أين العقد الاجتماعي في مصر؟

فلنناقش البديهيات! ثلاث مسائل كانت وما زلت تلح على مصر كدولة ومجتمع، قبل الثورة وبعدها: 1- تشكيل سلطة قوية مصحوبة بآليات قانونية. 2- التحديث (وهنا تحديداً المقصود هو تطوير آليات الحكم ومزيد من كفاءة مأسستها). 3- مجتمع صاحِب مسؤولية سياسية وجنائية ومدنية عن أفعاله. ومع اشتداد حالة "الجنون" في مصر، سواء على مستوى المجتمع أو الدولة، يبدو أنه يجب إعادة طرح سلسلة من
2014-12-03

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
من صفحة naguib على فايسبوك

فلنناقش البديهيات! ثلاث مسائل كانت وما زلت تلح على مصر كدولة ومجتمع، قبل الثورة وبعدها:
1- تشكيل سلطة قوية مصحوبة بآليات قانونية.
2- التحديث (وهنا تحديداً المقصود هو تطوير آليات الحكم ومزيد من كفاءة مأسستها).
3- مجتمع صاحِب مسؤولية سياسية وجنائية ومدنية عن أفعاله. ومع اشتداد حالة "الجنون" في مصر، سواء على مستوى المجتمع أو الدولة، يبدو أنه يجب إعادة طرح سلسلة من الإشكاليات القديمة، لعل ذلك يأخذ الحوار بعيداً عن هوس الحرب على الإرهاب، الأمني والعسكري.
 

الحكم والانصياع من خلال المساومات
 

هناك اضطراب واضح في كافة مستويات ما يمكن تسميته بالعقد الاجتماعي. وهنا، ليس المشار إليه فحسب هو الدستور كبلورة عليا للعقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، وكتمخض لصراع القوى السياسية والاجتماعية. بل المقصود كافة أشكال العقد الاجتماعي اليومية: في التعاملات والتبادلات بين المجتمع والدولة، وبين الأفراد ومنظومة السلطة، وبين الأفراد مع بعضهم البعض في ما يمكن تسميته بالفضاءات العامة أو ما تمتد إليه السلطة في المساحات الخاصة. وهو أمر يُصعِّب فصل ما يمكن للسلطة التدخل فيه وما لا تتدخل فيه، ويجعل مساحة التدخل شديدة الرمادية والانتقائية. فمثلاً، لا تتدخل السلطة بشكل حقيقي في الريف والصعيد في مسألة مثل ختان الإناث، لأن ثمة عقدا ضمنيا بين المجتمع والدولة يُعتبر فيه قطاع من المجتمع هذه المساحة شديد الخصوصية، ويساوم عليها السلطة في مقابل غض الطرف عن انتهاك مساحات أخرى، مثل الجسد في أقسام الشرطة، و/أو درجات الانتهاك المتعددة بحسب تنوع المناطق الجغرافية المختلفة. وتلك المساومة هي المجال الذي يتم فيه تشكّل هيمنة السلطة وتكوين نظام سلطة قائم على إدارة تلك المساحات ومراعاة نطاق وحيز استخدام كل من العنف والمساومة والإقناع. وهو ما يقيم تناقضا دائما بين النص المكتوب (الدستور) والقوانين المصاحبة له، والنص العرفي.
ويقود هذا التناقض إلى أمرين: أولاً انعزال المعارك القانونية والدستورية عن الواقع اليومي للمجتمع، وثانياً عدم اكتراث الطرفين، السلطة والمجتمع، بقيمة القانون والعقد الاجتماعي المكتوب كمنظِّم لعلاقات المجتمع والدولة في العديد من المساحات. ذلك أن العرف والمساومة هما المفتاحان الحقيقيان للممارسة السلطوية. وهنا يأتي دور الشبكات الاجتماعية – المشكَّلة في أغلب الوقت من علاقات زبائنية مع السلطة - في صياغة المساومة مع هذه الاخيرة. ولأن العرف وتنوعه هو الأساس، فيكون من الصعب على السلطة أن تلتزم هى نفسها بترسانة قوانينها، لأن هذا معناه مزيد من الاضطراب في إدارة المجتمع، حيث يتصادم العقد الاجتماعي المكتوب مع العقد الاجتماعي المفعَّل في مساحة ما.
لكن البنية القانونية، بترسانة تشريعاتها وقوانينها، تظل قابلة للاستدعاء والتفعيل من قبل السلطة الحاكمة، بشكل خاضع لإرادتها وأهوائها. هل يعني هذا أن البنية القانونية بلا قيمة وبلا طائل؟ بالقطع لا. فمصر دولة شهدت عمليات تحديث واسعة وبناء لمؤسسات عريقة – بمعنى القدم والتشكل والتأثير. المشكلة تكمن في توزيع وتنوع أنماط السلطة داخل المجتمع. فمثلما، يوجد محاكم تابعة للدولة توجد المحاكم العرفية التي تقر بها الدولة في مساحات عديدة، مثل حل نزاعات القبائل والعائلات في الصعيد وبعض مناطق الدلتا وسيناء ومرسى مطروح وسيوة.. وعلى الرغم من وجود مؤسسة شُرطية عريقة وعنيفة ومتوغلة، إلا انه يصعب على الدولة التوغل المؤسسي والقانوني لفرض نسق عام من الانضباط.

