يشكل كل من العراق والجزائر نموذجا كلاسيكيا لما يصفه علماء الاقتصاد السياسي ب«المرض الهولندي»، أو لعنة الموارد التي فاقمها سوء الأداء السياسي. وهذا يعبر عن نفسه بعدم استقرار أمني واستخدام للموارد الهيدروكاربونية من نفط وغاز لتعزيز قبضة الحكم القائم أكثر مما هو لتطوير المجتمع وفتح قنوات التقدم أمامه. الاعتماد الكامل على عائدات النفط والغاز، يؤدي إلى عدم الالتفات لتنويع القاعدة الاقتصادية للبلدين رغم توفر إمكانات هائلة لديهما، صناعية وزراعية. وتمثل العائدات النفطية نحو 96 في المائة من الإيرادات الحكومية في البلدين. وبغداد، وبسبب تزايد التزاماتها المالية، أصبحت مرتهنة تماما لتلك الايرادات، فبينما كانت تحتاج أن يكون متوسط سعر البرميل 95 دولارا لضبط موازنتها قبل عامين، ارتفع ذلك المتوسط 11 دولارا ليصل الى 106.1 دولارا للبرميل العام الماضي. ولهذا، فالموازنة مهددة بالشلل حال حدوث أي انخفاض كبير في أسعار النفط، خاصة وأن البنود التشغيلية تلتهم أكثر من 80 في المئة من حجم الإنفاق فيها.
ولأسباب تتعلق بالأولويات السياسية لا الاقتصادية العملية، وبالتخبط، فقد شهدت السنوات الماضية أرتفاعا ملحوظا في عدد الوظائف العامة ليصل عدد العاملين في أجهزة الدولة في العراق الى 4 ملايين شخص، يمثلون أكثر من 11 في المئة من عدد السكان، وهي النسبة الأعلى عالميا. وهو ما يسمى في الاقتصاد السياسي ايضا إنشاء شبكة زبائنية موسعة، تدين للسلطة بمعيشتها وترتهن لها، ما يمكن لدول ذات عوائد ريعية عالية أن تقوم به بواسطة توزيع الفتات من تلك العوائد. ويرتبط ذلك أيضا بدعم وجود قنوات كبيرة لتنظيم الفساد، بحكم منطق هذا النوع من الاقتصاد. وبسبب هذا الانفاق، فقد تراجعت احتياطيات صندوق تنمية العراق الذي تستخدمه الحكومة لمشروعات الاستثمارات العامة الى 6.5 مليار دولار في نهاية 2013، من 18.5 مليار دولار في 2012. وهو ما أدى الى بروز مخاوف من أن تستخدم الحكومة في نهاية المطاف احتياطيات النقد الأجنبي بالبنك المركزي البالغة 77 مليار دولار لتمويل الإنفاق العام، مما قد يضعف العملة ويزيد التضخم.
التركيز على النفط
العراق والجزائر يتمتعان بموارد طبيعية هائلة، وبوجود سكاني مستقر وكثيف ومنصهر الى حد، بما يجعل كلا البلدان متوفر على «مجتمع» وفق التعريفات. والعراق هو أقدم حضارة زراعية عرفتها البشرية... واستمرت فاعلة وناشطة حتى سبعينات القرن الماضي، بينما كان الاستعمار الفرنسي يسمي الجزائر «أهراء أوروبا»، قرونا بعد تسمية مشابهة اطلقها الرومان في زمانهم على البلاد. إلا أنهما في العقود الاخيرة، وبشكل متعاظم، ركزا فقط على ثروتهما النفطية. فالجزائر تعتبر أكبر قطر في أفريقيا من ناحية المساحة والعاشر على مستوى العالم، كما انها باحتياطياتها النفطية البالغة 12.2 مليار برميل تعتبر الثالثة في القارة والثانية فيما يتعلق باحتياطيات الغاز. وساعدتها المعدلات المرتفعة لعائدات النفط والغاز خلال الأعوام الماضة على بناء احتياطيات من العملات الصعبة تبلغ 200 مليار دولار تكفي لتمويل واردات البلاد لفترة ثلاثة أعوام.
