الفضيحة!

كبريات المجلات العالمية، العلمية المحكمة، يمكن أن تنشر دراسات وأرقاماً كلها مزورة! ويقع ذلك لمصلحة شركات إنتاج أدوية كبرى. ومنظمة الصحة العالمية، وحكومات لا حصر لها يتبنون تلك الاستنتاجات بخفة واستعجال - ليسا بريئين بالتأكيد - فيعلّقون أبحاثاً علمية جارية، ويمنعون تجارب طبية وعلاجات قد تنقذ مرضى من الموت.
2020-06-05

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
أحمد السوداني - العراق

تظنون أن جائحة كورونا، التي لم تعد تحتاج إلى وصف، قد أيقظت ولو قليلاً، إن لم يكن الضمائر، فعلى الأقل الوعي، ولو "النفعي" بالكارثة التي تتهدد البشرية ووجودها على الأرض، لو استمرت أمور الحياة على ما هي عليه: الكوارث البيئية التي يصنعها الإنسان -أولئك المتحكمون - في تعامله مع الطبيعة، وفي اضطهاده وإخضاعه للكتلة الأعظم من البشر "الآخرين"، شعوباً وجماعات، وفق قانون الاستغلال المنفلت من كل اعتبار سوى أعلى الأرباح، التي حُولت إلى قيمة عليا يعبدها الجميع ويؤمنون بها؟

سذاجة!

بدون الإنسان وتنظيمه الاجتماعي والاقتصادي ذاك، ستكون الكرة الأرضية وكل الحيوات التي تعيش عليها، على أفضل ما يرام. كفى أن الإنسان انسحب لأشهر قليلة من نشاطاته المدمرة تلك حتى عادت تلك الحيوات إلى الازدهار. وقد رأينا الدلافين ترقص قرب الشواطئ أينما كان، وحيوانات الغابات - ما تبقى منها - كبيرها وصغيرها، تجوب شوارع المدن والقرى المقفرة من ذاك القاتل وكل توابعه، ولمسنا كيف صار الهواء أنقى.

هذه هي الفضيحة الكبرى والعامة، التي لم يتمكن من البرهان عليها - أو الإقناع بها - لا الفلاسفة ولا الشعراء ولا الثائرون، فتولى"كورونا" المهمة.

مقالات ذات صلة

لكننا بصدد فضيحة أخرى مجلجلة، وإن منحدرة من تلك العامة الكبرى: تثبت أن كبريات المجلات العالمية، العلمية المحكمة، يمكن أن تنشر دراسات وأرقاماً كلها مزورة. وأن ذلك يقع لمصلحة شركات إنتاج أدوية كبرى. وأن منظمة الصحة العالمية، وحكومات لا حصر لها يتبنون تلك الاستنتاجات بخفة واستعجال - ليسا بريئين بالتأكيد - فيعلّقون أبحاثاً علمية جارية، ويمنعون تجارب طبية وعلاجات قد تنقذ مرضى من الموت.

الشرح:

مجلتا The Lancet وThe New England Journal of Medicine، الموقرتان والمعتبرتان كمراجع علمية يُعتد بها، نشرتا في 22 أيار/ مايو الماضي دراسة ادّعت أنها تستند إلى معطيات علمية جرى جمعها من 1200 مستشفى حول العالم، تثبت أن دواء "الهيدروكسيكلوروكين" القديم، والذي يستخدم منذ زمن في علاج الملاريا، والذي يكلف قروشاً قليلة، يمثل خطراً مضاعفاً على المصابين بالكورونا، ويتسبب بنسبة وفيات مرتفعة بين من هم في الإنعاش. توقفت برامج بحثية عالمية تنسيقية بناءً على قرار منظمة الصحة العالمية بمنع استخدامه، والذي صدر في اليوم التالي لذاك النشر، وتبعته الحكومة الفرنسية بقرار مماثل، حيث أنه يوجد في مرسيليا جنوب فرنسا أهم مركز طبي بدأ باستخدام العقار منذ أشهر، ويعتد بنتائج مرضية.

اعترض البرفسور المشرف على ذاك المركز الطبي، وأوضح كيف أن تلك الدراسة المنشورة في المجلتين ليست علمية، بل هي "هراء". وتبعه عدد من الأطباء المرموقين. فاعتُبروا مجانين أو يكادوا، وجرت سخرية كبيرة من البرفسور الفرنسي الذي يظهر دوماً مرتدياً قلادات وخواتم في أصابعه، ومسدلاً شعره الطويل على كتفيه، وهو مظهر بعيد عن الوقار! والعقار المستخدم قد لا يكون هو الشافي بالمطلق، أو الحل للجائحة، والبروفسور قد يكون هو الآخر غير جدي. ولكن الموضوع ليس هنا.

