"الدولة السائبة" في العراق: حد السكين الأعمى!

من الخطأ الاعتقاد بأن الحكومة المؤقتة أو الكاظمي نفسه، هما استجابة إصلاحية لبلد منهار ويتجه إلى الهاوية، بناءً على افتراض أنها حكومة أقصّت شكلياً حلفاء طهران وجاءت بخصومهم. إنما هي حكومة كسب وقت إضافي، تُمكّن النظام الفاشل من إعادة تموضعه قبل الانتخابات المقبلة، وامتصاص قوة الاحتجاج الشعبي، ومن ثم الذهاب إلى خيار "الانتخابات المبكرة"، وتوطين قوى الفساد القائمة منذ 17 عاماً مجدداً.
2020-08-28

صفاء خلف

صحافي استقصائي، وباحث من العراق


شارك
صدام الجميلي - العراق

جاءت زيارة رئيس الوزارة "المؤقتة" مصطفى الكاظمي إلى واشنطن مُسببة في إطار الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، و"مكافحة كورونا" و"مناقشة الانسحاب الأميركي". لكنها أيضاً "بروتوكولية" ضمن اشتراطات تشكيل أية حكومة عراقية جديدة، هشة أو عتيدة، وبالغالب تأتي دوماً عقب زيارة طهران. فالجار الأقرب هو اللاعب الأقوى، فيما تظل واشنطن الحليف غير المرغوب فيه من قبل "القوى الولائية"، لكن لا غنى عنه بالنسبة إلى القوى السُنيّة والكرد و"الشيعة المعتدلين".

التوقيت، يبدو محسوباً وسط الفرص الضائعة لحكومة "مشاركة" لا يتبناها أحد.

الفصائل السياسية على تنافرها، والكاظمي أيضاً، يعون جميعاً أنها حكومة "ملف واحد"، وسقفها ينحصر بعقد "انتخابات مبكرة"، وترحيل كل الملفات الأكثر تعقيداً إلى ما يُمكن أن تفرزه تلك الانتخابات من تحالفات وحكومة تتحدد فيها مساحة كل مجموعة ويقاس بها تأثيرها. لذا تأمل القوى المناهضة لـ"السلاح" وإيران، استثمار مُخرجات "ثورة تشرين" وارتداداتها، في تحجيم نفوذ القوى المسلحة إلى الحد الأقصى، وهو ما تأمله واشنطن أيضاً.

حكومة "الصفقة"

وكمحصلة، باتت كل الأطراف تعمل على تكييف الاحتجاج ضمن الهدف، وإعادة السيطرة مجدداً على الساحات، والتخلص من الأصوات التغييرية الراديكالية، ما يُفسر اشتداد حملات اغتيال واختطاف وتصفية المجموعات النشطة. وبصرف البحث عن القاتل، فإن الجميع يستفيد من تلك الحملات. قوى محور واشنطن تستثمر القتل ضد قوى "محور السلاح" للحط من الشعبية والتشويه، والمحور الأخير يتخلص من عبء نشطاء مؤثرين لديهم القدرة على التأثير الانتخابي، وكلا المحورين يسعيان إلى إعادة إخضاع الشارع، وهو ما يُمكن أن نُسميه بـ"تنظيف الساحات".

أتت زيارة الكاظمي عقب "مئة يوم" من تشكيل حكومة خفض الاشتباك الأميركي – الإيراني إثر الضربة الموجعة باغتيال ثنائي "محور السلاح": قاسم سليماني وأبي مهدي المُهندس. وهي جاءت ضمن صفقة شملت ملفات إقليمية، منها تشكيل "حكومة حسّان دياب" في لبنان ذات اللون الواحد والمستقيلة بعد كارثة مرفأ بيروت. لذا فليس لحكومة الكاظمي "إصلاحية" تحقيق مطالب الاحتجاج، بل هي حكومة "صفقة".

