الأحياء الشعبية في تونس: عن سياسات العزل المضاعف

تتقاطع النزعة الأمنوية مع النزعة التقنوية، وهي ترى في المدينة، كفضاء عمومي، فضاءها الأوحد الذي لا يجب أن ينازعها فيه أحد.
2020-05-15

فؤاد غربالي

باحث في علم الاجتماع، من تونس


شارك
رضا بالطيب - تونس

سكان الأحياء الشعبية في تونس هم من لا يحترمون الحجر الصحي، ويتمردون على توجيهات وزارة الصحة بخصوص التباعد الجسدي، ويصرون على الاكتظاظ في الأسواق الشعبية... وهو أمر يدل على انعدام الوعي لديهم. هذا ما يردده الخطاب الحكومي بين الفينة والأخرى، حين تحدث انفلاتات تتعلق بترتيبات احترام الحجر الصحي العام. الخطاب ذاته يتكرر أيضاً في وسائل الإعلام الخاصة الداعمة للحكومة، وهو جزء من سياسة قديمة تم استدعاؤها من أجل إدارة أزمة كورونا، ليس فقط من حيث هي أزمة صحية، بل كذلك بما هي أزمة اجتماعية لها انغراس حضري أساساً. فكورونا على ما يبدو تمكّن من سكان المدن أكثر منسكان الأرياف، وفرضت إعادة التفكير في المسألة الاجتماعية في جانبها الحضري وهو الجانب الذي نادراً ما يقع التطرق إليه في النقاش الدائر في تونس حول تداعيات كورونا في جوانبه الاقتصادية.

كل الخطابات السياسية والإعلامية المهيمنة تحاول أن تنزع عن الأزمة أبعادها المجالية. الكل يفكر خارج جغرافية المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتحديداً خارج مشكلات التحضر العمراني الذي تعرفه البلاد. لم يتغير التعاطي الرسمي مع المسألة الحضرية، والعمرانية عموماً، منذ ستة عقود أي منذ استقلال البلاد، حيث تتغلب النزعة التقنوية التي لا تعير أي اهتمام للأسئلة المتعلقة بأي نوع من المدينة يريدهالناس، وكيف يمكن لها أن تسهم في إعادة ترتيب الروابط الاجتماعية على قاعدة مواطنيّة، أو على أساس "الحق في المدينة".

فالتونسيون، هم على غرار شعوب المنطقة، محرومون من حرية صناعة مدنهم وإعادة صناعتها. السلطة لا تريد ذلك، وهنا تحديداً تتقاطع النزعة الأمنوية مع النزعة التقنوية، لأنها ترى في المدينة، كفضاء عمومي، فضاءها الأوحد الذي لا يجب أن ينازعها فيه أي كان. لم تكن هنالك رغبة في تشكل المدينة كفضاء سياسي بل فقط كواجهة "لتجربة التحديث" التي انخرطت فيها البلاد لحظة الاستقلال. تجربة التحديث، وإن ظلت غير مكتملة، فقد كان من مآلاتها تشكيل الفضاء الحضري وهيكلته من أجل صنع المجتمع. المجتمع الحديث في تمثّلات نخب دول الاستقلال، هو رديف المدينة حيث العلاقات هي علاقات تعاقدية في قطيعة مع البنى الأولية. هذا هو النموذج الإيديولوجي الذي بنت عليه دولة الاستقلال مشروعيتها، حيث الرهان هو تثوير البنى التقليدية وخلق "الفرد التونسي" المنضوي تحت فكرة '' الأمة التونسية". والمدينة كفضاء تتفتت فيه وتذوب داخله الهويات التقليدية، كانت الرهان السياسي الأفضل لتحقيق ذلك. لهذا عملت الدولة على "تطهير الفضاء المديني" (تونس العاصمة ومدن الساحل أساساً بالتحديد) من الريفيين الآتين لتوهم من مدن الشمال الغربي ووسط البلاد. هؤلاء يحملون معهم تقاليد الأرياف وعصبيات القبيلة. هذا ما لم يكن يريده بورقيبة. كان ذلك خلال بداية ستينيات القرن الماضي.

لكن سياسة البلدوزر لم تفلح. كما لم تفلح برامج "التنمية الريفية" التي حاولت من خلالها السلطة أن تبقي هؤلاء في قراهم. كانت البلاد حينها في حرب ضد الجهل والأمية والتقاليد البالية، وفي حرب أيضاً ضد حركة النزوح. الهدف كان تحديث المجتمع. لكن هذه النزعة الإرادوية للتحديث كانت تعوزها البنية الاقتصادية المتينة كي تحقق مبتغاها، لهذا فهي لن تصمد أمام حركات النزوح الكثيفة التي سوف تعرفها البلاد على مدى أربعة عقود.

