بعدما يقرب من عام على اشتعال الحرب الأهلية في جنوب السودان (أحدث دولة على ظهر البسيطة)، والسعي إلى وقفها عبر وساطات إقليمية ودولية، أنتجت اتفاقيتين لوقف إطلاق، وثالثة لتشكيل حكومة انتقالية، ورابعة لتوحيد الحركة الشعبية التي أدى صراع قياداتها على السلطة إلى اللجوء إلى العنف.. بل وبعد زيارة لأعضاء من مجلس الأمن وإصدار قرارات بالدعوة إلى وقف القتال مع التهديد بفرض عقوبات، يبدو الوضع بعيدا عن تحقيق هدف إطفاء جذوة الصراع والانتقال الى التعامل السلمي عبر المفاوضات لحسم القضايا العالقة. التجول بين العواصم المختلفة، من أديس أبابا إلى نيروبي إلى كمبالا إلى الخرطوم وأروشا، يخدم على ما يبدو هدفاً واحداً هو كسب الوقت، واستغلال موسم الأمطار بأمل أن تضعف هذه وتيرة النشاط العسكري، وذلك تمهيدا لاستئناف.. القتال وحسم الأمور ميدانيا! وفي تجدد القتال في «ولاية الوحدة» مؤخرا، حيث يوجد بعض الإنتاج النفطي، مؤشر على ذلك.
ثلاثة أسباب رئيسية يمكن أن تعتبر أساسا للفشل المحلي والإقليمي والدولي في التعامل مع المشكلة. ويأتي في مقدمتها الانقسامات والتشققات القبلية العميقة في مجتمع جنوب السودان، وهي التي انتقلت إلى «الحركة الشعبية»، القيادة السياسية والعسكرية التي أنجزت الاستقلال وتركزت فيها السلطة. ومن ثمَّ، أصبح الصراع على قيادتها أحد مظاهر الصراع في البلاد، لأن من يسيطر على قيادة الحركة يسيطر على الجيش وجهاز الدولة، كما أن رئيس الحركة يصبح تلقائيا قائدا للجيش ورئيسا للبلاد. وأخيرا فإن كل التحركات الدبلوماسية والاتفاقيات اقتصرت على القيادات المعروفة، من رئيس الدولة والحركة سيلفا كير ونائبه السابق الدكتور رياك مشار، لكنها لم تصل إلى القادة الميدانيين، وهم الذين بيدهم جعل أي اتفاق لوقف أطلاق النار مثلا يصمد أو ينهار، وهو ما يدفع بأسئلة جدية حول مدى سيطرة القيادات على الأوضاع وقدرتها على تنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه ميدانيا.
الصراع متطاول في السودان قبل الانفصال، وقد اتخذ شكل حربين أهليتين، استمرت الأولى 17 عاما وانتهت في 1972، أبان حكم الرئيس الأسبق جعفر النميري بحصول الجنوب على حكم ذاتي، واستمرت الثانية قرابة عشرين عاما وانتهت بفصل الجنوب في 2011. وقد غطى ذلك الصراع على الخلافات والصراعات الداخلية الجنوبية / الجنوبية. كان التركيز على ما يفرق في السودان الكبير، وعلى أن الشمال عربي ومسلم، والجنوب أفريقي ومسيحي أو يتبع ديانات محلية تقليدية. وهذا ما دفع بعض مجموعات اللوبي والناشطين في الولايات المتحدة للعمل من أجل انفصال الجنوب منذ ثمانينات القرن الماضي، على الرغم من أن الحركة الشعبية كانت ترفع وقتها شعار الوحدة في إطار السودان الجديد. ومن أبرز هذه الشخصيات جون برندرقاست وروجر ونتر والأستاذ الجامعي أريك ريفز، وهي المجموعة التي نجحت في ضم سوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي الحالية إليها منذ فترة طويلة حينما كانت ما تزال موظفة صغيرة في فترة رئاسة بيل كلينتون الأولى، وبعض النجوم مثل جورج كلوني.. كما استفادت هذه المجموعة من تواجدها في الإدارات المختلفة وصلاتها الرسمية للدفع بأجندة الانفصال.