ولهذا يلعب قطاع النفط والغاز دورا محوريا في البلاد، كونه يشكل ثلث الناتج المحلي الإجمالي وثلثي عائدات البلاد ونحو 98 في المائة من إيراداتها من العملات الصعبة. وجعل هذا الوضع الاقتصاد الجزائري أكثر انغلاقا وأقل قدرة على التنويع، خاصة وأن القطاع الزراعي لا يسهم بأكثر من 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والصناعات التحويلية لا تتجاوز نسبتها 5 في المئة، رغم الانفاق الضخم في عقدي السبعينات ومطلع الثمانينات على ما عرف وقتها ب«الفيلة البيضاء»، وهي مشروعات ضخمة استنزفت مليارات الدولارات، لكنها لم تكن مترابطة بما يسهم في تحقيق التحول النوعي في الاداء الاقتصادي بتوفير السلع والخدمات للسكان الذي وصل عددهم الى 37 مليون نسمة، وهم يستوردون سلعا بحوالي 45 مليار دولار، 20 في المئة منها للغذاء، تغطي 45 في المئة من احتياجاتهم الغذائية.
ولهذا فليس غريبا الاّ يشعر الجزائريون بتحسن في أوضاعهم المعيشية مع تدن في الخدمات وتراوح نسبة العاطلين عن العمل في حدود 20 في المئة بالنسبة للشباب بين 15- 24 عاما وفق الأرقام الرسمية. بل ويشتكي من يحصلون على وظائف من انها ليست مستقرة وذات أجر متدن ولا تصحبها أي تغطية لخدمات العلاج والتعليم. فسوء الادارة ومركزيتها، الى جانب الفساد، هي من العوامل الرئيسية لعدم الاستفادة من دخل البلاد العالي، ولسيادة منطق آني تماما، قائم على الاستهلاك الفج لتلك العوائد وليس على اعادة توظيفها بنيوياً لتطوير قدرات زراعية وصناعية يمكنها تحقيق الاكتفاء الذاتي في البلاد (على الاقل)، بل وتطوير موقعها على الخريطة الاقتصادية العالمية. وقد وصل الأمر بأحد المسئولين الى الاعلان ان اقتصاد السوق الأسود يسهم في تحريك نصف النشاط التجاري في البلاد. ووفقا لتقرير منظمة الشفافية العالمية للعام 2012، فأن الجزائر تحتل المرتبة رقم 105 بين 176 دولة والمرتبة الثانية عشر بين 17 في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الفساد. ويضع تقرير التنافسية الدولية النظام القضائي الجزائري في المرتبة 123 بين 144 دولة قام التقرير بمسحها وذلك بسبب تعرضه لتدخلات من قبل الأجهزة السياسية والتنفيذية، وهي تتقدم فقط على لبنان من بين دول المنطقة.
من يخدم من؟
إحدى إشكالات الدولة الريعية انها هي التي «تنفق» على المواطنين، وبالتالي فلا تشعر سلطاتها بأنها معنية بالانصياع إلى مطالبهم ما دامت لا تعتمد في ايراداتها على ما يدفعونه لها من ضرائب مباشرة أو غير مباشرة، وفق التعريف الكلاسيكي للدولة. كما انه في ظروف الدخل العالي، تكون تلك السلطات قادرة على التغطية على أخطائها من خلال الإنفاق، ولا ترى ضرورة للقيام بإصلاحات سياسية أو اقتصادية لمواجهة المشاكل التي تعتمل في البلاد.
وفي العراق، فالفوضى السياسية والتجاذب الطائفي دمرا أية فرصة لبناء دولة مستدامة على المديين القريب والمتوسط. وتتسبب الفوضى والطائفية بانسداد الأفق أمام نشاط اقتصادي فعلي ومستقر للقطاع الخاص الذي يعاني، علاوة على هذه وتلك، من تدخلات المتنفذين الحكوميين والأمنيين، ومن الاعتباط. ووفقا لتقديرات البنك الدولي، فأن العراق يعتبر من أصعب البلدان أمام حركة القطاع الخاص، ويحتل المرتبة 176 على مقياسه لسهولة أداء الأعمال، اذ تنتصب العديد من العقبات أمام إقامة أي نشاط اقتصادي خاص ولا يمكن الاشتراك في تعامل دولي أو الحصول على تسهيلات مصرفية الا بشق الأنفس.
وتبدو الحكومة بميزانيتها الباذخة عاجزة عن تحريك الاقتصاد الراكد، وتعتمد بالتالي على حلول ترقيعية، تزيد تعميق الهوة التي سقط فيها الاقتصاد العراقي. وكمثال، فإن الحكومة العراقية قامت في أعوام 2008 و2011، وفي العام الماضي، أبان ارتفاع أسعار النفط، بإيجاد وظائف وزيادة رواتب الموظفين والمعاشيين، بينما في فترة عامي 2009 و 2010 ، عندما تراجع سعر البرميل وعائداته، قامت بتجميد العمل في بعض مشروعات التنمية وتقليص برامج الانفاق العام.
