في معنى المضي قدماً في ساحة حرب

في زمن الحرب وأزمات المعيشة والخدمات الأساسية، صار أطفال اليمن، وعلى الأرجح أطفال البلدان التي تشهد حروباً طاحنة منذ سنوات، يُكيّفون ألعابهم وفقاً لظروف الحياة وسط الحرب، بل ويستلهمون منها ألعاباً قتالية وحربية عادة ما تحاكي أحداث المعارك.
2020-09-03

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
اللوحات للفنان ذو يزن العلوي. المصور: عبد الله الأثوري، اليمن.

في إحدى عصاري شهر حزيران/ يوليو 2020، حزم الفنان التشكيلي ذو يزن العلوي بعض لوحاته التي قرر تصويرها في مكان مناسب لطبيعتها الفنية ومدلولها الإنساني.

وفقاً للعلوي، فإن فكرة إقامة معارض تشكيلية في أماكن عامة كانت سابقة لتلك الخطوة الأخيرة. إذ كان يدرس إمكانية عرض لوحاته على أحد أرصفة شوارع صنعاء المكتظة بالمارة. غير أن صديقه المصور، عبد الله الأثوري، اقترح عليه أولاً تصوير اللوحات في بناية مفتوحة السقف في حي الصافية، وتكفّل بترتيب جلسة التصوير.

لم يكن الفنان يتوقع أن رغبته في إقامة معارض تشكيلية في أماكن مفتوحة سوف تتحول من أول "بروفة" إلى معرض خاطف لم يتجاوز الساعتين، لجمهور من الأطفال فقط.

عندما شرع، مع صديقه عبد الله وصديقين آخرين، بتثبيت اللوحات على الجدران، اقتحم المكان مجموعة من الأطفال، حيث اتضح أنهم اعتادوا خلال الأيام السابقة لعب "الاستغماية" فيه. ظن الأطفال بأن الفنان وأصدقاءه "مجانين"، ودعمت اعتقادهم هذا طبيعة اللوحات التي تظهر فيها نظائر يمنية لـ"أشباح جويا" . ما إن بدأ التصوير حتى بدأ الأطفال لعبتهم أيضاً. كانوا يركضون بين الجدران بحرّية، ودون خشية من أن ينهرهم أحد الكبار للتخفيف من حركتهم أو عدم إثارة الضجيج داخل البيت.

"الفن نشاط عفوي، والمجتمع بحاجة ماسة له، ويتلقاه بحب وبصدق". سبق أن خبِر ذو يزن تفاعل الناس الإيجابي مع الفن، مع الرسم على الجدران، التي نفذها الفنان مراد سبيع تحت عناوين مختلفة، أبرزها قضية المختفين قسرياً. أطلق سبيع أولى تلك الحملات في العام 2011، بمشاركة مجموعة من الرسامات والرسامين الشباب، والذين انضم لهم ذو يزن لاحقاً.

ربما تتوجب الإشارة هنا إلى أن هذا البيت كان قيد الهدم وليس قيد البناء. ذلك أن الأطفال قبل هذا الزمن، زمن الحروب، اعتادوا أن يلعبوا في البيوت التي لا تزال مفتوحة في مراحل البناء الأولى. وفي زمن الحرب وأزمات المعيشة والخدمات الأساسية، صار أطفال اليمن، وعلى الأرجح أطفال البلدان التي تشهد حروباً طاحنة منذ سنوات، يكيّفون ألعابهم وفقاً لظروف الحياة وسط الحرب، بل ويستلهمون منها ألعاباً قتالية وحربية عادة ما تحاكي أحداث المعارك. في الواقع، لا يفعل هذا الآن سوى الأطفال الذين لا يتوفرون على كهرباء وأجهزة لوحية لتشغيل ألعاب الفيديو القتالية التي أدمن عليها من كانوا أطفالاً قبل عشر سنوات، وصاروا اليوم مقاتلين في الجبهات. اليمن الآن بلا كهرباء، وإن توفرت فبأسعار باهضة تجعل الآباء والأمهات يُرشّدون استخدامها، حتى على مستوى شحن الأجهزة اللوحية والهواتف. لذلك احتضنت جدران هذا البيت، في أيامها الأخيرة، أولئك الأطفال التواقين للعب، ومعرضاً تشكيلياً مفاجئاً، قبل أن تقوم على أنقاضه بناية ضخمة في غضون أسابيع أو أشهر على أبعد تقدير.

