ثلاثية سيدات الشاي والنظام العام وتقدم النساء في مجال الخدمة العامة، تشكل الملامح الرئيسة للمشهد النسائي في العاصمة السودانية الخرطوم، بملايينها الستة، الأمر الذي يعكس حال الصراع المستمر لتحسين وضع النساء في البلاد، وتحركه صعوداً وهبوطاً في إطار المجرى العام للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فالسيدات اللواتي يقمن بإعداد وبيع الشاي والقهوة في المكاتب ومواقع العمل المختلفة، وعلى امتداد كورنيش النيل، بل وفي الشوارع المتربة، أصبحن ظاهرة لفتت أحد محرري صحيفة "لوس أنجلس تايمز" الأمريكية التي نشرت موضوعاً عنها. كما أصبحت جلسات الشاي بمقاعدها الصغيرة المتناثرة منبراً لتبادل الأخبار والشائعات. وتقول الطرفة المتداولة إن الرئيس الأميركي باراك أوباما قرر القدوم الى الخرطوم متخفياً ليعرف الأوضاع على الطبيعة، ونصحه بعضهم بأن أفضل نقطة يبدأ منها مهمته هي عند "ستات الشاي". وبالفعل جلس أوباما إلى إحداهن وسألها عن تفاعلات خطاب الرئيس عمر البشير الأخير الذي دعا فيه الى حوار وطني شامل حول مشاكل البلاد، فردت عليه سيدة الشاي بطريقتها الشعبية قائلة: "خطاب شنو؟ انت ما سمعت انو أوباما وصل الخرطوم متخفياً".
أما محاكم "النظام العام"، فهي التي قامت الحكومة بتأسيسها لإحداث انضباط في الشارع، ولم تخل من استخدام لعامل الدين وتفسيره وتطبيقه، بما يسهم في تأكيد السلطة الحكومية تجاه خصومها. سلطات النظام العام التي لها شرطتها ومحاكمها والعاملون فيها من ذوي التأهيل الضعيف استُخدمت بصورة رئيسة أداة قمع ضد الخصوم السياسيين، كما أن هذا القمع وقع على النساء إلى حد كبير خاصة عند تفسير بعض مواد قانون النظام العام الفضفاضة مثل اللبس غير المحتشم وتبني تعاريف مبتسرة ومتعسفة، مثلما حدث مع قصة البنطلون الشهيرة، عندما اتهمت إحدى الصحافيات التي كانت تلبس بنطالاً بأنها غير محتشمة في لبسها، وهي تهمة عقوبتها الجلد. وتتعرض النساء لكثيرٍ من التعديات بسبب قانون "النظام العام" ابتداءً من مصادرة أدوات عمل الشاي لعدم دفع مستحقات البلدية من رسوم، أو مواجهة تهم اللبس غير الملائم، أو تصنيع الخمور البلدية، والتعرض للسجن أو الغرامة أو حتى لبعض التحرشات الجنسية.
تطوّر مستمرّ
لكن من الجانب الآخر، فإن مسيرة المرأة في السودان وتطورها نحو الأفضل في مختلف المجالات ظل مستمراً وبدفع من بعض قوى المجتمع الحية. فالدفع باتجاه تعليم المرأة له تاريخ يتجاوز القرن من الزمان، ويعود الى العام 1907 عندما قرر رائد تعليم البنات في السودان الشيخ بابكر بدري البدء بتعليم بنات أسرته، وهي الخطوة التي نمت وتوسعت وتُوجت بقيام جامعة الأحفاد للبنات في السودان التي تعتبر حالياً من أفضل الجامعات في البلاد، وهي مؤسسة تعليمية خاصة وتحظى بعلاقات دولية متميزة كما تضم بين جنباتها قرابة خمسة آلاف طالبة يدرسن في مختلف المجالات.