زعيم الصدريين، مقتدى الصدر، منح الكاظمي وكابينته مئة يوم لبيان "رضاه" عنها، كدعاية مبكرة للتبرؤ من الحكومة لاحقاً. وبما أن لا موقف من الصدر الذي يقيم منذ أشهر طويلة متنقلاً بين "قُم" وبيروت، فهذا يعني أنه وحلفائه راضون عن الكاظمي. لكنه رضا لا ينطلق من تحقيق الحكومة إنجازاً، بل لأن إسقاطها سيفتتح صداماً دامياً بين قوًى متنافرة المصالح على الأرض العراقية، محلياً أو إقليمياً. والصفقة أيضاً اقتضت، بعدما فشلت حكومة "محور السلاح" التي رَأسُها عادل عبد المهدي، وتورطت بالدم وصار عهدها ربيعاً لـ"جماعات إيران"، أن يتنازل المحور مقابل ضمانات بألا تلاحق أخطاء وفساد وجرائم ذلك الربيع الدامي، والاكتفاء باستقالتها كـ"عقوبة".

ولأن الصدر والحكيم يرعيان "الحكومة" بشراكة حيدر العبادي بلا إعلان، فهي أيضاً تُصنّف على أنها حكومة لون "سياسي" واحد.

النجاح الدعائي للكاظمي يُغطي على فشل الأداء الحكومي. فثمة استفهامات صارخة بشأن هذه الكابينة التي صَدَمَت التوقعات بكابينة أفضل، وثمة ما لم يُكشف رسمياً، لتضييع الرأي العام وتبرير الإفلات من المسؤولية فيما بعد، وهو ما يتعلق بحصص القوى "المشاركة" فيها، وتوزيع المناصب الرفيعة في الوزارات والمؤسسات القيادية والهيئات المستقلة، وعملية "الترشيق الولائي" التي طالت منصب رئيس جهاز الأمن الوطني، مستشارية الأمن، جهاز مكافحة الإرهاب، شبكة الإعلام العراقي وهيئة الإعلام والاتصالات.

قوى محور واشنطن تستثمر القتل ضد قوى "محور السلاح" للحط من الشعبية والتشويه، والمحور الأخير يتخلص من عبء نشطاء مؤثرين لديهم القدرة على التأثير الانتخابي، وكلا المحورين يسعيان إلى إعادة إخضاع الشارع، وهو ما يُمكن أن نُسميه بـ"تنظيف الساحات".

التوزيعة ظلّت غير مفهومة، بل سائبة، ضرباً للتكهن. وعلى الرغم من أن الكاظمي يُصرح دوماً أن سياسته تدعم الشفافية والمكاشفة، إلا أنه لم يحقق أياً مما يدعيه - قواعد اللعبة تشترط - فالنظام في العراق، نظام مصالح وتخادم متعدد الطبقات محلياً وإقليمياً ودولياً. وما يظهر منه رأس جليد لامع ضئيل، وما يستتر يغوص عميقاً في ظلمة سحيقة قد لا يمكن الوصول إلى حقيقتها يوماً.

المناوئون لواشنطن والكاظمي، وهم بالغالب "ولائيون" في تحالف "الفتح"، راضون أيضاً. فحكومة "الدعاية" لا تؤثر على المصالح والأهداف والامتيازات والاستثمارات والفساد، بل يمنحهم مساحة أكثر راحة من أية حكومة محسوبة عليهم تُظهر الفشل، كحكومة عادل عبد المهدي، والتي كاد فشلها أن يُسقط النظام بطبقاته في موجات احتجاج تشرين/ أكتوبر المستمرة.

أبعد من ذلك، فالحراك للضغط على واشنطن لسحب قواتها من العراق، دعائي أيضاً، وغالبية تلك الفصائل لا ترى بالوجود الأميركي تهديداً لمصالحها المحلية، بل عامل تثبيت لها كـ"قوة مقاومة"، مثلما توظَّف "داعش" كذريعة لبقائها وبقاء السلاح ضامناً لوجودها. ودُون "الأمريكان" و"داعش" فأن تبرير القوة الغاشمة داخل مجتمع ممزق لا يمنحها صلاحية الاستمرار.