ويعتبر العراق أكبر دولة ريعية في المنطقة. النفط يشكِّل ثلثي الناتج المحلي الإجمالي كما يوفر للحكومة 96 في المئة من ايراداتها. أحد المظاهر السلبية لهذا الاعتماد تقوية العملة الوطنية، حيث شهد الدينار العراقي تصاعدا في قيمته بنسبة 20 في المئة خلال السنوات القليلة الماضية، وهو ما يشجع على الاستيراد. وبسبب هذا الوضع، وبسبب السياسات المتضاربة وعلو النفَس الطائفي، بما لا يسمح بنهج وطني في التعاطي الاقتصادي، وتحديدا منه الزراعي بما يتعلق باستغلال واستصلاح الأراضي للمنفعة العامة، أصبحت بلاد ما بين النهرين مستورِدا لنحو 80 في المئة من احتياجاتها الغذائية، كما ان 60 في المئة من السكان يعتمدون على الغذاء المدعوم من قبل السلطة. وهناك توقعات أن تشهد الفترة المقبلة جفافا يعيد تجربة دورة الجفاف التي انتهت قبل ثلاث سنوات، الأمر الذي يمكن أن يعرّض التربة الغنية التي كان يحظى بها العراق الى المزيد من التصحر والتجريف الزاحفان بقوة مرعبة على البلاد.
سيناريوهات!
قبل عامين، وضعت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية ثلاثة سيناريوهات لما يمكن أن يكون عليه سعر برميل النفط بالنسبة للعراق في العام 2025، حيث سيبلغ عدد السكان وقتها 47 مليون نسمة. يعتمد السيناريو الأول على سعر أعلى في حدود 180 دولارا للبرميل، والثاني على متوسط هو 120 دولارا للبرميل، وأما الأخير فهو سيناريو السعر المنخفض أي 50 دولارا. وبالطبع، فينقص الصورة معرفة حجم الإنتاج العراقي وكمية الصادرات، وإذا كان في الإمكان تحقيق هدف تصدير 10 ملايين برميل يوميا وقتها! وبغض النظر عما يمكن أن تؤول اليه هذه السيناريوهات، فمن الواضح ان العراق يظل وفقها دولة ريعية، وزيادة أو تراجع حجم صادراته النفطية لا يغير كثير في تلك الحقيقة، اللهم الا اذا تمت عملية تغيير جذرية في مناهج وأساليب وممارسات السلطة الحاكمة.
وبالطبع فثمة فوارق هامة بين البلدين، على الرغم من اشتراكهما في مفارقة الاعتماد على الريع. فالعراق تعرض لاحتلال وسحق للدولة الحديثة، وطفت على سطحه سلطات قوى «ما قبل الدولة»، ما يجعل من الصعب القول بان هنالك اليوم نظام مستقر وخطة اقتصادية تعتمد عناصر ثابتة. فمقارنة بالفترة السابقة على الاحتلال، وخلال الثمانينات مثلا، ورغم الحرب العراقية الإيرانية، كانت 50 في المئة من حاجات الأسرة العراقية تغطى من الإنتاج المحلي.
العراق والجزائر ليسا النماذج الوحيدة للدول الريعية، وإنما هو أسلوب للاقتصاد السياسي منتشر حول العالم. والدولة الوحيدة التي يشار إليها بالبنان لنجاحها في الإفلات من شراك لعنة النفط هي النرويج، وذلك لأتباعها سياسة تقوم على توظيف عائداتها المالية في موارد متجددة، مثل التعليم والخدمات والاستثمار في القطاعات الإنتاجية الأخرى. وللمفارقة فأن أحد أعمدة هذه السياسة هو فاروق القاسم، العراقي الأصل، الذي هاجر الى النرويج في ستينات القرن الماضي، وكان على ثقة ان لتلك البلاد مستقبلا كدولة مصدرة للنفط، على عكس القناعة التي كانت سائدة وقتها. ونظريته أثبتت جدواها عند اكتشاف حقل «أيكوفيسك» الشهير في أواخر العام 1969، وتم أختياره فيما بعد ليكون ضمن مجموعة التخطيط لكيفية استغلال العائدات وعدم الوقوع في الفخ.