«سودان واحد يكفي»
استغلت الحركة، ومعها هذه المجموعة، وضع التوتر القائم في علاقات شمال السودان وجنوبه للتركيز على صراعها مع الخرطوم، وتجنب مواجهة القنابل الموقوتة الموجودة في جنوب السودان والتي عبرت عن نفسها في العام 1991 بالانشقاق الشهير الذي قاده رياك مشار نفسه ضد القائد التاريخي للحركة، الدكتور جون قرنق، واستمر لأكثر من عقد من الزمن. ذلك الانشقاق لم يكن خلافا سياسيا فقط أو جدلا أكاديميا بين أثنين من حملة الدكتوراه، وإنما أنحدر سريعا إلى صراع بين أكبر مجموعتين قبليتين في البلاد وهما الدينكا والنوير، مما عنى وقتها نذرا متشائمة لما يمكن أن يحمله المستقبل. ووجد باحثان في أحدى الجامعات الأمريكية أن الصراع بين الطرفين المتنافسين في تلك الفترة أدى إلى مقتل جنوبيين بأيدي جنوبيين أكثر ممن لاقوا حتفهم من الجنوبيين على يد الجيش السوداني.
هذه الحقائق لم تكن غائبة عن أنظار وأذهان الدبلوماسيين المحترفين الذين تقدمهم السيناتور السابق ومندوب الولايات المتحدة في مجلس الأمن جون دانفورث، قائد المفاوضات التي أدت إلى توقيع اتفاق السلام بين الخرطوم والحركة الشعبية في 2005. كان الرأي انه بعد الاتفاقية التي سعت إلى اعادة هيكلة الدولة السودانية، وجعل الجنوبيين مسؤولين عن إدارة إقليمهم، إضافة إلى مشاركة مرموقة في السلطة في الخرطوم، فأن واشنطن ينبغي أن تلقي بثقلها لضمان أن يصوت الجنوبيون للوحدة الاختيارية، مما يمكن أن يشكل مانعا أمام انزلاق السودان إلى خانة التطرف الإسلامي الأصولي، وفي الوقت نفسه، الى عدم إيجاد دولة جديدة تبدو عوامل فشلها واضحة للعيان بسبب غياب المؤسسات. ولخص دانفورث تلك الرؤية بمقولة شهيرة: «سودان واحد يكفي». لكن تركيز جماعات الضغط والناشطين، ولأسباب أيديولوجية وأخرى تتعلق بقصر النظر، كان على تقسيم السودان، أكثر من الاهتمام بمستقبل الدولة الوليدة والمشاكل التي تنتظرها. ولهذا لم يستمر شهر عسل الانفصال طويلا، لتطفو عوامل الشقاق على السطح وينفجر الوضع في وجه الجميع.
تعادل عسكري وانسداد سياسي
عمل مشار نائبا لرئيس حكومة الجنوب قبل الانفصال، ونائبا لرئيس الجمهورية بعده. والخلافات بين الرجلين كان واضحة وجلية، لذا عندما قام كير في منتصف العام الماضي بإقالة مشار وأعضاء الحكومة وإعادة تكوينها من شخصيات موالية له، أتخذ الصراع منحى جديدا لينفجر عسكريا في منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي في عملية وصفها كير بأنها محاولة انقلابية من مشار تم وئدها، بينما أصر مشار على أنها محاولة من قبل كير لتجريد أعضاء الحرس الجمهوري من قبيلة النوير من سلاحهم، ما أدى إلى تفجر الوضع وحدوث استهداف عرقي وقبلي انتشر بسرعة إلى بقية الولايات حتى اضطرت الأمم المتحدة إلى التفريق بين من يلجئون إلى معسكراتها بوضع الدينكا في مكان والنوير في مكان آخر.
ومع ان كير استفاد من وضعيته كرئيس منتخب، إلا أن فشله في حسم الوضع عسكريا أدى إلى تدخلات قادتها دول الجوار عبر منظمة «الإيقاد». وبحكم طبيعة الوساطات، فأنها لا بد أن تتحدث مع الطرفين، الأمر الذي أعطى مشار اعترافا إقليميا وجعله على قدم المساواة مع كير وفتح أمامه إمكانيات التواصل الدبلوماسي إقليميا ودوليا. ورغم إبرام اتفاقيتين لوقف أطلاق النار إلى جانب اتفاق إطاري لتشكيل حكومة انتقالية تضم الطرفين، إلا ان عدم توفر وسائط ضغط لدى «الإيقاد» تمكِّنها من تنفيذ هذه الاتفاقيات جعلها حبرا على ورق رغم المساندة الدولية، ودعم الولايات المتحدة من خلال وضع اثنين من القادة الميدانيين، يتبع أحدهما لكير والثاني لمشار، على قائمة العقوبات، مما يشير إلى ضعف التأثير الإقليمي والدولي على ما يجري.