كما وأن طهران لا تحبذ انسحاباً أميركياً كُلياً يكشف بوضوح قبضتها القوية في العراق، ولن يُبرر حينها تدخلها ودعمها لفصائل متشعبة، تتكاثر نتيجة الصراعات الداخلية على الموارد والمشاريع والأراضي والتهريب والمنافذ الحدودية. وآخر تلك الفصائل، فصيل يتبنى الانتقام لمقتل سليماني والمهندس، أطلق على نفسه "فصيل الشايب"، إشارة إلى أبو مهدي، أعلن عنه قبل أيام!

مئة يوم من الدعاية

المئة يوم، أكدت أن الكاظمي وكابينته مجرد مكتب تنسيق وواجهة تسيير لأعمال حكومة، تستثمر ماكينات دعاية مملوكة لجهاز المخابرات أو تدار بدعم منه، صديقة بحكم العلاقات الشخصية، أو لمنتفعين اقتصاديين وشركاء أعمال. وعلى ضفة مواقع التواصل الاجتماعي، فثمة "جيوش" و"مجموعات" و"حسابات مُتبناة"، وهي لعبة أجادها الكاظمي خلال سنوات حكمه في جهاز المخابرات وشراكته مع معهد تدريب صحافي، ويستثمرها الآن على نحو أكثر احترافية من ماكينات فصائل ومجموعات إيران. كما يملك "ساحات" ونشطاء.

المناوئون لواشنطن والكاظمي، وهم بالغالب "ولائيون" في تحالف "الفتح"، راضون أيضاً. فحكومة "الدعاية" لا تؤثر على المصالح والأهداف والامتيازات والاستثمارات والفساد، بل يمنحهم مساحة أكثر راحة من أية حكومة محسوبة عليهم تُظهر الفشل، كحكومة عادل عبد المهدي، والتي كاد فشلها أن يُسقط النظام بطبقاته في موجات احتجاج تشرين/ أكتوبر المستمرة.

الحراك للضغط على واشنطن لسحب قواتها من العراق، دعائي أيضاً، وغالبية تلك الفصائل لا ترى بالوجود الأميركي تهديداً لمصالحها المحلية، بل عامل تثبيت لها كـ"قوة مقاومة"، مثلما توظَّف "داعش" كذريعة لبقائها، وبقاء السلاح ضامناً لوجودها. ودُون "الأمريكان" و"داعش" فأن تبرير القوة الغاشمة داخل مجتمع ممزق لا يمنحها صلاحية الاستمرار.

عقب أسابيع قليلة من اندلاع "ثورة تشرين" والتضحية بالقرابين الشبابية العظيمة، سخّرت القوى جميعاً إمكاناتها لشراء ساحات ونُشطاء. وبات لكل فصيل سياسي أو مسلح "جماعته الثورية" التي تتناطح مع المجموعات المناوئة، وتستهدف أي حراك شبابي حقيقي، تضعفه وتخترقه، وتكسر قوة الاحتجاج وتحط من سمعته، وتوفر فرشة معلوماتية، تستثمر لتفكيك النشطاء وتصفيتهم، وهو ما حصل وسيحصل.

الخيارات الكارثية

اختير الكاظمي بعد فشل تسمية مُكلفَين اثنين. سقط محمد توفيق علاوي في مجلس النواب، فيما عدنان الزُرفي أسقط سياسياً بوصفه محسوباً على محور واشنطن. لكن الكاظمي أكثر محسوبية على المحور من الزُرفي، فعلاقته مع واشنطن وظيفية أكثر مما هي سياسية، وداعمه هو كنعان مكية، الذي لعب دوراً مؤثراً في التمهيد له منذ فشل حيدر العبادي (2014 – 2018) الظفر بولاية ثانية، عقب سقوطه كمحصلة لاحتجاجات البصرة و"انقلاب تسوية" انتخابات 2018.

