انفصال جنوب السودان، الذي جعل «الحركة الشعبية» تنتقل من خانة الحركة المتمردة إلى مسؤولية إدارة دولة من ناحية، وعامل النفط من ناحية أخرى، حيث صدفة الجيولوجيا جعلت معظم الاحتياطيات في جنوب السودان، بينما صدفة الجغرافيا جعلت المنفذ إلى الأسواق يمر عبر السودان، هذه المعادلة غلَّبت مقياس المصالح، وبناء العلاقات على أساسها على اعتبارات الايديولوجيا. وهكذا وقَّع السودان وجنوب السودان، في آخر شهر أيلول/سبتمبر الماضي، في أديس أبابا، ثماني اتفاقيات تناولت معظم القضايا المعلقة منذ انفصال السودان إلى دولتين في يوليو/تموز من العام الماضي، بينما لم تحسم قضيتين أساسيتين، هما ترسيم الحدود ومنطقة آبيي. ولم يكن ذلك ممكنا لولا أن سادت فكرة بأن استقرار وتطور أحدى الدولتين يعتمد على استقرار الأخرى وقابليتها للحياة والتطور سياسيا واقتصاديا.
شملت الاتفاقيات الثماني أطاراً عاما للتعاون بين البلدين وقعه الرئيسان عمر البشير وسلفا كير، وثانياً عن وضع مواطني كل بلد في القطر الآخر تضمن كفالة الحريات الأربع: التنقل والتملك والإقامة وممارسة الأنشطة الاقتصادية، ثم الاتفاق الخاص بالنفط ورسوم عبوره. واختصت الاتفاقية الرابعة بالترتيبات الأمنية، وتعلقت الخامسة بالحدود، ثم قضايا اقتصادية متنوعة...
النفط والامن
الاتفاقيتان الخاصتان بالنفط والترتيبات الأمنية حظيتا بالاهتمام الأكبر، وذلك بسبب اعتماد اقتصاد البلدين على العائدات النفطية. وبسبب النزاع حول الرسوم وما تفرع عنه من خلافات أخرى، سياسية وأمنية، فقد قامت جوبا بخطوة غير متوقعة في يناير/كانون الثاني الماضي 2012 فأوقفت أنتاج النفط، الأمر الذي أدخل البلدين في مرحلة من الإيذاء المتبادل أدى إلى تسريع عمل الوساطة التي يقودها الاتحاد الأفريقي المستعين بمجلس الأمن. وهذا وضع سقفا زمنيا للبلدين للتوصل إلى اتفاق مع التهديد بعقوبات تحت الفصل السابع! وفي نهاية تلك الفترة، في آب/ أغسطس الماضي، ضغطت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون على جوبا للتوصل إلى اتفاق، وهو ما حدث. لكن الخرطوم علَّقت تنفيذ الاتفاق البترولي على التوصل إلى اتفاقيات في الملفات الأخرى، وعلى رأسها الترتيبات الأمنية، وفك الارتباط مع المتمردين في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، الذين كانوا جزءا من «الحركة الشعبية» قبل انفصال الجنوب.