هذه البداية المبكرة في التعليم أثمرت فيما بعد، ومع التطور السياسي في السودان، في تحقيق النساء لعدد من الإنجازات في مختلف المجالات، على رأسها حصول المرأة على حق الانتخاب لأول مرة في العام 1953، أي قبل استقلال السودان، بداية بالمتعلمات في ما كان يعرف وقتها بدوائر الخريجين. وتوِّج هذا الحق بانتخاب السيدة فاطمة أحمد إبراهيم نائبة برلمانية في العام 1965، في أول انتخابات بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 الشعبية التي قضت على أول حكم عسكري في السودان، كما كرست حق النساء في الانتخاب والترشُّح. وفي العام 1970، تم تعيين أول قاضية شرعية في البلاد، وربما تكون تلك الخطوة الأولى من نوعها في العالم الإسلامي. بل وشهد العام 2003 بروز زينب محمد محمود أول سفيرة سودانية، وهي التي بدأت العمل في السلك الديبلوماسي من أول السلم حتى قدمت أوراق اعتمادها سفيرة للخرطوم في العاصمة السويدية استوكهولم. ويوجد حالياً نحو عشر سفيرات في الخدمة، ثلاث منهن يقدن العمل في سفارات السودان في إيطاليا وإسبانيا والنرويج. وشهدت انتخابات العام 2010 تطبيق مبدأ تخصيص 25 في المئة من مقاعد البرلمان للنساء على المستويين الاتحادي والولائي، وهو ما عبّر عن نفسه أيضاً في وجود النساء في التشكيلات الحكومية خاصة. ووجود سيدة في الوزارات السودانية يعود الى العام 1975 من خلال الدكتورة فاطمة عبد المحمود وزيرة للشؤون الاجتماعية، التي كانت من بين المرشحين الذين نافسوا عمر البشير على الرئاسة في انتخابات 2010.
استقلال اقتصادي
في انعكاس واضح لتبعات عمليات النزوح الداخلي بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية في مختلف بقاع السودان، تحفل كثيرٌ من الصحف السودانية بإعلانات عديدة من المحاكم عن قضايا من سيدات طلبن الطلاق من الزوج إما بسبب الغياب أو الإعسار. وهو ما يعتبره العديد من خبراء الاجتماع انعكاساً لحال الانتقال التي يمر بها المجتمع السوداني من الريف إلى المدينة وما يصاحبه من ضعف وتغيّر واضمحلال لدور مؤسسات الأسرة والقبيلة التي كانت توفر حماية ورعاية لأفرادها بمختلف الصور. كما أسهمت النزاعات السياسية وما صحبها من اضطراب أمني في ولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، حيث ينشط متمردون على السلطة الحكومية، إلى كثيرٍ من عمليات النزوح إلى مناطق أخرى وخاصة العاصمة الخرطوم، التي تضخمت سكانياً وتمددت جغرافياً بصفتها نقطة جذب يمكن أن توفر فرصة للكثيرين والكثيرات لكسب عيشهم والاعتماد على أنفسهم.
ووجدت العديد من هؤلاء النسوة في ميدان صنع الشاي والقهوة وبعض البهارات والكسرة - وهي خبز سوداني من الذرة - وسيلة يمكن أن تؤمن عيشاً لهن ولأسرهن، خاصة وكثيرٌ منهن يعلن أطفالاً بسبب الطلاق أو غياب الزوج لأي سبب. وباستثمار بسيط لشراء أدوات الإنتاج، من موقد للنار والكفتيرة (وهي الإناء الذي يعد فيه الشاي) والكؤوس لصب الشاي والقهوة ومقاعد صغيرة تُطلق عليها لفظة "بنبر" لجلوس الزبائن، فإن ست الشاي يمكنها الحصول على دخل يتراوح من سبعة الى عشرة دولارات في اليوم، وهو ما يوفر لها بعض أساسيات أسرتها، بما في ذلك السكن، على الرغم من أنه يكون في الغالب في مناطق عشوائية وبعيدة، تستهلك منها عدة ساعات في اليوم ذهاباً وإياباً. ويُعتقد أن في ولاية الخرطوم نحو 13 ألفاً من السيدات العاملات في بيع الشاي، وأن أكثر من 1500 من بينهن أجنبيات من دول الجوار، خاصة أثيوبيا.
يقدر عدد سكان السودان في الوقت الحالي بحوالي 35 مليون نسمة، مع تزايد واضح في نسبة التحضر والاندماج في الحياة المدينية. وبسبب تقلبات الوضع السياسي والاقتصادي، فإن النساء يشكلن تقريباً حوالي ثلث القوى النشطة اقتصادياً حتى في الريف، كما أن نسبتهن في جهاز الدولة تجاوزت النصف بسبب اغتراب أعداد كبيرة من الرجال بحثاً عن فرص عمل أفضل في الخارج. ومع أن مسيرة السودان الاجتماعية اتجهت بصورة عامة إلى أعلى كما يتضح من الإنجازات التي حققها الحضور النسوي في مختلف المجالات العامة، إلا أن ذلك التقدم لم يترجم تحسيناً في وضع المرأة وحياتها اليومية، ولو أنه أسهم في تعزيز الوعي لديها، وهو ما تعبر عنه موجة السعي للاستقلال الاقتصادي عن طريق العمل، سواء في مهنة بيع الشاي أو في غيرها من المهن، وممارسة قدر من الحرية فيما يتعلق بحياة المرأة وأسرتها بعيداً عن هيمنة الرجل.