 

الفشل المؤسسي والغلبة الأمنية والأعراف المتعددة

 

الدولة القومية الحديثة هي ذروة تجلي مشروع الحداثة. وسواء فُرِضت هذه الدولة من أعلى، كحال أغلب الدول العربية، أو كانت نتاج تطور ما في مجتمعاتها، فأهم سماتها هي المؤسسات والقانون وما ينتج عنهما من تنميط وضبط، سواء كانت الدولة ديموقراطية أو قمعية أو حتى فاشية. ويعد عصر مبارك أكبر تجل لفشل وترهل المؤسسات، وانتشار الفساد فيها وخارجها، وضعف الدولة في القيام بوظائفها. وقد شهد هذا العصر التوسع في الحكم عبر شبكات زبائنية تربطها بالدولة علاقات فساد وتشارُك في السيطرة على المساحات الاجتماعية. وتمثَّل هذا في علاقات العائلات الكبيرة ومجموعة واسعة من التجار والمهربين ورجال الأعمال. ونجح نظام مبارك في خلق تزاوج بين أسياد بيروقراطية عهد عبد الناصر وشبكات الانفتاح التي وُلدت في عهد السادات. فقد اتيحت لأبناء الانفتاح وشبكاته الجديدة الفرصة في التوغل داخل أجهزة الدولة عبر الدخول الى مجلس الشعب أو كلية الشرطة، بالإضافة لسيطرتهم على السوق. وأصبح من الصعب على السلطة الحضور بشكل مؤسسي منضبط قانونياً في تلك المساحات. والإدارة العليا من قبل الدولة لتلك العلاقات كانت تتم من خلال الأجهزة الأمنية، وبالأخص الداخلية وجهاز أمن الدولة. وهو ما يجعل الأجهزة الأمنية تطالِب دوما بتوسيع مساحات سلطتها في النص الدستوري، لدرجة هوسها الدائم باستمرار حالة الاستثناء وقانون الطوارئ. وهكذا يتسع الرتق في الدستور وتطغى عليه معايير العرف والضرورات الأمنية. فيُعطَّل فعلياً على الأرض ويحدث أكبر اضطراب على مستوى العقد الاجتماعي في تجليه الأعلى.
يجد عوام الناس أنفسهم خارج تلك الترتيبات العرفية، وفريسة للسلطة على مستوى الشبكات الزبائنية أو على مستوى مؤسسات الدولة. إن شاباً جامعياً مثلاً، من أبناء الطبقة الوسطى أو الفقيرة، لا ينتمي لعائلة كبيرة، وليس منخرطا في إحدى شبكات الزبونية، يصبح عرضة للتنكيل من قبل مجموعات البلطجة في الحي الذي يقطنه، أو من البوليس، سواء كان منخرطاً في عمل سياسي أم لم يكن، وهو يتعرض لتوحش البيروقراطية وإذلالها له إذا تصادف احتياجه لاستخراج أوراق، أو يقع تحت رحمة العائلات المهيمنة. وهو لا يعرف لنفسه حقوقاً وواجبات في متاهة تلك الشبكات من السلطة والتي تربطها انماط وانساق مختلفة من العرف. ومن ثم لا يجد أي عقد اجتماعي يمكن أن يركن عليه غير الانصياع أو قبول التنكيل.
وتدار الصراعات حتى داخل أجهزة الدولة إما بقوة كل جهاز أو بالتسويات العرفية. فمثلاً ان وقعتْ مشاجرة بين وكيل نيابة وضابط شرطة، فما يفصل في الأمر هو العرف السائد في المناخ الحاكم في فترة ما، أو التصالح والتنازل. وإن كان لا يوجد تفعيل حقيقي للقانون أو لعقد اجتماعي منضبط داخل الدولة نفسها، فما بالك بخارجها. وهذا ما يجعل اجهزة الدولة تنصاع دوماً لمصلحة الهيمنة الأمنية. وهو ما يسهِّل تجاوز القانون للمساومة على زيادة مساحة الهيمنة المادية والرمزية للموالين للنظام. والنتيجة الحتمية لهذا الأمر تكون مزيدا من الفساد والمحسوبية وغياب القانون.
تعيد هذه الدورة إنتاج نفسها بشكل متجدد، ما لم تحدث معها قطيعة أو ما لم تتحلل أسباب سيطرتها وإمكانياتها في الاخضاع والتشكيل. وهو ما يُسهّل اختراق جهاز الدولة وإزاحته كعقبة قانونية في وجه الفساد، ويُفقده قدرته الإدارية والسلطوية لمصلحة تلك الجماعات. ذلك أن هناك من جهة هيمنة للأجهزة الأمنية على بقية مؤسسات الدولة وتشابكا لتلك الجماعات في المصالح مع السلطة السياسية والسيادية. فلا يتبقى من العقد الاجتماعي المكتوب سوى الشرائح منزوعة المشاركة في الحكم والموارد (ما يُعرف بالمواطن البسيط). وهكذا يضطرب العقد الاجتماعي مرة اخرى ولا يتبقى منه سوى القاعدة المجتمعية الحاكمة في كل منطقة، وشكل العلاقة بين كبار السكان والدولة. لهذا تتكون سلطة شديدة القمعية من ناحية، وشديدة الضعف قانونياً ومؤسسياً في الوقت نفسه ومن ناحية ثانية، لأنها منخورة بالفساد. ويصبح الفساد شبكة ممتدة ومتجاوزة للدولة ومخترقة لها ايضاً. ويصعب السيطرة على الفساد حتى لو توافرت النية، لأن هذا سيعني انهاء جملة من تحالفات السلطة المستقرة والفاعلة في إخضاع المجتمع والهيمنة عليه وضمان ولاء قطاع معتبر ومهم للسلطة. ولا ينفذ القانون في الدولة أو محيط علاقاتها العليا. وهو ما يجعل الانصياع لا يمكن أن يتم إلاّ لما هو عرفي ولحظي وسياقي.
 

