تنتظر الصناعة النفطية العالمية مآلات الجولة الخامسة من التراخيص النفطية التي ستطرحها الحكومة العراقية على الشركات الأجنبية العاملة في هذا المجال، في وقت ما خلال هذا العام لم يحدد بعد، وذلك لما يمكن أن تتضمنه من رسائل حول مستقبل القطاع النفطي العراقي وانعكاسات ذلك على السوق العالمية. وسيكون هناك تركيز بصورة أدق لمعرفة إمكان نجاح بغداد خلال الجولة المرتقبة في تسويق مشروع لتطوير حقل الناصرية في محافظة ذي قار الذي يعتقد أن به احتياطيا يبلغ أربعة مليارات برميل. كما أن الخطوط العريضة للمشروع تتضمن إقامة مصفاة بطاقة تكريرية تصل إلى 300 ألف برميل يوميا، أي ان هذا المشروع وحده يخاطب هدفي زيادة الإنتاج من الخام وكذلك الطاقة التكريرية، لمقابلة الاحتياجات المحلية المتنامية من المواد المكررة.
العراق الثاني عالمياً في الإنتاج
نجح العراق خلال العام الماضي في احتلال مرتبة الدولة الثانية الأكثر إنتاجا للنفط الخام بعد السعودية داخل منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، مزيحا بذلك ايران عن تلك المكانة، وأيضا نجاحه في رفع حجم احتياطياته النفطية من 115 مليار برميل إلى 141 مليارا، ليصبح بذلك خامس أكبر دولة في العالم من ناحية الاحتياطيات بعد السعودية وفنزويلا وكندا وإيران، وذلك بين عامي 2011 و2012. ورغم ذلك، وبصورة عامة، فلا يبدو أن هناك تفاؤلا كبيرا بحدوث تقدم ملموس في جولة التراخيص المرتقبة، وذلك استنادا إلى النتائج التي حققتها الجولات الأربع التي سبقت.
تراجع في الاهتمام الغربي
فالجولة الأولى التي عقدت في يونيو/حزيران من العام 2009 شهدت قدوم أسماء لكبرى الشركات النفطية العالمية، أمثال اكسون/موبيل، شل، بريتش بتروليوم، شركة النفط الوطنية الصينية، أيني الايطالية، وأوكسيدنتال. طموحات تلك الجولة تمثلت في السعي إلى تنفيذ المرحلة الأولى من رفع الطاقة الإنتاجية العراقية من 1,56 مليون برميل يوميا في العام 2004 إلى 6,8 ملايين برميل، وذلك في أول مرحلة ،للوصول إلى إنتاج 12 مليون برميل يوميا بحلول العام 2017، وهو ما يتطلب انفاق 30 مليار دولار سنويا لتطوير هذه القدرات الإنتاجية والعمل على رفع طاقة المناطق المنتجة فعلا، حيث توجد احتياطيات تقدر بنحو 60 مليار برميل، وأيضا العمل على بدء الإنتاج من المناطق التي جرت فيها اكتشافات.
جولات العروض الثلاث التالية لم تحقق تقدما يذكر، والجولة الأخيرة التي عقدت في أيار/ مايو من العام الماضي شهدت فحسب وجود شركات باكستانية وكويتية وروسية، مسجلة بذلك تراجعا في عدد ونوعية الشركات الأجنبية الراغبة في العمل في العراق. وكان الغائب الأكبر عنها الشركات الأميركية، التي يرى كثيرون من مراقبي الصناعة النفطية أنها لن تشارك في الجولة المقبلة التي تتزامن، للمفارقة مع الذكرى العاشرة للغزو الأميركي للعراق، الذي يعتقد على نطاق واسع أن أحد محركاته الأهداف النفطية.