ولعل مكية لعب دوراً أيضاً في صعود العبادي خلفاً لنوري المالكي (2006-2014)، ووصفه في كتابه ["هوامش على كتاب الفتنة" (2016)] بأنه "أول سياسي عراقي شريف منذ 2003 (...) لكن الأمل بنجاحه ضعيف جداً (...) بسبب الحيتان الإيرانية". وقد ظل كنعان مكية رجل الظل الذي يدعم الكاظمي – وتدخل بتشكيل فريقه الاستشاري - وربما سيجني عليه. يقول مكّية في "كتاب الهوامش" أن "الكاظمي أصرَّ على البقاء في العراق (...) لأنه من القلائل الباقين الذين ما زالوا يمنحون كلمة "وطني" التعبانة المُستغلة حدّ الإفلاس، صدقاً، من المفروض أن تعنيه". عيّن العبادي مُصطفى الكاظمي رئيساً لجهاز المخابرات في الذكرى الثانية - 2016 - لضياع ثلث العراق والموصل على يد "داعش". وبات مكية المعارض الشرس للدولة البوليسية، في زياراته إلى بغداد، يحل ضيفاً على جهاز المخابرات، وآخرها قُبيّل توزير الكاظمي.

تَكّمن خطورة كنعان مكية، في أن خياراته كارثية دوماً.

رصاصة في الرأس!

خيارات بقاء الحكومة الشكلية في السلطة، أكبر من واقعية سقوطها. والرهان الحقيقي ليس بنجاحها، بل بحفظ التوتر الداخلي ضمن الحدود المقبولة تحت سقف اللعب السياسي، الذي يسمح بعقد انتخابات نيابية مبكرة ضمن اشتراطات القوى النافذة، قوى السلاح والتغلغل العميق داخل الدولة، وضمان حصة واشنطن في تركيبة النظام.

أعلن الكاظمي أن موعد الانتخابات المبكرة، مقتبل حزيران/ يونيو2021. قوى مناصرة الكاظمي زعمت أن مجرد الإعلان عن موعد يمثل انتصاراً لـ"مشروع الدولة" ضد مشروع "محور السلاح" و"اللادولة". وهكذا وعلى الأقل، أخلى طرفه من المسؤولية وأحرج القوى المُضادة.

طهران لا تحبذ انسحاباً أميركياً كُلياً يكشف بوضوح قبضتها القوية في العراق، ولن يُبرَّر حينها تدخلها ودعمها لفصائل متشعبة، تتكاثر نتيجة الصراعات الداخلية على الموارد والمشاريع والأراضي والتهريب والمنافذ الحدودية. وآخر تلك الفصائل، فصيل يتبنى الانتقام لمقتل سليماني والمهندس، أطلق على نفسه "فصيل الشايب"، إشارة إلى أبو مهدي، أعلن عنه قبل أيام!

عقب أسابيع قليلة من اندلاع "ثورة تشرين" والتضحية بالقرابين الشبابية العظيمة، سخّرت القوى جميعاً إمكاناتها لشراء ساحات ونُشطاء. وبات لكل فصيل سياسي أو مسلح "جماعته الثورية" التي تتناطح مع المجموعات المناوئة، وتستهدف أي حراك شبابي حقيقي، تضعفه وتخترقه، وتكسر قوة الاحتجاج وتحط من سمعته، وتوفر فرشة معلوماتية، تستثمر لتفكيك النشطاء وتصفيتهم.

لكن ثمة تحدٍ قد ينسف التغيير، طالما أن السلاح المستقوي على الدولة يُحكم القبضة، ويباشر حرباً معلنة على "قوات التحالف الدولي"، ويشن هجمات شبه يومية مُنسقة على قواعد عراقية – أميركية، فضلاً عن السفارة الأمريكية نفسها، ويغتال ويختطف ويهدد نشطاء وصحافيين، ويعتدي على ساحات الاحتجاج. لذا فإن عقد انتخابات في ظل السلاح، وتشارك فيها جماعات إدارة الفساد المتطرفة، يقوض القدرة على اختبار مجلس نواب جديد، يعبر عملياً عن مطالبات الشارع أو يأتي بشيء من "الإصلاح".