عسكريا طلب كير دعما أوغنديا أسهم في حماية العاصمة جوبا التي كانت مهددة من قبل مليشيات النوير، وتطورت هذه العلاقة إلى إبرام اتفاق عسكري الشهر الماضي، الأمر الذي يؤذن بتداعيات إقليمية، خاصة والخرطوم تتوجس من أي دور أوغندي ذو بعد عسكري، إذ ترى أن الرئيس الأوغندي يوري موسفيني كان من أكبر الداعمين لانفصال جنوب السودان، وظلت علاقته متوترة في الغالب مع الخرطوم.. وهكذا، وبدلا من أن تصبح دولة الجنوب الجديدة حاجزا بين السودان وأوغندا ، فإن تلك الاتفاقيات تجعل الخطر محاذيا لحدود السودان الجنوبية، خاصة أن أوغندا فتحت أبوابها للحركات السودانية المتمردة. ولا تزال الخرطوم تتهم جوبا بالتعنت في رسم الحدود بين البلدين، وذلك تهربا من ضبط حركة المجموعات المتمردة.
ولهذا تتناثر بعض الأنباء غير المؤكدة بأن السودان بدأ في تقديم دعم عسكري لمجموعات مشار، خاصة وبعض مناطق النوير التي ينتمي إليها هي الأقرب إلى السودان، كما أن مناطق البترول توجد غالبيتها في المساحات التي تتبع للنوير، حيث تم تعطيل إنتاج النفط من منطقتي «ثارجاث» و«الوحدة»، مما أدى إلى تراجع انتاج جنوب السودان من نحو 250 ألف برميل يوميا إلى 145 ألفا مرشحة هي نفسها للتراجع، ومعها الرسوم التي كانت تتحصل عليها الخرطوم من تمرير شحنات النفط عبر أراضيها.
السودان بحدوده التي تمتد بطول أكثر من ألفي كيلومتر مع جنوب السودان، وبسبب العلاقات التاريخية بين البلدين، وكونه يمثل المنفذ الوحيد لتجارة النفط (لأن جنوب السودان دولة مغلقة بلا منافذ بحرية)، يبدو في وضع أفضل من غيره ليلعب دورا في إعادة الاستقرار إلى الدولة الوليدة. لكن يقعد به عن القيام بهذا الدور المتاعب الداخلية التي يعاني منها السودان نفسه، وهي تبدو مرشحة للتفاقم مع إصرار الرئيس عمر البشير على السير قدما في انتخابات العام المقبل بينما أعلنت غالبية القوى السياسية مقاطعتها، الأمر الذي يؤذن باحتقان جديد.
ومع الضعف الإقليمي الواضح، وتكرار التحذيرات من قبل المجتمع الدولي بأنه ينظر بجدية لفرض المزيد من العقوبات على طرفي القتال في جنوب السودان، بل وبروز بعض الدعوات الى وضع الدولة الجديدة تحت الوصاية الدولية، فأنه ليس في الأفق ما يشير إلى إمكانية حدوث تحول سياسي سلمي، ما لم يصل أي من الطرفين إلى قناعة بصعوبة الحسم العسكري. وهذا مرشح إلى تدهور جديد مع احتمال تفتت الأجسام العسكرية القائمة إلى ميليشيات تنطلق من حسابات شخصية ومناطقية ضيقة، مما يدفع الى المزيد من التعقيد السياسي والعسكري، ومن ثم تصعيب الحلول. احدى نتائج هذا الوضع أن التعاطف الذي كان يحظى به جنوب السودان من قبل الدول الغربية والمؤسسات التي تسيطر عليها، مثل صندوق النقد الدولي، قد تبخر وتعثرت معه بالتالي جهود السودان نفسه في تطبيع علاقاته مع المجموعة الدولية، خاصة في موضوع الإعفاء من الديون الأجنبية التي تزيد على 40 مليار دولار.. حيث كان البلدان قد اتفقا على السعي المشترك للحصول على الاعفاء أو لتقاسمها.