ونتيجة لهذا الاهتمام المتناقص، فإن بغداد قامت بمراجعة خططها الطموحة وقلصت برنامجها الإنتاجي المستقبلي إلى نحو تسعة ملايين برميل. ويعود ذلك إلى أسباب عدة، سياسية وأمنية وقانونية، أصبحت تشكل عائقا أمام المضي قدما في مشاريع زيادة الطاقة الإنتاجية. أحد الجوانب الفنية لهذا التعثر أن مشروع التوسعة الضخم هذا يتطلب استخدام وسائل لرفع الضغط في الحقول لتسهيل استخراج النفط الخام منها. وهذا يتم إما عن طريق الحقن بالغاز الطبيعي أو بالمياه. وكانت الخطة تقوم على سحب ما بين 10 ملايين إلى 15 مليون برميل يوميا من مياه البحر بكلفة تصل إلى 10 مليار دولار، وهو المشروع الذي تمت ترسيته بداية على شركة أكسون/موبيل الأميركية العملاقة. لكن الشركة تخلت عنه بصورة نهائية العام الماضي، الأمر الذي أثر على الخطط التوسعية لرفع الطاقة الإنتاجية مما أعاد التركيز على العقبات التي تعترض هذه الخطط، خاصة ان العراق يمتاز بوجود الاحتياطيات الضخمة في بيئة جيولوجية ملائمة وكلفة إنتاج رخيصة وتوفر الطاقة البشرية المهنية القادرة على إدارة الصناعة.
عوائق هيكلية
يمثل غياب البنية التحتية من مرافق التصدير وخطوط الأنابيب عوائق أساسية، خاصة والعراق يبدو محصورا بين كل من إيران والكويت فيما يخص منافذه البحرية، وهو الواقع الذي ظل مثار نزاع بين جاريه على الدوام. كما أن سنوات الحصار والمقاطعة الطويلة التي فرضتها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة على النظام العراقي السابق، لا تزال تلقي بتأثيرها على أداء صناعة النفط العراقية. فمرافق التصدير في الجنوب تعمل بطاقة شبه كاملة، بينما تلك التي في الشمال تعاني الانفلات الأمني والتخريب، وحاجة تلك المرافق الماسة إلى التحديث كي تلبي احتياجات الإنتاج المتزايدة.
لكن الوضع السياسي المتقلب وتدهوره أمنيا في اتجاه طائفي يأتي على رأس العوائق. وتنعكس حالة الاحتقان ومناخات عدم الاستقرار بدورها على الجهاز التنفيذي، ما يجعل من اهتمام الطبقة السياسية بتنفيذ برامج رفع الطاقة الإنتاجية في مرتبة متدنية. وتجيء في هذا الإطار العلاقة الملتبسة مع إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي يجعله في حال أقرب إلى الاستقلال في إدارة شؤونه وتحديدا علاقاته الخارجية في بعدها النفطي، وهذا أيضاً موضع نزاع مع الحكومة المركزية على الصلاحيات وعلى دستورية الإجراءات المتخذة.
وبشكل عام، فحالة الشلل السياسي التي تخيم على بغداد زادت من غموض الجوانب الدستورية والقانونية التي يفترض أن تنظم الصناعة النفطية. فلأكثر من خمس سنوات، فشلت الحكومة والبرلمان في إجازة قانون للصناعة النفطية، وذلك لأن المسودات الثلاث المطروحة أصبحت ميدان تجاذب بين مختلف الفرقاء السياسيين. وفي هذا المناخ الخاضع للمزايدة، تبنى التنفيذيون سياسة وضع شروط أقسى للسماح للشركات الأجنبية بالعمل في العراق، وهو ما دفع العديد منها إلى اعادة النظر في علاقتها مع بغداد... خاصة أن إقليم كردستان قام من جانبه بتقديم شروط أفضل، فنجحت أربيل في إبرام نحو 50 عقدا مع العديد من الشركات الأجنبية، بل ان شركات كبرى أمثال اكسون موبيل وبريتش بتروليوم وغيرهما، آثرت تركيز نشاطها في كردستان، رغم تهديدات بغداد أنها ستمنع الشركات الأجنبية التي تنشط في أربيل من العمل في بقية أنحاء العراق. وبسبب هذا النشاط، فإن أربيل تقول انها تطمح إلى مضاعفة انتاجها النفطي إلى 400 ألف برميل يوميا هذا العام، وربما إلى مليون برميل خلال عامين. وهي، على هذا، تؤكد أن حجم الاحتياطيات لديها يمكن أن يصل إلى 45 مليار برميل، بدلاً من رقم أربعة مليارات برميل الذي كان سائدا. وساعد أربيل على التقدم في هذا المجال وضوح البيئة القانونية والإدارية التي يمكن للشركات الأجنبية أن تعمل في إطارها، الى جانب الاستقرار السياسي النسبي الذي تتمتع به مقارنة بما يجري في بغداد.