التقاطع مع تحضّر متسارع

تغيرت في السبعينيات الفائتة سياسة التعاطي الرسمي مع ''المسألة الحضرية" على إثر التمدد غير المتحكَم فيه للسكن العشوائي في ضواحي المدن الكبرى التي تعج "بحضريين جدد"، مرّوا بتجربة "التربص الحضري" قبل أن يفكروا في الاستقرار في المدينة عبر الاستحواذ على أراضٍ خارج التهيئة الحضرية، وبناء مساكنهم عليها دون ترخيص ودون اتباع للمعايير العمرانية. رافق ذلك التمدد طفرة ديمغرافية وضعت الكثير من الشباب الآتي من الأرياف في سوق شغل ضيق. كانت المدينة مليئة بالوعود بالنسبة لهؤلاء. لكنها لم تكن كذلك فعلاً وفي الأصل.

فهنالك خلل هيكلي بين إمكانياتها وحاجات الوافدين الجدد، الباحثين عن الشغل وتكوين عائلة. الأمر كان شبيهاً بالهجرة المغاربية إلى دول أوروبا في السبعينات نفسها. فرنسا خاصة. اندمج هؤلاء في مهن هامشية. كمهن البناء، وتجارة البسطات والعمل في المقاهي، البعض منهم استوعبه القطاع السياحي الذي كان يعتمد في الغالب على يد عاملة غير مؤهلة وموسمية. والصناعات التحويلية كذلك. كما يوجد أيضاً بعض الموظفين الصغار. في الثمانينات الفائتة، وكما هو معلوم، ستعرف تونس على غرار بلدان المنطقة أزمات اقتصادية حادة تنتهي بطلب تدخل صندوق النقد والبنك الدوليان اللذين سيفرضان تحرير الاقتصاد الوطني، وإدماجه في الاقتصاد المعولم.

كل الخطابات السياسية والإعلامية المهيمنة تحاول أن تنزع عن الأزمة أبعادها المجالية. الكل يفكر خارج جغرافية المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتحديداً خارج مشكلات التحضر العمراني الذي تعرفه البلاد.

كانت المدينة مليئة بالوعود بالنسبة لهؤلاء الحضريين الجدد. لكنها لم تكن كذلك فعلاً وفي الأصل. فهنالك خلل هيكلي بين إمكانياتها وحاجات الوافدين الجدد، الباحثين عن الشغل وتكوين عائلة.

تبع ذلك اتفاقية التجارة العالمية، واتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وكانت نتائجه أزمات هيكيلة للقطاع السياحي وبداية تهاوي الصناعات المحلية. بموجب ذلك لم تعد المدن الكبرى مدناً مدمجة، وصار الحديث أكثر مما مضى عن "مهمشي المدن". وهم طبقة حضرية تضررت من السياسات المتبعة لكنها مصرة وتقاوم بشكل مستمر كي لا تكون على هامش مجتمع الاستهلاك الليبرالي. هذا يجعلها تخلق مساحات فعلها الذي يتجاور بين الحين والآخر، أو يتداخل مع النطاقات الحضرية والاقتصادية المهيكلة.

تتحدث عالمة الاجتماع نسيمة دريس (1) في هذا الصدد عن تداخل النماذج في مدن الجنوب. المدن التونسية (مدن الجنوب بشكل عام) مثال لتداخل السجلات والنماذج المتعددة. يتجاور المركزي والهامشي والتقليدي والحديث في أحيان كثيرة على نحو غير متساوٍ ومنسجم. يرتبط هذا الأمر بسيرورة تحضر مخصوص اتسم بالتسارع. فالنمط الاقتصادي الكولونيالي الذي عرفته البلاد منذ الفترة الاستعمارية قد أحدث انقلاباً في المنظومة الاجتماعية وفي مكوناتها وأشكال تمفصلها، حيث الانتقال من منظومة مندمجة بشكل عمودي، ولكن متساوٍ إلى مجتمع غير متساوٍ (هذه اللامساواة ستكون لها عدة أشكال)، مندمج بشكل أفقي ومراقَب أكثر مما مضى بدولة مركزية. كان لهذا التحول تداعياته على مستوى الفضاء الحضري، إذ بتنا إزاء "إيكولوجيا تمييزية" تقوم على تنضيدات اجتماعية صلبة وغير متساوية على نحو كبير. هذه اللامساواة ستتوسع أكثر مع بداية ''تآكل الطبقة المتوسطة" مع بداية الثمانينات التي ستُظهر طبقات الفقراء من الموظفين الحكوميين غير المندمجين في السكن الرسمي، إلى التعويل على السكن العشوائي خاصة بعد أن تخلت الدولة عن الإسكان الاجتماعي، وتفويض ذلك للبنوك والمقاولين العقاريين الذين يعملون بالقدر الممكن على إخضاع سوق السكن لمنطق احتكاري يخضع لمعايير الربح المفرط.