مقابل اعتقاد الأطفال بأن الرسام وأصدقاءه مجانين، اندهش الأصدقاء الأربعة من عفوية الأطفال وأسئلتهم السريعة، قبل أن يبدؤوا لعبتهم بلا حرج أو تذمر. "كنا مشدوهين بالأطفال الذين اقتحموا المكان، وكانت حركتهم تتغير كلما مروا بجانب اللوحات. تفاجأنا بذلك التحول السحري لحركة الأطفال، ومنحونا شعوراً جميلاً، كما علّمونا درساً بعدم احتكار المكان لغرضنا الذي جئنا من أجله"، قال ذو يزن، واصفاً تجربة إقامة هذا المعرض غير المخطط له، بـ"الفضولية"، وبأنها جديرة بالتكرار.

ما شدّه في هذه التجربة، كان مستوى العفوية العالي فيها، وذلك ما جعله يفكر بأن "الفن نشاط عفوي، والمجتمع بحاجة ماسة له ويتلقاه بحب وبصدق". سبق أن خبِر ذو يزن تفاعل الناس الإيجابي مع الفن، منذ حملات الرسم على الجدران، التي نفذها الفنان مراد سبيع تحت عناوين مختلفة مرتبطة بقضايا الناس، وأبرزها قضية المختفين قسرياً. أطلق سبيع أولى تلك الحملات في العام 2011، بمشاركة مجموعة من الرسامات والرسامين الشباب، والذين انضم لهم ذو يزن لاحقاً. ثم نفذ الأخير حملات أخرى خلال سنوات الحرب، التي توسعت رقعتها الإقليمية وأبعادها الدولية منذ آذار/ مارس 2015.

معروف عن الشعب اليمني صلابته التي لا حدود لها في وجه المحن وشظف العيش، وصحيح أن سنوات الحرب أظهرت مهارته في تدبير شؤون حياته، متمسكاً حتى بما لا يُرى من حبال الأمل، لكنه يفعل ذلك بالاستغناء عن كثير من شروط الحياة الأساسية لأي إنسان.

لم تؤثر الحرب في تقبل اليمنيين للفن، على الرغم من أنها سحقت معيشتهم وأمانهم وبيوتهم، وعزلتهم عن العالم. وعلى مدى تجاوز خمس سنوات، لم تعد الغارات الجوية أو قذائف المدفعية تحتكر هدم البيوت. فقد أفرزت الحرب طبقة ثرية تشتري المنازل القديمة بأسعار باهظة، يتراوح بعضها بين 500 ألف إلى مليون دولار للمنزل، حسب موقعه وحجمه. يحدث ذلك منذ انتعشت حركة عمرانية جديدة، بدأت من الأرياف، على إثر موجات النزوح من المدن إلى القرى في بداية الحرب.

هذه الحركة العمرانية ما لبثت أن وصلت إلى المدن المستقرة نسبياً، كصنعاء وإب ومأرب، ومدن محافظة حضرموت. امتدت أيضاً إلى المدن التي عاد إليها الاستقرار النسبي بعد جولات الحرب الأولى، مثل عدن وتعز. غير أن استمرار موجات النزوح من مناطق القتال، وتنقل النازحين بين الأماكن الآمنة، لا تزال عمود الرحى في ازدهار حركة العمران المصاحبة للحرب، والتي لا يكترث أحد بمخالفتها أو التزامها شروط المخططات الحضرية بعيدة المدى. وخلال أكثر من خمس سنوات على بدايتها، يمكن أن تكون نتائجها الآن أسفرت عن ملامح تحول ديموغرافي جديد في التركيبة السكانية في اليمن.

مقالات ذات صلة

وعلى الرغم من تزايد عدد البنايات الكبيرة في صنعاء وعدن، على سبيل المثال، إلا أن إيجارات المساكن تستمر بالتصاعد طردياً مع تزايد عدد الوافدين إلى المدينة، سواء كانوا نازحين أو باحثين عن فرص عمل. في كثير من الحالات، قد يصل مبلغ الإيجار الشهري إلى نصف دخل المستأجر وربما يتجاوز ذلك، ومع هذا يُقبل به. الذين ذاقوا مرارة النزوح، وعرفوا معنى أن يحلّ الليل وعائلاتهم بلا مأوى، هم أكثر من يقبل بدفع أكثر من نصف دخولهم الشهرية لإيجارات المساكن، ولو على حساب غذاء العائلة واحتياجاتها الأخرى. هكذا وصلت إيجارات الشقق السكنية إلى 150 ألف ريال يمني (ما يعادل 250$ أمريكي). بعض المساكن يشترط مالكوها الدفع بالدولار الأمريكي مباشرة، على الرغم من صدور تعميم رسمي من السلطات في صنعاء بمنع تأجير المساكن بالدولار، واقتصار ذلك على العقارات التجارية. أما ثالثة الأثافي كما قالت العرب قديماً، فهي اشتراطات الغالبية العظمى من ملاك العقارات السكنية، دفع إيجارات ثمانية أشهر إلى سنة، قبل أن يحط المستأجر رجله داخل المسكن. وفي بلد لا يوجد فيه قانون ينظم العلاقة بين المستأجر ومالك العقار، غالباً ما تتحول مثل هذه السلوكيات إلى أعراف لها قوة القانون، بموجب الشرط والقبول.