الجانب الآخر: المفارقات
على أن الوضع في بغداد لا يبدو ميؤوسا منه. فالعراق نجح في آب/ أغسطس من العام الماضي في الوصول بإنتاجه إلى ثلاثة ملايين برميل يوميا، بل تجاوز ذلك المعدل ليبلغ 3,15 مليون برميل يوميا خلال الربع الأول من هذا العام. ويتوقع حدوث زيادة طفيفة خلال أشهر، خاصة بعد دخول بعض المشروعات، مثل حقل مجنون، إلى دائرة الإنتاج بالتعاون مع شركة شل. ويكتسب هذا التطور أهمية إضافية لكونه يأتي على حساب إيران التي تخضع لإجراءات مقاطعة مشددة من الدول الغربية، تستهدف صناعتها النفطية في الأساس. وهكذا يأتي النمو في الإنتاج النفطي العراقي في الوقت الذي بدأ فيه مثيله الإيراني في التراجع، ما يجرد طهران من أحد عناصر الضغط التي كانت تعتمد عليها، أي أن يسهم شح الإمدادات في السوق النفطية في توفير منافذ أكثر لها لبيع نفطها ولو في السوق السوداء.
النقطة الثانية الجديرة بالمتابعة تتعلق بنمو العلاقات النفطية بين العراق والصين، إذ ظلت شركة النفط الوطنية الصينية في مقدمة الشركات الأجنبية الناشطة على الساحة العراقية. وتذهب بعض التقديرات ومن بينها لبعض مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة الى أن صادرات العراق النفطية إلى الصين قد تصل إلى مليوني برميل يوميا في العام 2035، وهو ما يمثل ربع الإنتاج العراقي، الأمر الذي يشير إلى تحولات جيوستراتيجية بدأت ملامحها ترتسم في الأفق. ونجح العراق في تصدير 2.4 مليون برميل يوميا خلال الشهر الماضي، ذهب منها نحو 500 ألف برميل يوميا إلى الصين.
أحاطت بعملية الغزو الأميركي لإسقاط نظام صدام حسين قناعة بأن أحد محركاتها الأساسية مصالح الشركات النفطية الأميركية على الخصوص، ورغبتها في الحصول على نصيب الأسد في الصناعة النفطية العراقية. وكان المحافظون الجدد، الذين وفروا البعد الفكري لعملية الغزو، يرون أن تطورا مثل هذا سيكون مفيدا لمصلحة الهيمنة الأميركية، وللضغط على الدول الخليجية الأخرى لفتح أبواب صناعاتها النفطية أمام الشركات الأجنبية والأميركية تحديدا، بعد أن كانت قد أخرجت منها قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان.
لكن بعد عقد من الزمن، اختفت الشركات الأميركية بصورة شبه كلية من الساحة العراقية، بل برزت مؤشرات على تنامي العلاقات مع الصين، القوة الاقتصادية والسياسية البازغة اليوم. هي مفارقة استراتيجية أن تنتهي الغزوة الأميركية للعراق بدفعه إلى علاقات أوثق مع خصم إقليمي لواشنطن هو إيران، ومنافس دولي لها هو الصين.