تميزت الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة بين باراك أوباما وميت رومني بخاصية أساسية لم تشهدها المنافسات المماثلة لأكثر من أربعة عقود من الزمان. فقد جرى تركيز المقترحات في ما يخص قضية الطاقة على كيفية استخدام الموارد المتوفرة، لا على تلك المتناقصة التي كانت تسحب النقاش الى مسائل أكثر حساسية، مثل تحقيق استقلالية الولايات المتحدة عن النفط الأجنبي المستورد.
فمنذ الحظر العربي النفطي الشهير في العام 1973، اثر الحرب العربية الإسرائيلية وقتها، والإدارات الأميركية المتعاقبة تسير على خطى الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في كيفية تقليص واردات البلاد من النفط الأجنبي الذي يهدد بتضييق خياراتها السياسية وحركتها. على ان تلك الجهود لم تحقق نجاحا يذكر طوال هذه الفترة، بدليل ان نسبة اعتماد واشنطن على النفط المستورد ظلت في ارتفاع مستمر من 36.1 في المئة أيام نيكسون في 1974، الى 43.6 في المئة في عهد رونالد ريغان في 1981، ثم 47.2 في المئة أيام جورج بوش الأب في 1992، و49.8 في المئة أثناء إدارة بيل كلينتون الأولى في 1995، ثم لتستقر عند 60 في المئة عندما دخل أوباما البيت الأبيض في العام 2008.
انخفاض أهمية نفط الشرق الاوسط
على ان السنوات الأربع الماضية شهدت تغييرا نوعيا في تركيبة مشهد الطاقة في الولايات المتحدة وعلى المسرح العالمي، مما يؤذن بتغييرات يمكن أن تعيد رسم الخريطة التي تبعت اللقاء الشهير بين تيودور روزفلت والملك عبد العزيز بن سعود في البحيرات المُرَّة في أربعينيات القرن الماضي، إثر الحرب العالمية الثانية. وهو اللقاء الذي أكد محورية منطقة الشرق الأوسط بصفتها خزان الاحتياطي النفطي العالمي.
لكن الساحة النفطية العالمية بدأت تشهد تطورات جديدة تؤذن بحدوث نقلة في ما يتعلق بالتركيز والاهتمام العالمي على منطقة الشرق الأوسط، والاتجاه غربا الى المحيط الهادئ. وتتمثل هذه المتغيرات في تطورين رئيسيين: الاول هو الإنتاج المتزايد من نفط الرمال الذي تصدرته ولاية البيرتا الكندية، تتبعها ولايتا شمال داكوتا وتكساس الأميركيتين، حيث نجحت التقنية الجديدة باستخدام التكسير الهيدرولوجي عبر استغلال ضغط المياه الى جانب بعض الكيماويات في إحداث اختراق تمكن من الوصول الى مكامن ضخمة من النفط والغاز كانت حبيسة الصخور. والثاني هو التقدم الهائل الذي شهدته إمكانيات العمل والحفر في المياه العميقة حتى الطبقة قبل الملحية، مثلما هو حادث في البرازيل.
تأتي هذه المتغيرات نتيجة لتطورات غير مترابطة تشمل من ناحية الجانب التقني، ومن ناحية ثانية قوانين العرض والطلب. ثم لعبت السياسات التي وضع أسسها ديك تشيني نائب بوش دورا غير مباشر، إذ سعت الى فتح الأراضي الفيدرالية أمام عمليات التنقيب عن النفط، رغم اعتراضات جماعات البيئة، وكذلك تقديم الحوافز الضريبية للشركات التي تسعى الى الإنتاج المحلي وتوفير بدائل غير تقليدية للنفط المستورد. وكانت اللجنة التي ترأسها ديك تشيني، قد بدأت في وضع برنامج للطاقة بعد أسبوعين فقط من دخوله البيت الأبيض في العام 2000، وهي أثارت لغطا كبيرا بسبب ارتباطات كل من بوش وتشيني النفطية، والشعور العام انهما يحابيان الشركات على حساب المستهلكين وقضايا البيئة. ورغم أن أوباما أطلق وعودا كثيرة في ما يتعلق بالطاقات الجديدة والمتجددة وحماية البيئة، إلا انه استمر في السياسات التي رسمها سلفه وبدأت تؤتي أكلها في شكل زيادة في الإمدادات المحلية.
وأسهم في هذا أمران، الأول ان أسعار الوقود المرتفعة دفعت المستهلكين الى تقليل استخداماتهم واللجوء الى السيارات الأكثر فعالية في ما يتعلق بالوقود. إلا أن السبب الثاني هو الاهم، فالتصاعد في سعر البرميل (الذي بلغ القمة في صيف العام 2008 عندما وصل الى 147 دولارا)، جعل كلفة استخدام تقنية التكسير الهيدرولوجي اقتصادية. وكان قد تم التوصل اليها عندما كان سعر البرميل في حدود 30-40 دولارا. لكن بمضاعفة السعر بعد ذلك، أصبح من اليسير الإنفاق على مثل هذه التقنية واستخدامها بصورة مكثفة لأنها أصبحت تعطي هامشا ربحيا أكبر بالأسعار السائدة، الى جانب توفير إمدادات منتجة محليا، مما يعزز من الإحساس بأمن الطاقة.
إمدادات من مصادر غير تقليدية
نتائج هذه التطورات الثلاثة أنها أدت وتؤدي الى نمو ملحوظ في الإمدادات من مصادر غير تقليدية. وتشير الأرقام الى أن استخراج نفط الرمال الذي يبلغ متوسط حجمه في الوقت الحالي مليوناً ونصف المليون برميل يوميا، يتوقع له أن يتضاعف الى ثلاثة ملايين برميل في العقد المقبل، خاصة اذا حسمت إدارة أوباما في ولايتها الثانية موضوع خط الأنابيب الذي يمتد على مسافة 1700 كيلومتر، من ألبيرتا وحتى تكساس، مما سيجعل كندا أكثر إنتاجا من إيران، وتحتل المرتبة الخامسة عالميا بعد روسيا والسعودية والولايات المتحدة والصين في ما يتعلق بالإنتاج النفطي.
وبالنسبة لاستخلاص النفط من المياه العميقة في البرازيل، فإن التقديرات تشير الى ان حجم الإنتاج يمكن أن يبلغ خمسة ملايين برميل يوميا. وبالتالي سيصل الإنتاج البرازيلي الى ضعف ما تنتجه فنزويلا، التي شكلت في وقت من الأوقات إحدى دعامات أمن الطاقة الأميركي.
أما الإنتاج الأميركي غير التقليدي الذي كان محبوسا في الصخور ويستخرج عبر التكسير الهيدرولوجي، فكان قبل ثماني سنوات في حدود 10 آلاف برميل يوميا، وهو بلغ اليوم نحو نصف مليون برميل، ويتوقع له أن يرتفع الى ثلاثة ملايين برميل يوميا بحلول العام 2020، أو ما يعادل ثلث الإنتاج النفطي المحلي في أفضل أوقات أداء ذلك الإنتاج حين بلغ الذروة في العام 1970 بحجم بلغ 9.6 ملايين برميل يوميا، ثم بدأ في التراجع حتى استقر عند 4.9 ملايين قبل أربع سنوات، ثم بدأ في الارتفاع مجددا الى 5.7 ملايين برميل يوميا. وتشير مصادر وزارة الطاقة الأميركية الى إمكانية بلوغ حجم الإنتاج سبعة ملايين برميل على الأقل في مطلع العقد المقبل، أي في غضون سبع سنوات.
إحدى نتائج نمو الامدادات المحلية هو التراجع في نسبة الواردات من النفط الأجنبي الى 40 في المئة من حجم الطلب الداخلي بدلاً من 60 في المئة. وهي أقل نسبة في غضون عقدين، مما أدى الى تقليص الاستيراد من دول منظمة الأقطار المصدرة للنفط بنسبة 20 في المئة خلال السنوات الثلاث المنصرمة.
منذ أيام نيكسون!
استراتيجية تقليل الاعتماد على النفط المستورد الموضوعة منذ أيام نيكسون تقوم على الاستغناء عن النفط العربي في مرحلة أولى، ثم عن نفط أوبك بعد ذلك، وأخيراً عن أي نفط مستورد. كما ان إنتاج الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي، الذي كانت تظلله مخاوف الانقطاع تحول الى التخمة. فقد بلغت المنتجات المكررة في المصافي مرحلة من الوفرة لدرجة البحث عن أسواق خارجية للتصدير، خاصة في أوروبا وآسيا، وذلك لأول مرة منذ عهد إدارة الرئيس الأسبق هاري ترومان.
وفي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، فاجأ العالم فاتح بيرول، كبير الاقتصاديين في الوكالة الدولية للطاقة، بإعلانه في مؤتمر صحافي في لندن أن الولايات المتحدة في طريقها لتجاوز روسيا كأكبر منتج للغاز في غضون ثلاثة أعوام، واحتلالها مرتبة أكبر منتج للنفط الخام في غضون سنوات خمس، متجاوزة بذلك كلا من روسيا والسعودية، ومتجاوزة بذلك تقديرات سابقة للوكالة نفسها.
ورغم التأثير المتوقع لهذه التطورات على المشهد الأميركي المحلي، إلا ان هذا لا يعني تلقائيا أن الولايات المتحدة ستكون في مأمن من متاعب سوق النفط العالمية وتقلباتها، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما ان سوق النفط بطبيعتها تعتبر سوقا عالمية، وسعر البرميل لا يتحدد بتوافر العرض محليا فقط وإنما تدخل فيه عوامل لا يغيب عنها البعد السياسي والاستراتيجي. ولهذا فأي انقطاع في الإمدادات في نيجيريا مثلا، بسبب الاضطرابات في دلتا النيجر، أو تقلص حجم الإمدادات الإيرانية الى الأسواق بسبب المقاطعة الغربية، ستنعكس تلقائيا على سعر البرميل حتى داخل الولايات المتحدة. لذا ظل سعر الغالون بالنسبة للمستهلك يقارب الدولارات الأربعة، رغم زيادة الإنتاج المحلي. أما السبب الثاني فيعود الى أن إحداث تأثير داخلي في ما يتعلق بالإمدادات والاسعار يتطلب درجة كبيرة من العزلة السياسية والاقتصادية لا تسمح بها حالة العولمة التي تسود، ووضعية الولايات المتحدة كدولة كبرى ومؤثرة، تمتد أصابعها وأساطيلها حول العالم في مهام سياسية وعسكرية واقتصادية. وهكذا، وحتى اذا نجحت في تأمين احتياجاتها بالكامل، فإن انشغالات الولايات المتحدة الأخرى ببقية العالم، وتحالفاتها وعداواتها ستدفعها الى الاهتمام بما يجري على الساحة النفطية. لكن يدها ستكون أكثر حرية مما لو كان اعتمادها على النفط المستورد في تصاعد، كما كان الأمر عليه من قبل.
مزيد من تلويث البيئة
من جانب آخر، فإن هذا التطورات، خاصة في المشهد المحلي الأميركي، ستدفع الى إبراز القضايا البيئية الى مقدمة المشهد السياسي. ورغم أن أوباما سار على خطى سلفه في تنفيذ السياسات الهادفة الى زيادة الإنتاج المحلي وفتح الأبواب أمام الواردات الكندية من نفط الرمال، برغم الجدل الذي يثيره أنصار البيئة، إلا ان تزايد الضغط دفعه في مطلع هذا العام الى تجميد العمل في خط الأنابيب الذي ينقل نفط الرمال الكندي خاصة. وهذا النوع من النفط يضيف نسبة تتراوح بين 5 و15 في المئة من التلوث الذي يتجاوز التأثير الناجم عن حرق برميل النفط العادي. وبدأت حملات في مناطق أميركية عدة تشير الى التأثير السلبي لنفط الرمال على نوعية الهواء الذي يستنشقه الناس. واذا أضيفت الجماعات المهتمة بالمناطق البرية في ألاسكا والحيوانات القطبية النادرة التي تعيش في المناطق التي تعتبر فيدرالية، حيث تضغط شركات النفط ليتم فتحها أمام أنشطتها، بينما يرى أنصار البيئة انها تشكل خطرا بيئيا على الانسان والحيوان... يبدو من ذلك كله أن هناك احتمالا قويا لحدوث مواجهات سواء على المستوى الفيدرالي أو على مستوى الولايات، يمكن أن يلقي بظلاله على وضع الامدادات الداخلية في ما اذا تأثرت هذه العمليات بسبب ضغوط اللوبيات المناوئة المختلفة.
الحرب العالمية ما زالت دائرة
وفي واقع الأمر، فإنه حتى في قمة لجوئها الى النفط الأجنبي، كانت نسبة الاعتماد الاميركي عليه أقل من وضع حلفاء واشنطن الأوروبيين واليابان. لكن هذا الوضع لم يكن مريحا للولايات المتحدة على المستويين السياسي والاستراتيجي. ويظهر هذا في معارضة إدارة الرئيس الأسبق ريغان للاتجاه الأوروبي الى استخدام الغاز الروسي. فالأمر الذي كانت تتخوف منه واشنطن هو أن يصبح ذلك الغاز مجالا للتأثير الروسي على الشؤون الأوروبية وعلى حساب واشنطن. ومع ان تصدع الاتحاد السوفياتي في ما بعد قلص من حجم هذا القلق السياسي، إلا أن طموحات فلاديمير بوتين، ومخططاته الحالية الكبرى للنقل عبر القطب الشمالي (مضيق بيرينغ) بما يمكنه تغذية أوروبا واليابان، ينظر عليه أميركياً كمسعى لاستخدام ورقة النفط والغاز لبعث أمجاد موسكو وطموحاتها السياسية. وهذا يسهم في تجديد مظاهر القلق الأميركية.