سلطة مكسورة العين ومواطن غير مسؤول
 

العلاقة مشروخة بين الدولة والمواطن في مصر. وهي الأطروحة المميزة التي عمل عليها الراحل سامر سليمان وعمرو إسماعيل وجلال أمين. وهي أيضا علاقة متناقضة. فمن ناحية نحن أمام سلطة طاغية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا تتورع عن التنكيل بالمواطنين وحقوقهم. بل ان سؤال حقوق المواطنين يقود السلطة لحالة شديدة من الارتباك والعنف أحيانا. ليس بسبب الطغيان، بقدر ما هو بسبب اضطراب حدود ووضوح الحقوق والمساحات والحريات. ويمكن رصد ثلاثة نماذج لعنف الدولة في مساحات مختلفة: البيروقراطية واستخلاص المستندات، الداخلية والعمل الشُّرطي، والمستشفيات الحكومية. وكل منها يعكس حالة عنف متبادل وعدم رضا من الطرفين. فمثلاً هناك قطاع كبير من الأفراد لا يرى في الداخلية غير حفنة من المرتزقة مزودين بالسلاح والعتاد، والداخلية لا ترى في الشعب إلا مجموعة من الهمج والرعاع - إلا استثناءات - يجب تأديبهم دائما وترويعهم لمنع فعل الجريمة أو لحملهم على الانصياع للسلطة. والبيروقراطية تتعامل بمنطق المَن والاذى مع المواطن. وترى المواطنين كحفنة من المزعجين الذين يودون التلاعب بالقوانين واللوائح. في المقابل يراهم المواطن حفنة من الكسالى والفاسدين. والبيروقراطية شديدة الانصياع لشبكات الأمن وأجهزتها أو لكبار الفاسدين من رجال الأعمال والدولة، وهي في المقابل شديدة التوحش على الطبقات الأدنى أو المواطن العادي. أما اضطراب العلاقة الدائم بين الجماهير والمستشفيات فهو أمر منتشر وهم في صدام مستمر، على مستوى العلاقة بين الجمهور والأطباء، وعلى مستوى العلاقة بين الأطباء والوزارة. وينتج عن ذلك اضطراب بنيوي وعلائقي وممارساتي داخل مؤسسة الصحة. وهذه حالة من اللااستقرار الحقيقي التي لا تسمح بتمخض عقد اجتماعي. وهي بالمقابل تساعد على تفشي أكثر لحالات الفساد إلى ان يتحول هو نفسه ـ الفساد ـ إلى "عقد اجتماعي" لمن يدخلون شبكاته. وهذا ما يجعل معيار الفساد شديد الاضطراب وغير محدد الملامح وغير معترف به بشكل جمعي. ويسمح للسلطة بأن تتلاعب به، فتارة تطبق القانون والمعيار العام وتارة أخرى تتجاهله بهدوء. ولهذه الانتقائية/الاعتباطية وظيفة. فقد صارت الحياة لا تستقيم بدون ممارسة قدر معين من الفساد الذي صار مقبولا على مستوى العرف الاجتماعي، مثلما هو الحال مع البيروقراطية المصرية. الفساد يصبح "ضرورة". إلا ان البنية القانونية ما زلت حاضرة، والفساد طبقاً لها جرم. وهذا الاضطراب الشديد في العقد الاجتماعي هو ما يدفع المصريين دوماً الى الهوس بالدستور.
كافة أشكال العقد الاجتماعي تقع إذاً في دائرة الارتباك الدائم. وهو ما يصعِّب تحديد مساحات السلطة وحدود تدخلها، كما يصعِّب تقليم أظافرها. وهو يلغي الارتكاز على القانون كمرجع عام، لغلبة العرف وتعدد أنماطه وأنساقه، ويعرقل خلق المواطن المسؤول، أي المطلع على ما له من حقوق وما عليه من واجبات. وينتج عن هذا كله دولة طاغية ومجتمع ضعيف ومواطن حائر بين آليات البطش وأحكام العرف، يسعى لتدبر حياته بالتشاطر ويرضى بالقهر...

 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...