الاتفاق الخاص بالنفط ابتدأ بالنص على اعتماد المبدأ الجغرافي في توزيع الأصول في القطاع البترولي، أي أن المنشآت التي تقع جغرافياً داخل حدود السودان تؤول إليه، وتلك الواقعة في جنوب السودان تعود ملكيتها إلى الجنوب. وبموجب هذا، أصبحت مرافق العمليات النهائية، من مصاف وخطوط أنابيب ومراكز المعالجة وميناء التحميل تابعة للسودان، كما أن حقول النفط الموجودة في جنوب السودان أصبحت مملوكة له. ولهذا كان لابد من الاتفاق على رسوم العبور التي حددت بمبلغ 9,10 دولار للبرميل المنقول عبر الأنبوب الشرقي، و 10,46 دولار للبرميل المنقول عبر الأنبوب الغربي. هذا إلى جانب ما يُعرف بالترتيبات المالية الانتقالية، وبموجبها التزمت جوبا بدفع مبلغ 3،028 مليار دولار بواقع 15 دولارا من كل برميل يتم تصديره، وذلك لتغطية ثلث الفجوة المالية الناجمة عن انفصال الجنوب وذهاب عائدات النفط. ويُفترض أن يقوم المجتمع الدولي بتوفير مبلغ مماثل، وتتولى الحكومة السودانية عبر إجراءات اقتصادية داخلية مقابلة الجزء الثالث والأخير. وبموجب هذا الاتفاقية التي ستستمر لثلاث سنوات ونصف، سيحصل السودان على 25 دولارا تقريباً عن كل برميل تقوم جوبا بتصديره.
أما اتفاق الترتيبات الأمنية، فيبدأ بالتأكيد على نبذ العنف أو اللجوء إلى الحرب، وعدم دعم أي مجموعات متمردة، ووقف الحملات الإعلامية التحريضية المتبادلة، وإقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 10 كيلومترات على جانبي الحدود على البلدين، وسحب قوات الحركة الشعبية من منطقة «14 ميل» لتُضم إلى المنطقة المنزوعة السلاح. وهذه منطقة حدودية بين قبيلتي الرزيقات السودانية ودينكا ملوال من جنوب السودان، وسيترك لهما أمر أدارة شؤونهما القبلية. كان هذا الملف من أصعب الملفات، إذ بسببه تعطَّل العمل في بقية القضايا العالقة. وقد أضطر الرئيسان إلى التفاوض لخمسة أيام متواصلة حتى أمكن الاتفاق على كيفية تحديد المنطقة العازلة، بسبب اعتراض السودان على الخريطة التي قدمها وسطاء الاتحاد الأفريقي وضمَّت منطقة «14 ميل» إلى جنوب السودان. وكان الحل الذي اتُفق عليه في النهاية أن تصبح منزوعة السلاح، وتُسحب منها قوات الحركة الشعبية بانتظار التوصل إلى ترتيبات نهائية.
مآل الأصول والديون
وفي الاتفاق الخاص بالقضايا الاقتصادية الأخرى، أعتمد الطرفان مبدأ أن تتحمل الدولة الأم، وهي السودان في هذه الحالة، كل الأصول الخارجية والديون التي تقدر بنحو 40 مليار دولار، على أن يستمر هذا الالتزام لفترة عامين يَعمل خلالهما البلدان سويا مع المجتمع الدولي لإعفاء هذه الديون، وتسريع برامج العون لجنوب السودان لمساعدته على البناء، وحث المجتمع الدولي على توفير ثلث الفجوة المالية الناجمة عن الانفصال، وكذلك رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان. وفي حالة عدم النجاح في إعفاء الديون، تعود الدولتان إلى التفاوض مجددا حول كيفية مواجهة هذا العبء.
الحدود
يكتسب الاتفاق الخاص بالحدود أهميته بسبب امتدادها على مسافة 2135 كيلومترا، هي الأطول في الدولتين مقارنة مع حدودهما مع الدول الأخرى. كما تضم الولايات العشر على الجانبين، وهي خمس في السودان وخمس في جنوب السودان، ثلث السكان في البلدين، ومصادر متنوعة من الثروة النفطية والزراعية والحيوانية، الأمر الذي يجعل السعي لجعلها حدودا مرنة أمراً حيوياً، وتأطير التعاون سياسيا وأمنيا وإداريا عبر مؤسسات مختلفة مثل منتدى حكام هذه الولايات.