يعكف الكاظمي وفريقه الاستشاري على إعداد "الورقة البيضاء" كلائحة إصلاحات حكومية، قبالة لائحة الشروط العشرة التي وضعها تحالف "الفتح" لمنح دعمه السياسي للحكومة، وأبرزها إخراج القوات الأميركية من العراق، والمضي قدماً بتنفيذ المعاهدات مع الصين التي أبرمها عبد المهدي قبل اندلاع الاحتجاجات ضد النظام. وبالعموم فإن ورقة الكاظمي لن تقدم إصلاحاً حقيقياً وسط أزمات يُفجرها خصوم لا يثقون به، بل ستكون ورقة إنقاذ للنظام.

من الخطأ الاعتقاد، بأن الحكومة المؤقتة أو الكاظمي نفسه، هما استجابة إصلاحية لبلد منهار ويتجه إلى الهاوية، على قاعدة أنها حكومة أقصّت شكلياً حلفاء طهران وجاءت بخصومهم. إنما هي حكومة كسب وقت إضافي، تُمكن النظام الفاشل من إعادة تموضعه قبل الانتخابات المقبلة، وامتصاص قوة الاحتجاج الشعبي، ومن ثم الذهاب إلى خيار "الانتخابات المبكرة"، وتوطين قوى الفساد القائمة منذ 17 عاماً مجدداً.
هناك اشتباك غير معلن، تنخرط فيه قوى النظام، والكاظمي نفسه عبر "جهاز المخابرات"، ضد بعضها البعض، بتكسير قواها المحلية، من طرف الجماعات المسلحة أو ساحات الاحتجاج. فالجميع يسعى إلى تحقيق توازن مقبول بين السلاح والاحتجاج، بما لا يحقق أغلبية انتخابية لجماعة على حساب أخرى، وسلسلة الاغتيالات والملاحقات تجيء ضمن المسعى.

الكاظمي وحكومته، وفريقه الاستشاري، يحاولون جميعاً الإفلات من أفخاخ الأزمات العراقية، لكنها أفخاخ معقدة لجهة أن المشكلات عويصة يستعصي حلّها، ويستعصي أن تستأثر "الدولة/ الحكومة" الشكلية بصلاحياتها المنزوعة لصالح مراكز نفوذ وقوة موزعة بين شركاء النظام وداعميهم ومُشغليهم. وأية محاولة إصلاح حقيقية تواجه بقبضة شرسة: مثلاً انتهت بالاستسلام محاولة إسكات "خلايا الكاتيوشا" التي تستهدف سفارة البيت الأبيض وقواعد عسكرية عراقية – أميركية مشتركة، ومطار بغداد ومطار بلَد العسكري يومياً.

"الدولة السائبة"

واجهت تلك الجماعات بشراسة إجراءات الكاظمي، وكادت تحتل مقر رئاسة الحكومة داخل المنطقة الخضراء، وحاصرت مقر جهاز مكافحة الإرهاب، وأطلقت بالقوة سراح "الخلية الإرهابية"، واغتالت عقبها بأيام المحلل الأمني هشام الهاشمي، وما زالت تشن يومياً حملات اغتيال في البصرة وبغداد، كرسائل متعددة المستويات، وانتقلت إلى مستوى ميداني بتنفيذ عمليات استهداف أرتال عسكرية يومياً، وابتدعت لنفسها مسميات جديدة، كـ"عصبة الثائرين" التي انكشفت استخبارياً فاستُبعدت، لتحل محلها جماعة شبحية بزعم "المقاومة" تحت اسم "جماعة أصحاب الكهف"، وللمرة الأولى ظهر شعارها الرسمي مختلفاً عن "القبضة والبندقية"، الرمزين الشهيرين، المستوحيان من شعار الحرس الثوري الإيراني، الذي تستلهمه أغلب الجماعات المسلحة الشيعية في العراق ولبنان واليمن وسوريا.