قامت صحيفة "الغارديان" بتحقيقاتها حول تلك الدراسة، لتكتشف - وتكشف - أن وراءها شركة أمريكية مغمورة منشأة في 2008، Surgisphere ، يديرها Sapan Desai، وهو طبيب جراح لوحق في السابق بعدة قضايا جنائية، وبُرّئ منها. والشركة تصف نفسها بأنها مختصة بالأبحاث العلمية، فتدّعي ما هي ليست عليه، إذ تكاد تكون بلا باحثين، بل وحتى بلا موظفين، وليس لديها موقع للنشر الإلكتروني، ولا متابعين، وهي ببساطة اخترعت إحصاءات لا وجود لها. وقد أزال مؤخراً Desai صفحته عن ويكيبيديا حيث ينسب إلى نفسه، إضافة لشهادات الطب، دكتوراه في القانون..

اتصلت "الغارديان" خلال تحقيقها ذاك بخمسة مستشفيات كبرى في استراليا تتابع علاج المصابين بالكورونا، وترد أسماؤها في الدراسة المنشورة في "لانست" و"نيواينغلاند جورنال"، فنفت أن تكون قد أعطت أي معلومات أو إحصاءات لشركة "سرجيسفير" المذكورة أو للمنشورات العلمية! وبالمناسبة، فمثل هذه المعلومات الطبية والإحصاءات تخضع للسرية والتحفظ وليست مرشحة للنشر، وهو ما كان لفت إليه الأطباء المعترضون على الدراسة "الهراء".

وأما الطبيب، المؤسس والمدير لشركة "سرجيسفير"، فقد يُحاكم هذه المرة ويدان ويقبع في السجن. ولكن ماذا عن المجلتين - المرجعان اللذان سحبا في الرابع من حزيران/ يونيو الدراسة المنشورة، قائلتان أنهما ستحققان في هذا "الاختراق"، علماً أن الباحث الأساسي الذي وقع الدراسة ينتمي إلى جامعة هارفارد الطبية (Harvard MedicalSchool).

والأهم: فماذا عن منظمة الصحة العالمية، وعن الحكومات الكبرى التي بدا أن تلك الدراسة قد جاءتهم ك"خبز مبارك"، كي يطلقوا العنان لشركات الأدوية الكبرى، لتنتج عقاقير مكلفة وعلاجات معقدة، بدلاً من ذلك الدواء الرخيص والمتوفر؟

وكيف يمكن بعد ذلك الوثوق بأن أمراضاً قاتلة كمختلف السرطانات، ليست قابلة للعلاج، أو أنها فعلاً مكلفة بالشكل المهول القائم. كيف لا ننزلق إلى التفسيرات "التآمرية" التي تقول أنها، ومعها جائحات أخرى، كالسكري وأمراض الكولسترول، كان يمكن علاجها بشكل أبسط، ولكن لا "مصلحة" في ذلك لشركات الدواء، وللمستشفيات ولعالم كامل من الربح الوفير، وهو عالم متواطئ فيما بينه. فيما ينشغل قادة الدول وسياسيّوها باقتطاع أرباحهم منه، التي تصلهم بأشكال مختلفة، كما باقتطاع أرباحهم من صناعات السلاح، وبالتقاتل على من يبيع أكثر، فيشعل حروباً ونزاعات ويغذيها لتبقى صناعته مزدهرة. ها قد صرنا في باب آخر، لكنه ليس مختلفاً حقاً.

وأما الختام فيخص جريدة الغارديان: تلك صحافة حقاً جادة ونزيهة، وحقاً استقصائية، وتسجل فارقاً في هذا العالم المتوحش. برافو!

مقالات من العالم

جوليان أسانج حرّ

2024-06-27

فعل أسانج المحظور الأكبر في هذا العالم. كشف اللثام عن أكبر أكاذيب العالم وأكثر أساليب الدول وحشية، وفضح تلك البرودة الفظيعة التي يتمتع بها الجميع خلف الكواليس، وتلك السهولة الرهيبة...

عودة إلى فانون: عن فلسطين وسيكولوجيا الاضطهاد والتحرّر

لا يمكننا التكلم عن فانون دون التطرق لتحليله للعنف وسايكولوجيا الاضطهاد، خصوصاً خلال الحقبة الحالية التي يطبعها الدمار والموت. ماذا كان فانون ليقول عن الإبادة الاستعمارية و"سيل القتل" اللذين يحدثان...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...