياة أن يصفف شعره بكل تلك الدقة ليبدو بكل تلك الوسامة. نظراتهم كانت تكاد تحكي من الصور. تتناثر من حولها على الأرض، خوذهم التي ثقبتها قنابل الغاز المسيل للدموع قبل أن تخترق رؤوسهم الفتية المليئة بالأحلام. كان الناس يمرون من أمام تلك البقعة من أرض التحرير، فيقفون عندها في صمت، يصلون أو يرفعون أيديهم إلى السماء. كان قلبي يزداد ثقلاً.

مقالات ذات صلة

دخلت مع أصدقائي نفق السعدون الذي يمر من تحت ساحة التحرير. كان ممتلئاً بالشعارات واللوحات الملونة التي رسمها المتظاهرون على جدرانه، يتخيلون بها مستقبلاً أفضل. ما إن مشينا بضع دقائق فيه، حتى بدأت "التكاتك" بالمرور بنا مسرعة مطلقة منبهاتها العالية. أصر الأصدقاء على العودة، لأن ذلك يعني وجود إصابات على حافة الساحة حيث "قوات الشغب". وإن التكاتك المسرعة تتجه للإنقاذ. اعترضت، لكنني لم أقاوم كثيراً. فلست بهذه الشجاعة التي تدفعني للاقتراب من الخطوط الأمامية للمواجهات. رددت بغضب لصديقي الذي بان على وجهه القلق، وهو يشعر بأن مسؤوليته حماية "المغتربات" المتحمسات: "لم آتِ لأكون سائحة! لست سائحة ثورة". ابتسم ابتسامة قلقة، وأسرعنا جميعاً الخطى مبتعدين. نادى علينا شابٌ بعد أن رأى الكاميرا بيدي. كان يجلس أمام خيمة مع مجموعة من النساء والرجال يقطعون الخضار، ويعدون الطعام في قدور كبيرة. طلب مني أن أصورهم. قلت له أنني سأصورهم فيديو أيضاً فأجابني: "افعلي ما تريدين. فقط لا تنسونا، تعالوا للساحة، نحتاج وجودكم معنا. إن قلّت الأعداد سيقتلوننا جميعاً".

توجهنا إلى حيث تقف الباصات الصغيرة التي يسمونها في بغداد "كَيَّه" لنعود لمأوانا في المدينة. جلسنا ننتظر امتلاء الباص بالناس، كنت أنظر من الشباك للباصات الأخرى وحركة الناس وأصوات المنادين بأسماء المناطق. رفعت نظري لخزان الماء العملاق المطل على الساحة، فأشار أحد الأصدقاء إلى أن نيران القناص قتلت شباباً هنا في الأيام الأولى من الثورة. اعتراني تساؤل عن حقيقة وجودي في هذا المكان، أم أنه حلم ككل الأحلام التي حلمت فيها أنني في بغداد.

نادت علي صديقتي موجهة عدسة الكاميرا نحوي "ما هو شعورك؟" فأجبتها "لا أدري بماذا أشعر.. أشعر بالـ.." ثم أشحت بوجهي بعيداً.

نادى علينا شابٌ بعد أن رأى الكاميرا بيدي. كان يجلس أمام خيمة مع مجموعة من النساء والرجال يقطّعون الخضار، ويعدون الطعام في قدور كبيرة. طلب مني أن أصورهم. قلت له أنني سأصورهم فيديو أيضاً فأجابني: "افعلي ما تريدين. فقط لا تنسونا، تعالوا للساحة، نحتاج وجودكم معنا. إنْ قلّت الأعداد سيقتلوننا جميعاً".

لم تكن المرة الأخيرة التي أذهب بها إلى ساحة التحرير، ولم تكن المرات التي تلت تشعرني بالحزن على الرغم من توالي العنف والخسارات التي لا تعوض. فالثورة ثبتت قدميَّ، سحبت ذلك الحبل السُري الخفي الذي كان هائماً على وجهه لعقود وغرسته في الأرض بقوة.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...