تخلي الدولة عن الإسكان كان من نتائجه مدناً تسير بوتيرتين في اتجاه متناقض. فمن جهة تتمدد الأحياء الفخمة بشكل غير متحكم فيه وغير مضبوط (نلاحظ هذا في العاصمة ومدينة صفاقس تحديداً) مقابل تمدد متسارع للأحياء الشعبية، وهذا التمدد العمراني الذي يسير بوتيرتين يأتي في الحقيقة كانعكاس للتعارضات الأفقية بين الفئات الاجتماعية، إذا بتنا في تونس أمام ثنائية المندمجين بشكل كامل في عالمي العمل والاستهلاك والسكن و"المقصيين" من نطاقات العمل الرسمي والسكن. لكن وضعية "الإقصاء" التي يعيشونها لا تعني أن التعاطي مع "الهامش الحضري" يجب أن يكون وفق ثنائية أما ضحايا أو أشرار. مهمشو المدن هم فاعلون في الحياة الحضرية، ويكابدون بشكل يومي من أجل تغيير موازين القوى بينهم وبين أجهزة الدولة المتشعبة. وهي علاقة معقدة تخضع لديناميكيات القمع والتفاوض و"المقاومة بالحيلة". يتجسد قمع الدولة المستمر للنطاقات الحضرية التي تخرج عن سيطرتها عبر سياسة الوصم المجالي ومراقبة المداخل والمخارج، وهو ما يعمق حالة عزل عدة أحياء موجودة على تخوم العاصمة (على غرار حي التظامن ودوار هيشر والسيدة المنوبية وحي هلال.. إلخ). يُعاش هذا العزل من قبل المتساكنين دائماً بوصفه جزءً من عملية للمعوقات الاجتماعية التي يواجهونها في حياتهم اليومية. حيث يلاحقهم الوصم في كل مكان في العمل وأماكن الترفيه.

كورونا في "الحومة": العزل المضاعَف

وجدت السلطة في الأيام الأولى لانتشار الوباء الفرصة لتشديد الوصم وعزل الأحياء الشعبية. في حي النصر أحد أحياء النازحين في مدينة صفاقس، ثاني مدن البلاد، حدثت مواجهات عنيفة بين شبان الحي والشرطة. تكرر الأمر كذلك في أحياء أخرى حيث نقلت وسائل التواصل الاجتماعي صور شرطة وهي تعنف مجموعة من الشبان لم يلتزموا بالحجر الصحي. وعد وزير الداخلية بتتبع الملف لكن لا أحد يعرف النتيجة حتى الآن. في الوقت ذاته كانت وسائل الإعلام، التي تسيطر عليها نخب "البرجوازية الصغرى" تندد، في انسجام تام مع الخطاب الحكومي، بتهور متساكني الأحياء الشعبية، وعدم احترامهم لمعايير الوقاية والحجر الصحي. كل النصائح الموجهة من قبل ''البرجوازية الصغرى" لسكان الأحياء الشعبية كانت انعكاساً لوجهة النظر الحكومية. حتى المتخصصون في علم النفس الذين جيء بهم إلى التلفزات، والذين ترحب بهم وسائل الإعلام بشكل مستمر، كي يقدموا النصائح للناس في فترة الحجر لم يكسروا القاعدة (وهذا ما يفعلونه دائماً). تحدثوا بلغة مدربي التنمية البشرية دون أي حس نقدي، حيث الدعوات المتكررة إلى استغلال الوقت لمشاهدة الأفلام والمطالعة وممارسة الهوايات القديمة. في الوقت الذي تغاضوا فيه عن نسبة الانقطاع المدرسي المرتفع في تلك الأحياء وغياب البنى التحتية الملائمة مثل وسائل النقل، والترفيه، علاوة على الوصم الاجتماعي الذي يتعرض له أهل تلك الأحياء. لهذا قفز "خطاب البرجوازية الصغرى" التي تمثلها الحكومة ووسائل الإعلام على التناقضات الاجتماعية و الحضرية تحديداً في تونس تحت حجة محاربة كورونا. كان الخطاب في اتجاه واحد، ولم يأخذ في الاعتبار تمثلات سكان الأحياء الشعبية للمخاطر الصحية وعلاقتهم بالدولة وظروفهم الاقتصادية.

