السودان على طريق اصطفاف سياسي جديد؟

مسيرة "تعديل المسار" التي انطلقت في موعدها في 30 حزيران/ يونيو المنصرم، حققت هدفها السياسي بأن أعادت إلى الأذهان التأكيد على قوة الشارع في المشهد السياسي السوداني. وهي كررت تجربة مسيرة 30 حزيران/ يونيو 2019، التي أعطت دفعة للقوى المدنية حين كانت تفاوض المجلس العسكري الانتقالي وقتها، مما فتح الباب أمام ترتيبات الفترة الانتقالية.
2020-07-24

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
أحمد أبو شريعة - السودان

في مساء التاسع والعشرين من حزيران/ يونيو المنصرم خاطب الدكتور عبد الله حمدوك السودانيين من خلال التلفزيون مبيناً لهم أن الرسالة قد وصلت، وأنه في ظرف أسبوعين ستصدر سلسلة من القرارات لتعديل مسار حكومته التي جاءت إلى الحكم إثر انتفاضة شعبية. هذا الخطاب جاء قبل ليلة من المسيرة الجماهيرية التي دعت إليها لجان المقاومة، وبعض القوى السياسية التي ترى أن الحكومة لم تنجز شيئاً يذكر بعد قرابة العام في السلطة، ومن هنا جاءت تسمية "تعديل المسار" التي أُطلقت على مسيرة "الثلاثين من يونيو" والتي طالبت بتعيين ولاة مدنيين في الولايات، وإقامة المجلس التشريعي، وإجراء محاكمات لرموز النظام السابق، واستكمال التحقيق في مجزرة فض الاعتصام (أمام القيادة العامة للجيش في 3 حزيران/ يونيو 2019) ومعالجة الوضع الاقتصادي.

المسيرة التي انطلقت في موعدها بالضبط حققت هدفها السياسي بأن أعادت إلى الأذهان التأكيد على قوة الشارع في المشهد السياسي السوداني. وهي كررت تجربة مسيرة 30 حزيران/ يونيو من العام الماضي، التي أعطت دفعة للقوى المدنية حين كانت تفاوض المجلس العسكري الانتقالي وقتها، وفرضت وجود شراكة بين الطرفين المدني والعسكري مما فتح الباب أمام ترتيبات الفترة الانتقالية بمؤسساتها المختلفة.

فترة الأسبوعين التي حددها حمدوك لنفسه مرت بدون إصدار قرارات كما وعد، ما عدا إعفاءات وتعيينات في قيادة الشرطة، وقبول استقالة ستة من الوزراء وإقالة واحد. لكن لم يتم تعديل وزاري يغطي الحقائب الوزارية التي شغرت. وهذا ما دفع إلى تصاعد نغمة النقد العلني ضد حمدوك وإدارته للبلاد، ووصولها إلى الحاضنة السياسية للحكومة، وهي "قوى الحرية والتغيير" التي تضم أحزاباً وتجمعات نقابية. وتجاوز الأمرُ النقدَ، سواء بصورة مباشرة، أو من قبل شخصيات أو تنظيمات محسوبة على هذه القوى، إلى تغيير في المواقف. فبدلاً من الالتزام السابق بعدم الدخول في الحكومة، باعتبار أن الجميع اتفق أن تكون حكومة كفاءات، وأن تتفرغ القوى السياسية لبناء نفسها بعد سنوات طويلة من القمع في ظل النظام السابق، أصبحت الأحزاب تتحدث عن أهمية مشاركتها الفعلية، سواء في الحكومة المركزية أو في تعيينات الولاة، وذلك حتى تسهم في تحسين أداء الحكومة كما ترى. فهي في نهاية الأمر مسؤولة عن إنجاح الفترة الانتقالية والوصول بها إلى بر الأمان، وهو تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة.

مؤشرات التغيير الوزاري

تم إخراج التغيير الوزاري بترتيب معين لتجاوز الحرج، وذلك بأن يقوم الوزراء بتقديم استقالاتهم، ويقبل رئيس الوزراء استقالات من لا يريد استبقاءهم. الجميع وافق على ذلك ما عدا وزير الصحة الدكتور أكرم علي التوم، الذي يرى أن تقديمه لاستقالته إقرار منه بالفشل، وهو يعتقد أنه لم يفشل، كما يرى انه جاء إلى موقعه محمولاً على أكتاف انتفاضة شعبية، وهي التي تحدد بقاءه أو ذهابه.

حمدوك قبل استقالة ستة من الوزراء، خمسة منهم من القطاع الاقتصادي يتقدمهم وزير المالية إلى جانب وزراء الزراعة، الطاقة، الثروة الحيوانية، والنقل وكذلك وزيرة الخارجية. أما وزير الصحة فقد تمت إقالته. وهذه الخطوة تعني أمرين: إن الهمَّ الاقتصادي فرض نفسه في أعلى قائمة أولويات الحكومة، وبروز الحاجة إلى تغيير خمسة من وزراء هذا القطاع. أما إقالة وزير الصحة فتشير إلى أزمة أعمق تتعلق بالحاضنة السياسية للحكومة، وهي قوى الحرية والتغيير التي قالت إنها فوجئت بخطوة رئيس الوزراء.

وزير الاقتصاد السابق قادم من البنك الدولي ويدعو إلى التعامل مع المؤسسات الدولية، ما يتطلب معالجة موضوع ديون هذه المؤسسات على السودان، وكذلك رفع الدعم كجزء من برنامج إعادة هيكلة الوضع الاقتصادي. بينما اللجنة الاقتصادية لـ"قوى الحرية والتغيير" تتبنى مواقف سياسية مناوئة، وهو ما أدى إلى عدم التوافق على ميزانية هذا العام، والاستعاضة عنها بأوامر مؤقتة.

فبالنسبة للجانب الاقتصادي، يبدو الأفق مسدوداً لجهة التصاعد المستمر في الأسعار، ووصول التضخم إلى 136 في المئة وفق الأرقام الرسمية، وحدوث انقطاع لساعات طويلة للإمداد الكهربائي، وفوق هذا تعثّر وصول عون مالي واقتصادي بسبب وجود السودان على القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب. وقد جاء مؤتمر برلين في نهاية أيار/ مايو ليؤكد على محدودية الدعم الخارجي. فعلى الرغم من مشاركة 40 دولة، والمنظمات الدولية والإقليمية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، والبنك الإفريقي للتنمية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، إلاّ أن ما خلص إليه كان الإعلان عن مبلغ 1.8 مليار دولار فقط، علماً أن حمدوك عندما تولى رئاسة مجلس الوزراء أعلن أن البلاد تحتاج إلى عشرة مليارات دولار، يودع ملياران منها في بنك السودان المركزي وذلك لدعم العملة الوطنية.

مؤتمر برلين سار على التقليد السائد في مثل هذه المؤتمرات: أي الخروج بالتزامات تقل عن الاحتياجات الفعلية للبلاد، ثم هي مجرد إعلانات بالتزامات مالية لا يتم الوفاء بها كلها، إذ تقل الأرقام المدفوعة عادة عن تلك التي أعلنت. وأخيراً فإن نسبة مقدرة من أي مبالغ مدفوعة تذهب إلى الدولة المتبرعة في شكل دفعيات لرواتب ومشتريات وغيرها من الدولة نفسها.

ولهذا يُعتقد أن وزير المالية السابق المستقيل إبراهيم البدوي قرأ المشهد الفعلي، ووجد أن مخرجات مؤتمر برلين لم تأتِ بالطريقة المأمولة، واضعاً في الاعتبار أن برنامج دعم الأسر الفقيرة الذي أطلقه لمواجهة ارتفاع الأسعار يكلف في مرحلته الأولى 1.9 مليار دولار. ثم أن أي تحرك في اتجاه معالجة مشكلة الديون يتطلب من السودان القيام بإجراءات اقتصادية قاسية مثل ترشيد الدعم إن لم يكن رفعه كلياً، وهي الخطوة التي تتطلب تغطية سياسية من الحكومة، ومن ورائها حاضنتها السياسية التي تتبنى موقفاً مناهضاً لتلك السياسة.

يبدو الأفق مسدوداً من الجانب الاقتصادي، لجهة التصاعد المستمر في الأسعار، ووصول التضخم إلى 136 في المئة وفق الأرقام الرسمية، وحدوث انقطاع لساعات طويلة للإمداد الكهربائي، وفوق هذا تعثّر وصول عون مالي واقتصادي بسبب وجود السودان على القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب.

الوضع الاقتصادي هو كعب أخيل، وذلك في إطار الوجهة العامة للفلسفة الاقتصادية، وهل تتبنى الدولة سياسة سيطرة الدولة أو اقتصاد السوق؟ علماً أن أيّاً من الخيارين يتطلب إجراءات قاسية لا تتوفر لها في الوقت الحاضر التغطيةُ السياسية اللازمة.

وهذا ما ينقل النقاش إلى الجانب الثاني المتعلق بالعامل السياسي وواجهته، "قوى الحرية والتغيير"، التي تتكون من الأحزاب السياسية ومن العديد من الأجسام النقابية. وقد كان العامل الرئيسي الذي جمعها هو معارضتها لنظام الإنقاذ السابق، لكن فيما يتعلق بالبدائل، فهناك القليل المشترك بينها عدا بعض العموميات. ولهذا بدأت تتمايز الصفوف في داخلها، وبينها وبين الحكومة، خاصة في الميدان الاقتصادي. فالوزير السابق القادم من البنك الدولي يحمل رؤية تقوم على التعامل مع المؤسسات الدولية، الأمر الذي يتطلب معالجة موضوع ديون هذه المؤسسات على السودان، وكذلك رفع الدعم كجزء من برنامج إعادة هيكلة الوضع الاقتصادي، بينما اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير تتبنى مواقف سياسية مناوئة، وهو ما أدى إلى عدم التوافق على ميزانية هذا العام والاستعاضة عنها بأوامر مؤقتة.