على مدى تجاوز خمس سنوات، لم تعد الغارات الجوية، أو قذائف المدفعية تحتكر هدم البيوت. فقد أفرزت الحرب طبقة ثرية تشتري المنازل القديمة بأسعار باهظة، يتراوح بعضها بين 500 ألف إلى مليون دولار للمنزل، حسب موقعه وحجمه. يحدث ذلك منذ انتعشت حركة عمرانية جديدة، بدأت من الأرياف، على إثر موجات النزوح من المدن إلى القرى في بداية الحرب.

الذين ذاقوا مرارة النزوح، وعرفوا معنى أن يحلّ الليل وعائلاتهم بلا مأوى، هم أكثر من يقبل بدفع أكثر من نصف دخولهم الشهرية لإيجارات المساكن، ولو على حساب غذاء العائلة واحتياجاتها الأخرى.

بموازاة الاستحداثات العمرانية التي تغذيها أزمة السكن، تتوالى تحذيرات الأمم المتحدة من تزايد أعداد المحتاجين للمساعدات الغذائية والدوائية، واتساع رقعة الفقر في البلاد. وعلى الأرض، تكتظ الشوارع بالمتسولين، وفقراء "لا يسألون الناس إلحافاً"، ناهيك عن أولئك الذين "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف". في الحقيقة، لا تكتظ الشوارع بالمتسولين والجياع والمتعففين وحسب: هناك أيضاً السيارات حديثة الطراز التي لا يعرف أحد كيف تسمح بارجات تفتيش السفن في البحر الأحمر بدخولها إلى البلاد، بينما تمنع دخول سفن الوقود! قد يتضاعف هذا التعجب عند امتداده إلى طريقة إدارة السلطات المتعددة لشؤون الحكم في المناطق التي تسيطر عليها كل منها. إذ كيف تسمح سلطة أو حكومة بتجارة السيارات، على سبيل المثال لا الحصر، في الوقت الذي يتضور فيه الشعب جوعاً!! كل هذه المتناقضات تحدث في اليمن مع استمرار التدهور المتسارع للاقتصاد، وبالتوازي مع الانهيارات المتلاحقة للعملة المحلية إلى درجة صارت عندها تتنافس مع نفسها بين طبعة قديمة وأخرى جديدة. هل يمكن لحليم أن يحتار كيف يزداد الأغنياء غنًى، والفقراء فقراً، في وضع كهذا؟

معروف عن الشعب اليمني صلابته التي لا حدود لها في وجه المحن وشظف العيش، وصحيح أن سنوات الحرب أظهرت مهارته في تدبير شؤون حياته، متمسكاً حتى بما لا يُرى من حبال الأمل، لكنه يفعل ذلك بالاستغناء عن كثير من شروط الحياة الأساسية لأي إنسان. يدفع اليمنيون ثمن استمرار الحياة في طول البلاد وعرضها، من معدلات أعمارهم، وهذا هو الاختصار الأقرب لمعنى المضي قدماً في ساحة حرب. أولئك الأطفال الذين كانوا يلعبون "الاستغماية" في البيت الذي سيفقد أطفاله وشبانه ذكرياتهم إلى الأبد، مهددون بسوء التغذية وأوبئة متطورة فتاكة، وبحصة بالغة الضآلة من التعليم والمعرفة. جميع الأطفال في اليمن يواجهون هذه التهديدات، لكنهم لا يلتفتون إليها، ويكتفون بالقليل من كل شيء لكي تستمر الحياة. الكبار يفعلون ذلك أيضاً، لكن بالنسبة للكثيرين منهم، فقد وصلت الحرب إلى مرحلة من "البشاعة وقلة الاحتشام"، بحيث يتوجب كشف الظواهر التي تفخخ حياة الجيل القادم.

______________

فيلم "أشباح جويا" Goya's Ghosts للمخرج التشيكي الأصل الأمريكي الجنسية، ميلوش فورمان.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه