تسعى السعودية للتوفيق بين هدفين أساسيين في سياستها النفطية: كيفية الحصول على العائدات المالية من خلال مبيعاتها النفطية التي تمكّنها من مقابلة التزاماتها الداخلية والخارجية الهائلة، وفي الوقت نفسه ألا يكون سعر البرميل مرتفعا لدرجة تؤثر سلبا على فرص حدوث انتعاش اقتصادي. ولهذا اعتمدت سعرا يتراوح بين 70- 80 دولارا، على أساس انه ملائم لكل من المنتجين والمستهلكين، كونه يوفر للفئة الأولى الموارد المالية اللازمة لمقابلة متطلبات حكوماتها، بل والإنفاق على المشاريع النفطية لضمان مقابلة احتياجات الأسواق. أما بالنسبة للمستهلكين، فهذا السعر يعتبر ملائما لكونه يسهم في ضبط الاستهلاك إلى حد ما، ويشجع من الناحية الأخرى على الاستثمار في مجالات الطاقة المتجددة. وقد تعزز هذا الهاجس منذ الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في العام 2008.
المنتج المرجِّح
إلى حد كبير، اعتمد نجاح السعودية في القيام بهذا الدور على تحملها، وبدون إعلان أو تكليف رسمي من قبل منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، عبء "المنتج المرجِّح" الذي يرتفع وينخفض بإنتاجه حسب حاجة السوق. ويساعد السعودية في ذلك وجود طاقة إنتاجية فائضة لديها تتراوح بين مليون ومليوني برميل يوميا، ومنْفذين تصديرين رئيسيين على الخليج والبحر الأحمر. وقد برزت هذه القدرة السعودية في لعب دور المنتج المرجح، بصورة جلية عدة مرات في تاريخ الصناعة النفطية، كان آخرها عندما أسهمت في التعويض عن تراجع الإنتاج الليبي في العام الماضي، وتراجع الإنتاج الإيراني حالياً.
تحملت الرياض عبء المنتج المرجح في مطلع عقد الثمانينات، عندما قررت أوبك وقتها، وللمرة الأولى، اعتماد سقف إنتاجي ونظام الحصص للدول الأعضاء، كان نصيب السعودية منها خمسة ملايين برميل يوميا، وذلك على أساس أنها المنتج المرجح. وتم ذلك لمواجهة ضعف الأسعار. لكن، وبسبب ضعف الوضع الاقتصادي العالمي، وتدفق الإمدادات من خارج أوبك، وعدم تقيد الدول الأعضاء بحصصها، فأن أسعار النفط واصلت التراجع، مما دفع السعودية إلى خفض إنتاجها باستمرار، حتى أصبح اقل مما يُنتَج في بحر الشمال، الأمر الذي دفعها إلى التخلي عن لعب ذلك الدور وعدم القبول به رسميا، مما أطلق ما عرف وقتها بحرب الأسعار التي شهدتها فترة منتصف الثمانينات، عندما تراجع سعر البرميل إلى أقل من عشرة دولارات.
بعد ذلك اعتمدت أوبك إستراتيجية زيادة نصيبها في السوق، وعدم التقيد بأي سعر رسمي، للتعويض عن خسارتها لمواقعها السابقة لصالح المنتجين الجدد في ألاسكا وبحر الشمال، وبعض صغار المنتجين الآخرين حول العالم. وبالفعل نجحت تلك الاستراتيجية. وعلى مدى عقد من الزمن، كانت حصة أوبك في السوق تزيد بمعدل مليون برميل يوميا كل عام. لكن في مطلع هذه الألفية، بدأ الطلب في الارتفاع مدفوعا بالنشاط الاقتصادي في الدول الآسيوية، وخاصة الصين والهند، مما انعكس تصاعدا متصلا في سعر البرميل قابلته أوبك بزيادة إنتاجها ودفع السعودية للعب دور المنتج المرجح من وراء الستار، لضبط السوق من خلال الإمدادات التي تتحكم بها. ووصل الأمر لدرجة بدأ فيها بعض المراقبين يقولون ان الاجتماعات الدورية للمنظمة، سواء في جنيف أو فيينا أو أحد الدول الأعضاء، تعتبر شكلية، لأن القرارات الأساسية تتخذها الرياض وحدها.
استهلاك أم تبذير
سيتعرض هذا الدور السعودي في العام المقبل إلى تحديين رئيسيين يمكن أن يتبلورا بصورة واضحة، خاصة وأنهما في حالة تشكُّل منذ فترة، ويمكن لتعاظمهما أن يؤثر في قدرة السعودية على الاستمرار في لعب دور المنتج المرجح. ويتمثل هذان العاملان في تنامي حجم الاستهلاك المحلي وتصاعد القدرات النفطية العراقية.
