من غير المتوقع أن يخلص اجتماع الوزراء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) المقرر انعقاده في الرابع من الشهر المقبل إلى تغيير في استراتيجية الدفاع عن حصة المنظمة في السوق، والتحول إلى هدف الدفاع عن الأسعار، وذلك رغم الانخفاض الحاد في سعر برميل النفط خلال فترة العام الماضي، من القمة التي بلغها، وهي 115 دولارا للبرميل الى ما يقل عن 50 دولارا الآن، وتبعات هذا الانخفاض حتى على أكثر الدول حماسا للاستمرار في هذه السياسة، واستعدادا لتحمل تبعاتها المالية، وهي السعودية التي لجأت بداية إلى احتياطياتها المالية للاستمرار في الإنفاق الحكومي، ثم إلى السوق الداخلي مقترضة. كما تشير تقارير عديدة إلى انها في طريقها الى اللجوء الى السوق العالمية والحصول على قروض اضافية في مطلع العام المقبل.
لا يُتوقَع أن يتم تمرير القرار بسهولة باعتبار أن هناك مِن الأعضاء، مثل إيران وفنزويلا والجزائر، مَن لا يزالون يأملون بالعودة إلى سياسة الدفاع عن الأسعار، أو وضع نطاق سعري معين تسعى أوبك، عبر السيطرة على معدلات الإنتاج، إلى بلوغه. وكالة رويترز للأنباء أوردت أنها اطلعت على تقرير سري أعدته لجنة الاستراتيجية البعيدة الأمد للمنظمة، فيه توقعات بتعرض حصة المنظمة في السوق إلى ضغط متواصل، وفي أحد السيناريوهات أن حصة أوبك قد تتراجع إلى 28.7 مليون برميل يوميا في العام 2023، على الرغم من ضعف الأسعار.. الأمر الذي دفع بممثلي إيران والجزائر إلى اقتراح عودة المنظمة إلى تبني سياسة تحديد مستويات إنتاجية تستمر لفترة 12 شهراً وتسهم في تحسين معدلات الأسعار ورفعها. المنظمة ردت رسميا على التسريب الذي نشرته الوكالة بأن الوثيقة مسوّدة لم يتم اعتمادها بعد. وفي الوثيقة نفسها توقعات أن تزيد الأسعار بمعدل خمسة دولار سنويا للبرميل من سلة أوبك لتصل إلى 80 دولارا فقط في غضون خمس سنوات.
أس الخلاف
الخلاف بين الدول الخليجية بقيادة السعودية والآخرين، يتجاوز البعد السياسي إلى وضعية الصناعة النفطية وطريقة إدارتها والعائد المتوقع منها. فالدول الخليجية تتمتع باحتياطيات ضخمة وكثافة سكانية متواضعة، وبالتالي فمن مصلحتها الحفاظ على مستوى سعري متدنٍّ ليستمر العالم معتمداً على النفط لأطول فترة ممكنة، لذا فهي تفضل استراتيجية الحفاظ على حصة أكبر في السوق، ويمكنها تحمل ضعف الأسعار.
ويرى متابعو السوق أن تراجع الأسعار أدى أخيرا إلى تناقص في حجم الإنتاج الأميركي، وخاصة النفط الصخري الذي شكل نسبة 80 في المئة من حجم الزيادة في الإنتاج النفطي من خارج أوبك، بحسب الوكالة الدولية للطاقة، وأن تدفق الإمدادات من خارج أوبك سيتراجع بنحو نصف مليون برميل يومياً آخر العام المقبل. وكان الإنتاج النفطي الأميركي قد بلغ قمته في نيسان/ أبريل الماضي، عندما وصل إلى 9.6 ملايين برميل يوميا، ويعتقد أنّه سيبلغ العام المقبل 8.9 ملايين. ومع أن عدد الحفارات تراجع في السوق الأميركية ــ وهو أكبر مؤشر على نوع ومعدل النشاط الذي تشهده الصناعة ــ من 1609 حفارات في تشرين الأول / أكتوبر من العام الماضي الى 595 حاليا، إلّا أنّ تحسن التقنية المستخدمة في استخراج النفط الصخري، وخفض التكلفة، أسهما في تحمل التراجع في الأسعار بأكثر من النصف، خلال فترة الأربعة عشر شهراً المنصرمة.
ولهذا لا تزال السوق تعاني من فائض في الإمدادات في حدود مليوني برميل يوميا، قد تستغرق سنوات عدة للقضاء عليها، بعدها تتهيأ إلى تصاعد في الأسعار. على ان الرياض في ما يبدو لا تريد للقفزات السعرية المتوقعة أن تعود بها الى دائرة الخطر التي تسمح للمنتجين من ذوي الكلفة العالية المنافسة بصورة حادة كما حدث. فرئيس مجلس إدارة شركة "أرامكو السعودية" قال إنّ بلاده ليست مستعدة لتوفير بوليصة تأمين، والحفاظ على 100 دولار للبرميل من أجل المنتجين الآخرين. ولهذا، وعلى الرغم من حالة الضعف والتدهور التي تمر بها السوق، إلا أنّ السعودية ترسل إشارات متواصلة بأنها ليست في وارد تغيير سياساتها بالاستمرار في التبني العملي لاستراتيجية الدفاع عن حصتها وحصة المنظمة في السوق عن طريق ضخ المزيد من النفط والسعي ما أمكن إلى كسب زبائن جدد لنفطها. وبالفعل وصل حجم الإنتاج السعودي إلى مستوى قياسي وهو 10.6 ملايين برميل يوميا كمتوسط لهذا العام، مقابل 9.7 ملايين برميل في العام الماضي، ووصل بها الأمر إلى المنافسة مع خام "الأورال" الروسي، مثل الصفقة التي ابرمتها مع شركة "بريم" السويدية التي اشترت شحنة من الخام السعودي لأول مرة منذ عشرين عاما. وتكرر الشيء نفسه مع شركتين بولنديتين، علما أن الإنتاج الروسي وصل الى أعلى مستوى له الشهر الماضي، وهو 10.8 ملايين برميل يوميا. وهكذا يبدو أن التنافس السياسي الروسي - السعودي قد توسّع حتى وصل إلى الميدان النفطي.
كما أنه، وفي خضم الانهيارات السعرية التي تشهدها الصناعة النفطية، والتي أدت إلى تعليق العديد من الشركات النفطية لمشروعات جديدة للتوسعة في الإنتاج، وتقليص بعض تلك القائمة، والتباطؤ الملحوظ في إنتاج النفط الصخري، أعلنت الرياض أنّها بصدد الدخول في مشروعات جديدة لتعزيز قدرتها الإنتاجية، وذلك إيفاء لأحد أركان استراتيجيتها النفطية بتوفير أي إمدادات يحتاجها السوق، من خلال توفر مليوني برميل يوميا طاقة إضافية لدى السعودية لاستخدامها في أي وقت وبأي صورة.
تعليق المشروعات الجديدة
وتشير ورقة أعدها نائب وزير البترول السعودي (الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز) إلى أنه، ولأول مرة منذ ثمانينيات القرن الماضي، يتراجع حجم الإنفاق والاستثمار في الصناعة النفطية للعام الثاني على التوالي. ويقدّر، وفق دراسة لبيت الخبرة "وود ماكينزي" أن 46 من مشروعات النفط والغاز، تقدر كلفتها بنحو 200 مليار دولار، تم تأجيلها أو إلغاؤها خلال هذا العام، مما يعني سحب خمسة ملايين برميل كان يمكن أن تضاف إلى حجم الإمدادات المتاحة، وأن الرقم مرشح للتراجع بنسبة إضافية تتراوح بين 3 إلى 8 في المئة العام المقبل، كما أشارت الورقة، وهو ما يعني شيئا واحداً في الرؤية السعودية، هو أن السوق النفطية ستتهيأ مستقبلا إلى قفزات سعرية بسبب تصاعد الطلب وعدم توفر ما يقابله من إمدادات. وفي الورقة أن الطبقة الوسطى على نطاق العالم مرشحة للزيادة بصورة ملحوظة، لترتفع من 1.8 مليار نسمة الآن إلى 2.3 مليار في غضون خمس سنوات، ثم إلى قرابة خمسة مليارات نسمة في العام 2030، وأن معظم هذه الزيادة ستتمركز في السوق الآسيوية. ومعروف أن الطبقة الوسطى أكثر استهلاكا للطاقة من غيرها.
على أنّ الاستمرار في هذه السياسة له تبعاته الداخلية سياسياً واجتماعياً. فبسبب التراجع في سعر البرميل ومن ثَمَّ في العائدات، اضطرت السعودية للجوء إلى احتياطياتها الضخمة من العملات الأجنبية، مما أدى إلى تراجعها من 737 مليار دولار العام الماضي الى 647 مليارا قبل شهرين. كما أنها لجأت إلى السوق الداخلية مقترِضة من النظام المصرفي، ولو أن بعض بيوت الخبرة مثل "ستاندارد أند بورز" تعتقد أن السوق المحلية يمكنها توفير 100 مليار دولار، لكن الحكومة ستفكر في اللجوء إلى خيارات أخرى وترك نسبة من السيولة المتاحة للقطاع الخاص، علماً أنّه يمكنها زيادة معدل دينها إلى 50 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي. و "ستاندارد أند بورز" هي أول وكالة تصنيف تعيد النظر في ملاءة السعودية الاقتصادية، ما اعتبره المسؤولون السعوديون خطوة متعجلة، واستشهدوا بتقرير وكالة أخرى ("موديز") لا تزال ترى أن أساسيات الاقتصاد السعودي تجعله قوياً، خاصة في غياب ديون تُذكر.