علاقة الكاظمي مع واشنطن وظيفية أكثر مما هي سياسية، وداعمه هو كنعان مكية، الذي لعب دوراً مؤثراً في التمهيد له منذ فشل حيدر العبادي (2014 – 2018) في الظفر بولاية ثانية، عقب سقوطه كمحصلة لاحتجاجات البصرة و"انقلاب تسوية" انتخابات 2018. ومكية لعب دوراً أيضاً في صعود العبادي خلفاً لنوري المالكي (2006-2014).

شعار الجماعة الغامضة "أصحاب الكهف"، اقتبس غُصني الزيتون الإغريقيين المعتمديّن في الشعار الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة، ليكون الإطار الخارجي لشعار المجموعة المسلحة! كأنه أراد "استثمار" دعوة مقتدى الصدر عقب اغتيال سليماني من سمّاهم بـ"الفصائل العراقية المقاومة، والفصائل خارج العراق" إلى تشكيل "أفواج المقاومة الدولية".

المشكلة الأكبر التي تواجه الكاظمي وفريقه الاستشاري الناعم، هي "الدولة السائبة"، التي بُنيت بطبقات متشعبة طيلة 17 عاماً، وبات تحطيم قدراتها تحدٍ يستلزم مواجهة انتحارية، إما أن تؤدي إلى تفكيكها، أو تعزيز قوتها بما لا يُمكّن من إسقاطها أبداً. وإن صحت التقديرات الطوباوية المتفائلة، بأن هدف حكومة الإعلاميين والأكاديميين هي مواجهة "الدولة السائبة"، فهذا يعني تقديمهم كأضاحٍ على مذبح بارد في معركة غير أخلاقية بالمرة.

العراق لا يحتاج إلى "حكومة شهيدة" بقدر حاجته إلى "حكومة مفيدة".

تشدد الجماعات المسلحة معلومة الهوية والتمويل والمُشغّل من هجماتها يومياً، تحت عنوان "المقاومة لطرد المحتل الأميركي"، لكنها لم تقم بأية عمليات ضد الجيش التركي الذي يحتل أجزاءً شاسعة من شمال العراق تصل إلى عمق 300 كلم، حتى حدود شمال الموصل، في هلال يمتد من الشرق إلى الغرب، وله أكثر من 25 قاعدة وثكنة ونقطة عسكرية واستخبارية، وعمليات قصف يومية راح ضحيتها آمر قوة حدودية عسكرية عراقية. كما لم تنشط ضد التجاوزات الإيرانية العسكرية على الخط الحدودي، واحتلالها لمخافر ومكامن نفطية، وإرغام العراق على اعتبارها حقولاً مشتركة. فهي "مقاومة" مشروطة!

ساعي البريد

رسائل واشنطن – طهران المتبادلة في العراق تشبه حد السكين الأعمى: لا تنحر، لكنها تترك حزّاً عميقاً تتراكم فيه الضغائن والدم!

قُبيل مغادرته بغداد، قال الكاظمي لـ"أسوشيتد برس" إنه "لن يكون ساعي بريد بين أميركا وإيران". لكنه التقى مطولاً بقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني في بغداد، وبعدها بقادة الفصائل العراقية المسلحة، وبدا وكأنه "جامع بريد" لا ساعي فقط، فسقط تصريحه قبل أن تقلع الطائرة إلى واشنطن. يحاول الكاظمي أن ينجو من الاشتباك بأقل خسارة ممكنة، ويعزز مكانته المستقبلية كلاعب سياسي طامح إلى حكومة بولاية كاملة، وبدا وكأنه يبتكر خطوات تجريبية لنفسه، ويمارس استعراضات لرفع الشعبية. وهو يُدرك تماماً أن مهمته الأساسية داخل النظام هي "ساعي بريد" لا رئيس حكومة، وإنْ حاول أن يحصد لنفسه منزلة أكثر احتراماً داخل شبكة النظام.