وخلاصة، لقيت الاتفاقيات الثماني ترحيبا متفاوتا، إذ لم يرتح البعض في السودان لفكرة تمتع الجنوبيين بالحريات الأربع، وهم الذين صوتوا بصورة شبه اجماعية على الانفصال. أما في الجنوب، فأن أصوات المعارضة كانت أعلى، بل وانطلقت من بعض المسؤولين، مثل حاكم ولاية شمال بحر الغزال الذي تقع منطقة «14 ميل» ضمن إدارته. ومع أن التوقع الغالب أن الاتفاقيات ستتم أجازتها مثلما حدث فعلا من مجلسي الوزراء في البلدين، وفي انتظار المصادقة عليها من قبل برلماني البلدين، إلا أن الطريق ليست سالكة كليا، خاصة وأن قضيتي آبيي وترسيم الحدود لا تزالان تنتظران الحسم.
كشمير السودان
منطقة آبيي المتنازع عليها بين قبيلتي المسيرية السودانية ودينكا نقوك من جنوب السودان، كانت واحدة من أعقد القضايا التي واجهت اتفاقية السلام في 2005، حتى أفرد لها بروتوكول خاص بها، واتفق على إجراء استفتاء لتحديد انضمامها إلى جنوب السودان أو بقائها مع السودان كما هو الواقع الحالي. لكن تعريف من يحق له المشاركة في الاستفتاء ظهر كعقبة. ويزيد في صعوبة وحساسية هذه القضية وجود مجموعة من أبناء آبيي في مراكز قيادية في الحركة الشعبية، وغيرهم في قيادات الجيش والاستخبارات في دولة الجنوب. وذهاب آبيي إلى السودان يعني خسارة هذه المجموعة للقاعدة السكانية التي تستند عليها سياسيا، ومن مصلحتها من ثمَّ ألاَّ يتم التقدم على بقية الجبهات. وهذا يعني ترك قضية آبيي عالقة، والتوصيف الذي أصبح يطلق عليها أنها تمثل «كشمير السودان».
ومع أنه تم الاتفاق على ترسيم نحو 80 في المئة من الحدود، إلا أن البقية تمثل أكثر المناطق سخونة وجذبا للنزاع، خاصة أنها مناطق تداخل قبلي، وفي بعضها موارد طبيعية. على أن النزاع حول الحدود لا يشكِّل في حد ذاته عقبة أمام وجود علاقات طبيعية. فللسودان إشكالات حدودية عالقة مع مصر حول حلايب، ومع أثيوبيا حول منطقة الفشقة، ومع كينيا حول مثلث أليمي قبل الانفصال، وهو إشكال ورثته دولة جنوب السودان. وعليه يصبح السؤال هو المدى الذي يمكن للبلدين فيه تجاوز هذه النقطة ووضعها في الأطر الفنية والإدارية وضبطها سياسيا كي لا تصبح بؤرة توتر ونزاع بين الدولتين.
كل هذا يعتمد بالطبع على بناء الثقة بين البلدين، واعتبار معيار المصالح المشتركة هو الأقوى. ولهذا تمثل الاتفاقيات، ولو على المستوى النظري، نقلة في تاريخ الصراع من خانة الايدولوجيا إلى مربع المصالح. فالصراع بين شمال السودان وجنوبه كان في بعض وجوهه صراع هوية، ولجأ الجانبان إلى الاستنصار كلٌ بما يستطيع، وتصوير ما يجري على أساس انه هجمة لفرض الإسلام والعربية على سكان الجنوب، بينما اعتبرت الكثير من القوى السياسية الشمالية الصراع بأنه هجمة غربية تستهدف هوية البلاد. وقد تبلور الصراع بوجود القوتين الرئيسيتين سياسيا: المؤتمر الوطني وريث الجبهة الإسلامية القومية، والحركة الشعبية، اللذان يقفان في أقصى طرفي المسرح السياسي السوداني ايدولوجيا. ولكن الاتفاقيات الموقعة تثبت أن التسويات ممكنة رغم كل شيء، بل هي ضرورية في حالات النزاعات التي تمتلك الكثير من الخصائص الداخلية والأهلية.