تحدث المتخصصون في علم النفس الذين جيء بهم إلى التلفزات كي يقدموا النصائح للناس في فترة الحجر بلغة مدربي التنمية البشرية، دون أي حس نقدي، عن استغلال الوقت لمشاهدة الأفلام والمطالعة وممارسة الهوايات القديمة، وتغاضوا عن نسبة الانقطاع المدرسي المرتفع في تلك الأحياء وغياب البنى التحتية الملائمة مثل وسائل النقل والترفيه.

الشارع بكل إحالته المكانية (مقهى الحومة، حلاق الحومة، الزنقة، الباعة.. إلخ) في الأحياء الشعبية، ليس مجرد مكان مفرغ من المعنى ومسكون بالمجهولية. إنه فضاء حميمي منتج للروابط الاجتماعية، وهو كذلك فضاء عبور وحركة وتواصل، وهو انعكاس للعلاقات الاجتماعية داخل تلك الفضاءات. بعبارة أخرى، الشارع هو فضاء لتكثيف الحياة الحضرية في هامش المدن.

لم يحترم أهل الأحياء الشعبية الحجر الصحي ليس لأنهم غير واعين ولا تعنيهم عدوى كورونا، بل لأن الخطاب الحكومي والإعلامي لم يكن بصيغة يشعرون عبرها أنهم معنيون به. فعبارة "شد دارك" (إلزم بيتك) تبدو مرادفاً لسؤال "ماذا تفعل هنا؟'' الذي تسأله الشرطة لشبان الأحياء الشعبية حين تتثبت من هوياتهم وسط المدينة، أي خارج أحيائهم، علاوة على كونها تضمر نوعاً من العنف وعدم اللياقة في الذهنية الشعبية التونسية. فالشارع بكل إحالته المكانية (مقهى الحومة، حلاق الحومة، الزنقة، الباعة.. إلخ) في الأحياء الشعبية، ليس مجرد مكان مفرغ من المعنى ومسكون بالمجهولية. إنه فضاء حميمي وهو فضاء منتج للروابط الاجتماعية، وهو كذلك فضاء عبور وحركة وتواصل، إنه انعكاس للعلاقات الاجتماعية داخل تلك الفضاءات. بعبارة أخرى، الشارع هو فضاء لتكثيف الحياة الحضرية في هامش المدن. يتيح الشارع لشبان تلك الأحياء نوعاً من المرئية الاجتماعية، وإن كان ذلك في ظل الهشاشة المهنية، كما يتشكل كملجأ تنمو فيه الصداقات والهويات الفردية على هامش المؤسسات الرسمية مثل العائلة، والمدرسة وكل ما يمت للدولة بصلة.

"الحيطيست" (المتكئون على الحائط بسبب التبطل) هم الأكثر استثماراً للشارع، فهو الذي يعوض عنهم غياب وسائل الترفيه وملل البطالة، ويمكّنهم من أن يقضوا كامل يومهم بعيداً عن منازل العائلة الضيقة، والتي كثيراً ما تكون أماكن للشجار بين الأم والأب والأخوة بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة. الشارع يمكنهم من قتل الوقت ومن مشاهدة "الزمن وهو يمر أمامهم". كما يمثل الشارع فضاءً للاندماج الاجتماعي من خلال تحويل وجهة الوضعية الهامشية إلى وضعية مقاومة. يتم هذا من خلال النشاطات الاقتصادية التحتية داخل الحي المتمثلة في تجارة البسطات أو الاقتصاد الأسود المبني على المتاجرة بالحشيش والخمر خلسة (نشاطات غالباً ما تغض عنها الدولة الطرف). النسوة في تلك الأحياء كثيراً ما نجدهن يعملن في محلات بيع الملاوي (خبز تونسي تقليدي) علاوة على محلات البقالة الصغيرة. انخرط هؤلاء في "تنمية تلقائية" خارج النطاقات الرسمية، وهو ما يجعل من الشارع بالنسبة لهم بمثابة مورد متعدد الأبعاد، اجتماعي واقتصادي أساساً، ودعامة مجالية لتحقيق الاندماج عبر الهامش.