الملعب السياسي

كذلك برز في الممارسة الفعلية أنه، على الرغم من اتفاق الأحزاب على أن يتم تشكيل الحكومة من كفاءات غير منتمية سياسياً، إلا أنه حدثت محاصصات في التعيينات، الأمر الذي أدى إلى أن يعيد كلا من حزبي "الأمة" و"المؤتمر السوداني" النظر في التزامهما السابق بعدم دخول الحكومة، ويطالبان بنصيبهما في السلطة، وذلك للمساعدة في تحقيق أهداف المرحلة الانتقالية ومن منطلق المشاركة السياسية الفاعلة.

مقالات ذات صلة

لكن يبقى الوضع الاقتصادي هو كعب أخيل، وذلك في إطار الوجهة العامة للفلسفة الاقتصادية، وهل تتبنى الدولة سياسة سيطرة الدولة أو اقتصاد السوق؟ وأي من الخيارين يتطلب إجراءات قاسية، لا تتوفر لها في الوقت الحاضر التغطية السياسية اللازمة. فقوى الحرية والتغيير تعاني هي نفسها من انشقاقات أبرزها تلك التي طالت تجمع المهنيين، وهو الذي قاد الحراك الشعبي ضد النظام السابق. وتأتي إقالة وزير الصحة، وهو المحسوب على أحد الأجنحة المنشقة من تجمع المهنيين ليشير إلى احتمال أن يذهب حمدوك في طريق تغيير التحالفات السياسية التي يعتمد عليها. ولوحظ أن معظم الانتقادات الموجهة ضد حمدوك وحكومته بدأت تنهمر من الشخصيات والتجمعات المحسوبة على الحزب الشيوعي وإلى حد ما حزب الأمة.

تتكون "قوى الحرية والتغيير" من الأحزاب السياسية ومن العديد من الأجسام النقابية. وقد كان العامل الرئيسي الذي جمعها هو معارضتها لنظام الإنقاذ السابق. لكن فيما يتعلق بالبدائل، فهناك القليل المشترك بينها عدا بعض العموميات.

بروز الانقسام والتشرذم بين "قوى الحرية والتغيير"، وتصاعد انتقادها للحكومة، قد يؤديان إلى دفع حمدوك إلى التنسيق بصورة أكبر مع المكوّن العسكري في السلطة الذي يوفر قاعدة سند أقوى، من خلال القوى الأمنية. لكن لا يمكن تجاهل الشارع، ولجان المقاومة في معادلة المشهد السياسي في البلاد.

وفي ضوء بروز الانقسام والتشرذم بين قوى الحرية والتغيير، وتصاعد نغمة انتقادها للحكومة، فإنه يعتقد أن هذا التطور سيدفع بحمدوك إلى التنسيق بصورة أكبر مع المكوّن العسكري في السلطة الذي يوفر قاعدة سند أقوى، من خلال القوى الأمنية (الجيش والدعم السريع والشرطة وجهاز المخابرات) التي تقع كلها تحت إشراف المكوّن العسكري. ويظهر هذا في المساعدة التي قدمها العسكريون لحمدوك في التغييرات التي أجراها في قيادة الشرطة، وما يتردد عن عدم ممانعتهم في إعفاء وزير الداخلية أيضاً. وقد يمتد هذا التنسيق ليشمل بعض الحركات المسلحة، خاصة وأن الاتفاق معها على نصيب في المجلس التشريعي، وتعيينات الولاة قطع شوطاً كبيراً.

لكن يبقى الشارع ولجان المقاومة عاملاً لا يمكن تجاهله في معادلة المشهد السياسي في البلاد. وليس واضحاً كيف يمكن أن يتصرف، أو رد فعله على ما يجري، خاصة في غياب تأطير اللجان في بعد سياسي وفي غياب قيادة كارزمية واضحة، الأمر الذي يجعلها ميداناً للتسابق، سواء من قبل القوى السياسية التي ترغب في تعزيز مواقعها من خلال التأثير على لجان المقاومة، وحتى من قبل الحكومة التي تأمل في كسب الشارع الى جانبها. ومع أن الطريق واضحٌ وهو تحقيق إنجازات ملموسة، إلا أن تعقيدات الوضع سياسياً واقتصادياً تجعل من الصعوبة تحقيق إنجازات سريعة في هذا الجانب لأي من المتنافسين.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...