لم يُفوّت دونالد ترامب، زيارة الكاظمي دون استعراض. فالرسالة الدعائية التي أظهرها الإيرانيون باستقبال الأخير لديهم، أرادت تشكيك البيت الأبيض في "الصديق الكاظمي"، حين استقبل رسمياً بحرس الشرف، وكسر خامنئي البرتوكول المشدد بسبب "كورونا" بعدم إجراء أية اجتماعات أو لقاءات مباشرة، فاستقبل الكاظمي، كأول زائر أجنبي يستقبله المرشد، وثاني شخصية رفيعة بعد لقائه بروحاني. أرسل المرشد أمام الكاظمي رسائل تصعيد مباشرة إلى الأميركيين، في كلمةٍ بثها الإيرانيون خلافاً للبروتوكول، حتى تصل. فالساعي غير مؤتمن!

رسائل واشنطن – طهران المتبادلة في العراق تشبه حد السكين الأعمى: لا تنحر، لكنها تترك حزّاً عميقاً تتراكم فيه الضغائن والدم! قُبيل مغادرته بغداد، قال الكاظمي إنه "لن يكون ساعي بريد بين أميركا وإيران". لكنه التقى مطولاً بقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني في بغداد، وبعدها بقادة الفصائل العراقية المسلحة، وبدا وكأنه "جامع بريد" لا ساعي فقط، فسقط تصريحه قبل أن تقلع الطائرة إلى واشنطن.

حين استقبل ترامب الكاظمي، أمر بأن يحظى الوفد العراقي باستقبال من الدرجة الأمنية الرفيعة، ومددت الزيارة يوماً إضافياً، وتجنب الرئيس أية تصريحات أو رسائل معلنة ضد طهران، حتى أنه تهرب من سؤال مباشر في جلسة الاستقبال الرسمية لصحافي عن مواجهة واشنطن لإيران وجماعاتها المسلحة في العراق، فأجاب: لم أسمع ما قلت!

وقّع العراق مع واشنطن حزمة مشاريع طاقة وكهرباء واستثمارات بقيمة 8 مليار دولار. وحثَّ ترامب الكاظمي على التقارب بشكل أكبر مع الجيران العرب الأقرب، والابتعاد عن إيران بهدوء. وكخطوة متعجلة، كانت قمة عبد الله – السيسي – الكاظمي في الأردن، استكمالاً لمشروع بدأه العبادي.

مقالات ذات صلة

الفكرة أن واشنطن لا تريد مواجهة منفردة مع إيران في العراق، كما أنها تؤمن بأن الأموال الخليجية إذا ما تدفقت خلال الأشهر المقبلة إلى بغداد، ستستطيع قوى مواجهة طهران ترتيب قواها قبل الانتخابات، وستحتاج إلى تمويلات مالية ضخمة، في ظل أزمة إيران الاقتصادية وتشديد العقوبات، ومخاوف تدخل الصيّن كممول لجماعات "محور السلاح"، وهو ما لا تريده واشنطن أبداً. لذا تدفع باتجاه خيارات إقليمية بعيداً عن الصين التي باتت تُشغِّل طهران لديها، كحارس استثمارات وهراوة غليظة لتمكين مشروع "طريق الحرير" مقابل تخليص نظام المرشد من ضغط عقوبات قد تثير احتجاجات داخلية، وقد تودي إلى نهاية كارثية.

مقالات من العراق

"شنكَال"؟

فؤاد الحسن 2024-12-23

لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

للكاتب نفسه

تغيّر المُناخ وأزمة المياه في العراق: مؤشرات الهشاشة وحِدَّة الأثر البيئي

صفاء خلف 2022-10-02

يقع العراق كأكثر منطقة تعاني ضعفاً وهشاشة بيئية في المرتبة 129 من أصل 181 دولة، متموضعاً في قلب التأثيرات العنيفة للتطرف المناخي والنُدّرة المُطلقة للمياه، التي ستؤدي في العقدين المقبلين...