فشل الحكومة الاتصالي في التعاطي مع أزمة كورونا في بعدها المجالي يتمثل في كونه قفز فوق خصوصيات الفضاءات الحضرية التي تخلت عنها الدولة الاجتماعية، حيث تم التعاطي معها كمجرد أماكن تخضع لرقابة إدارية وأمنية، في حين يعيشها سكانها "كحومة" (الحارة) أي "كمكان أنثربولوجي يقيم الناس فيه علاقة حميمية مع المكان على نحو يكون جوهر "نحن الجماعية" المرتبطة بانتمائهمللمكان. فهوية هؤلاء مرتبطة بالحومة بوصفها جزءاً من ذاكرتهم الجماعية، ولكنها أيضاً بوصفها بديلاً عن العزل الاجتماعي الذي يعيشون. فهي تتيح لهم الانغراس المجالي، وبناء علاقات إيجابية من التعاون والتضامن والحماية النفسية. فالحومة (الحومة الشعبية) في منظور سكانها بقدر ما ترافقها التوصيمات السلبية والمحاولات المستمرة من السلطة للعزل، إلا أنها تبقى مكان الجذور والصداقات والحب وشهادة على جماعة تجربة مغذية للهويات الفردية والجماعية.. رغم الوصم والصعوبات الشخصية.

العزل الصحي: اندثار الذات

"شد دارك" تصبح وفق هذا عبارة مفرغة من المعنى والدلالة بالنسبة لسكان الأحياء الشعبية لأن أحياءهم بالنسبة لهم هي بمثابة "البيت"، وليس ثمة حدود كبيرة بين الفضاء العام والفضاء الخاص. هناك تداخل بينهما. بل إن ما يهم بالنسبة لهم هو الفضاء العام. فضاء تحدي السلطة بكل دلالاتها. لهذا بدا الحجر الصحي في الأحياء الشعبية بالنسبة للكثير من سكانه بمثابة انتزاع لهم من جذورهم، وتعدٍ من قبل السلطة على عالمهم الاجتماعي. هو بمثابة دعوة إلى مزيد من "اندثار الذات" بعبارة الأنثربولوجي الفرنسي دافيد لوبرتون (2) بوصفه إحداث قطيعة مع العالم الاجتماعي. هذه المرة من أجل التوقي من العدوى. هذا الاندثار هو حاصل على نحو ما في الأحياء الشعبية، حيث يعيش الكثير من الشبان في حالة انطواء مجالي، لا يغادرون أحياءهم إلا لماماً خوفاً من عنف الشرطة التي تلاحقهم دائماً. الكثير منهم يقضي يومه في العالم الافتراضي أو في النوم المطول نهاراً أو السهر إلى حدود الفجر كطرق لاندثار الذات. العزل الصحي يدفع بهذا الاندثار إلى مداه الأقصى، حيث يسير الكثير من الشبان والفئات الهشة إلى الأحياء الشعبية نحو مزيد من الانطواء، ليس فقط داخل أحياء ذات بنية تحتية رثة، ولكن داخل منازل ضيقة لا تتوفر فيها ''الحميمية الشخصية" ولا وسائل الراحة النفسية. يجد الكثير من الآباء في الأحياء الشعبية أنفسهم وجهاً لوجه مع أبنائهم العاطلين عن العمل، والمدمنين على المخدرات، والمهددين من الشرطة إذا غادروا المنزل وخرقوا الحجر الصحي. هذا الاندثار خلق حالة توتر وعنف غير مسبوق. النساء هن الضحية الأكبر، لكن لا أحد يعرف أشكال العنف الأخرى التي حدثت. هنا تحديداً يكشف كورونا أن إعادة التفكير في المسألة الاجتماعية من زاوية الحق في المدينة هي مهمة عاجلة وأكيدة.

_____________

1-Nassima Driss « Formes urbaines, sens et représentations : l’interférence des modèles » in Espace et sociétés 2005 /3 (n°122).
David le Breton, Disparaître de soi : une tentation contemporaine, Edition Métailié, Paris, 2015.-2

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس: الثورة تنقسم على نفسها

كان 17 كانون الأول/ ديسمبر هو لحظة تكثيف معارضة التونسيين لتوصيات مؤسسات التمويل العالمية التي كانت تونس أحد "تلامذتها النجباء"، والتي أفرزت شروخاً اجتماعية، وجيوشاً من العاطلين عن العمل، ولا...

تونس: مثقفون هاربون من السياسة

لم تكن النخب الثقافية في تونس تتوقع أن يحدث تغيير جذري يطيح بالنظام، بل أن يُحْدِث النظام إصلاحات سياسية تتعلق بحرية التعبير والتعددية السياسية. تهاوي النظام كان الصفعة القاسية لغالبيتها،...