بدأت تصريحات بعض المسئولين السعوديين في تناول العامل الأول. فقد ذكر مرة وزير البترول والثروة المعدنية، المهندس علي النعيمي، أن السعودية تستهلك ضعف المتوسط العالمي من الطاقة لتحقيق معدلات الإنتاج الاقتصادي نفسها. وأن حجم الاستهلاك المحلي مرشح ليتضاعف في أقل من عقدين من الزمان. وقد أشار الأمير عبد العزيز بن سلمان، مساعد وزير البترول، إلى ضرورة الترشيد في قطاع الكهرباء الذي يعتمد على النفط الخام إلى حد كبير، قائلا أن القطاع السكني يلتهم نحو 80 في المئة من الاستهلاك الكهربائي وأن 70 في المئة من هذا يستخدم في التكييف. ويأتي في المقام الثاني للاستهلاك قطاع النقل، إذ يقدر أن بالسعودية نحو تسعة ملايين مركبة، وتزداد سنويا بمعدل 4 إلى 5 في المئة.
وفي العام الماضي، أصدر المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن، المعروف اختصارا ب"شاتام هاوس" تقريرا بعنوان "حرق النفط لتبريد الأجواء: أزمة الطاقة المستترة في المملكة العربية السعودية"، خلص فيه إلى أن استمرار الاستهلاك النفطي الداخلي بالمعدلات الحالية يشكل تهديدا لقدرات البلاد التصديرية مستقبلا، وبالتالي لمكانة السعودية في سوق النفط العالمية، مع كل ما يعنيه هذا من تبعات مالية وسياسية واجتماعية، خاصة وأن عائدات النفط تمثل أكثر من 80 في المئة من إيرادات الدولة.
وأشار التقرير إلى أن معدل النمو السنوي في الطلب الداخلي على النفط يبلغ نحو 7 في المئة، وانه إذا استمرت هذه النسبة ثابتة فأن الاستهلاك الداخلي للطاقة سيتضاعف في غضون عشر سنوات، مما يؤثر على الطاقة الإنتاجية الفائضة التي تتمتع بها السعودية التي تتيح لها القدرة على القيام بدور المنتج المرجح. فأنماط الاستهلاك السائدة حاليا تسهم في أن حوالي 2.8 مليون برميل يوميا تذهب إلى مقابلة الاحتياجات المحلية. ويذهب التقرير إلى أن استمرار هذه المعدلات سيجعل السعودية دولة مستوردة للنفط بحلول العام 2038. وليس بالضرورة أن يتحقق هذا السيناريو، وإنما هو يشير إلى الحاجة لتغيير أنماط الاستهلاك أو التوجه إلى معالجة هذه القضية. فهذه التقديرات تقوم على الحقائق القائمة للصناعة النفطية السعودية، أي بدون حدوث اكتشافات نفطية جديدة أو بروز معدلات إنتاجية جديدة.
ووفقا للمعلومات المتوفرة، فأن حجم الاستهلاك الداخلي في العام 2010 بلغ ما يعادل 4 ملايين برميل "نفط مكافئ" (الذي يحتسب من تحويل كل أنواع الطاقة، من فحم وغاز وحتى نفط، وتجميعها كلها ليمكن حسابها وكأنها برميل نفط). وهذا الحجم يقابل ما استهلكته بريطانيا في الوقت نفسه، مع الأخذ في الاعتبار أن سكان بريطانيا يمثلون أكثر من ضعفي سكان السعودية، إلى جانب الفرق في حجم النشاط الاقتصادي بين البلدين.
فالطاقة الإنتاجية الحالية للسعودية تبلغ 12.5 مليون برميل يوميا، والإنتاج الفعلي من نفط خام وسوائل يتراوح بين 9 إلى 10 ملايين برميل يوميا، يتم تصدير ما بين 6 إلى 7 ملايين برميل يوميا منها حسب حاجة السوق. ووفقا لبعض التقديرات، وأخذا لمعدلات الاستهلاك الداخلي المرتفعة، فأنه من المتوقع سحب مليوني برميل يوميا، كانت تذهب إلى الصادرات، وتوجيهها لمقابلة الاحتياجات المحلية في أقل من عشر سنوات. بل أن تقرير "تشاتام هاوس" المشار إليه ينقل عن بعض مسئولي أرامكو احتمال سحب ثلاثة ملايين برميل وتوجيهها إلى الداخل بحلول العام 2028، وذلك ما لم يتم كبح جماح الطلب الداخلي.
من أحد أسباب نمو الطلب الداخلي ضعف أسعار البيع، إذ يتراوح سعر ليتر البنزين ما بين 0.12-0.16 دولار، والجازولين 0.067 لليتر، وهو ما يجعله الأرخص بين دول مجلس التعاون الخليجي، مما يجعل نحو 10 في المائة من كميات النفط المباعة تتسرب إلى الخارج عبر تعبئة خزانات وقود السيارات المسافرة.
وفي تقديرات لوكالة الطاقة الدولية حول سيناريوهات السياسات الجديدة، سيبلغ إنتاج السعودية من النفط الخام وسوائل الغاز الطبيعي 10.9 ملايين برميل يوميا في 2020 و 11.6 ملايين في 2025، بينما سيتصاعد حجم الاستهلاك المحلي إلى 4.5 ملايين برميل في 2020، و 6.1 ملايين في العام 2025.
البدائل: شمس ونووي؟
احد خيارات مواجهة هذا الوضع هو الاتجاه إلى ميدان الطاقة المتجددة، وهو اتجاه اكتسب دفعة قوية خلال الأعوام الثلاثة الماضية من خلال إنشاء مدينة الملك عبد العزيز للطاقة الذرية والمتجددة. ومن المشروعات التي يُعمل عليها بناء محطة لتحلية المياه تعمل بالطاقة الشمسية، وكذلك افتتاح أول محطة للطاقة الشمسية ترتبط بشبكة توزيع الكهرباء بقدرة إنتاجية تبلغ 500 كيلووات، وذلك في إطار مشروع سعودي- ياباني أقيم في جزيرة فرسان، وربطها بكهرباء جيزان في جنوب السعودية. ومن جانبها، وضعت شركة أرامكو خطة بهدف توليد 7- 10 في المئة من الكهرباء عبر استخدام مصادر متجددة للطاقة بحلول العام 2020، وتم الاتفاق مع شركة استشارية سويدية للمساعدة على رسم إستراتيجية شاملة للطاقة المتجددة وبرنامج لتشييد 16 مفاعلا نوويا كدفعة واحدة بحلول العام 2030، بهدف تأمين 20 في المئة من الطلب على الكهرباء. وينبغي الانتظار لمعرفة ما ستنتهي إليه هذه الجهود على أرض الواقع، وإذا كان يمكن أن تسجل اختراقا ملموسا يؤثر في حجم النفط المستهلك محليا.
المنافسة العراقية
أما التحدي الثاني للسعودية فيختص بنمو حجم الصادرات العراقية التي بدأت تتخلص من أرث سنوات طويلة من العقوبات والحظر، الذي منع الشركات الغربية من العمل، وأثر بالتالي على البنية الأساسية لصناعة النفط العراقية من حقول وخطوط أنابيب ومرافق تحميل. تصاعد الإنتاج العراقي إلى قرابة ثلاثة ملايين برميل يوميا، بل وحقق الإنتاج هذا العام إضافة بلغت 650 ألف برميل يوميا، وهي الأكبر منذ 14 عاما. ووفقا للخطط الموضوعة، يُتوقع للإنتاج أن يبلغ 3.7 ملايين برميل يوميا العام المقبل، ما يؤكد موقع العراق كالمنتج الثاني في أوبك بعد السعودية، علما أن أعلى معدل إنتاجي وصل إليه العراق كان 3.8 ملايين برميل يوميا في العام 1979. هذا التصاعد يعود في جانب منه إلى نشاط الشركات العالمية، والغربية تحديدا، وإنفاقها نحو 100 مليار دولار في الاستثمار في القطاع، وكذلك إلى تبني العراق سياسة تشجيع الشركات من خلال ضمان عائد مالي محدد سلفاً ومجز لها، بغض النظر عن سعر البرميل في السوق العالمية.
تقدر الاحتياطيات النفطية العراقية بنحو 143 مليار برميل، الأمر الذي يؤهل بغداد للعب دور رئيسي على الساحة النفطية. لكن التصاعد في إنتاج النفط العراقي سيظل محكوما بعاملين، أولهما نجاح الصناعة النفطية العراقية في تجاوز عقبات الوضع الأمني، والصراع بين الحكومة المركزية والأقاليم، وحقوق الأخيرة في التعامل المباشر مع الشركات النفطية، والنجاح في أعادة تأهيل مرافق الصناعة النفطية المختلفة. أما الأمر الثاني فيتمثل في كيفية إدخال العراق في نظام الحصص الذي تتقيد به دول أوبك. وكان قد تم استثناء العراق بسبب ظروف الحظر التي كان يعيشها، وتعطيل إنتاجه في بعض الفترات. لكن بغداد تعتبر أن حجم إنتاجها قضية سيادية ليس لأوبك شأن بها، الأمر الذي يعني فتح الباب للخلاف السياسي. وحتى إذا وافقت بغداد على الدخول في نظام الحصص، فإن تحديد حصة يتطلب الكثير من المفاوضات، وربما أعيد طرح موضوع حصص كل الدول الأعضاء بمجمله على طاولة النقاش مجددا، وهو ما ظلت أوبك تتجنبه كلما استطاعت.