في مطلع آب/ أغسطس الماضي، وبعد انقضاء المهلة التي حددها مجلس الأمن لدولتي السودان وجنوب السودان للتوصل الى اتفاقات حول القضايا العالقة بينهما نتيجة الأنفصال، حدث اختراق في ملف النفط، وهو الذي كاد يودي بالبلدين ويشعل بينهما حرباً شاملة، بعدما تسبب بتوترات عنيفة وبمواجهات دموية. حدث «الاختراق» بعد ضغوط مارستها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، أثر زيارة بضع ساعات قامت بها الى جوبا، عاصمة جنوب السودان. ويعيد هذا الحدث تركيز الضوء على جانب من جوانب اشتغال العامل النفطي في السودان.
أكتسبت عمليات البحث عن النفط في السودان زخما ملحوظا وحققت نتائج فعلية في سبعينيات القرن الماضي عن طريق شركة شيفرون الأميركية، التي دخلت الى البلاد مدفوعة بعاملين: اتجاه الشركات النفطية الى التنقيب خارج المناطق التقليدية في الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) اثر الارتفاع غيرالمسبوق لسعر البرميل وقتها بسبب الحظر العربي على النفط الذي صحب الحرب العربية ـ الأسرائيلية في العام 1973. أما العامل الثاني فيتمثل في العلاقات الجيدة وقتها بين الولايات المتحدة ونظام الرئيس الأسبق جعفر النميري، لدرجة دفعت أول مبعوث لشركة «شيفرون» أُرسل الى السودان لتقييم الأوضاع، بيل شابمان، ليقول في تقريره ان العلاقات بين البلدين تجعل من الاستثمارات الأميركية في السودان الأفضل وضعاً في المنطقة مقارنة بالكثير من الدول المماثلة عربياً وأفريقياً.
إسهامات «شيفرون» الثلاثة
دخول «شيفرون» الى الساحة النفطية السودانية تميز بثلاثة اسهامات أساسية: أنها نقلت عمليات التنقيب الى غرب وجنوب شرق البلاد بعد ان كانت كل الأنشطة السابقة تتركز على ساحل البحر الأحمر، وذلك على أساس انه الأقرب الى منطقة الخليج التي تحتوي على أكبر احتياطيات النفط في العالم. أما الأسهام الثاني للشركة الاميركية فيتمثل في إقناعها السودان باللجوء الى الصيغة القانونية لاتفاقيات قسمة الإنتاج، بدلا من الصيغة التي كانت تعتمدها الحكومة السودانية وقتها، والقائمة على حساب العوائد الجليلة والأرباح. وتقوم اتفاقية قسمة الإنتاج على أساس قيام الشركة المعنية بتحمل كافة مخاطر التنقيب عن النفط وحدها، واذا تمت أكتشافات تجارية يتم تقسيم الإنتاج الى قسمين، الأول يدعى «زيت التكلفة»، حيث يتم حسم التكاليف التي تحملتها الشركة حتى انتاج النفط، والجزء الثاني ويطلق عليه «زيت الربح» ويمنح نسبة أكبر لصالح الحكومة وأقل للشركة، ربحا لها على استثمارها في المشروع. أما الإسهام الثالث لشيفرون في السودان فيتلخص في الكم الكبير من المعلومات الفنية التي توفرت نتيجة عملياتها، خاصة في ما قسِّم الى «مربعات» من بينها المربعات السبعة التي تحتويهاالمناطق الأربع المنتجة للنفط التي شكلت عصب الصناعة النفطية السودانية، وأسهمت من ناحية في مقابلة احتياجات الاستهلاك المحلي، ومن ناحية ثانية في تمكين السودان من الأنضمام عضوا في نادي الدول المصدرة للنفط في نهاية آب/أغسطس 1999.
على ان المفارقة تمثلت في ان «شيفرون» لم تحصد نتائج عملها ذاك، الذي آل ثمرة ناضجة الى شركات أخرى آسيوية، صينية وماليزية بالأساس، وذلك بسبب العامل السياسي. فالعلاقة السياسية القوية بين النميري وواشنطن بدأت في التدهور منذ مطلع الثمانينيات، أثر تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية في السودان التي أدت الى عودة التمرد الجنوبي المسلح هذه المرة تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الدكتور جون قرنق. قررت الحركة أن تكون واحدة من أولى عملياتها وقف نشاط شيفرون وذلك خوفا من أن يؤدي النجاح في بدء تصدير النفط الى تعزيز وضع حكومة النميري السياسي والاقتصادي. ونجحت بالفعل، بعدما قامت في شباط/ فبراير 1984 بهجوم على معسكر شيفرون نتج عنه مقتل ثلاثة من العاملين، الأمر الذي أدى الى وقف الشركة الفوري لنشاطها في جنوب البلاد. استمر التوقف لثماني سنوات، عرف السودان خلالها أربعة أنظمة حكم مختلفة. وفي العام 1992 خرجت «شيفرون» كلية من البلاد وبيع امتيازها الى شركة سودانية خاصة اتضح فيما بعد انها كانت واجهة للحكومة.
كونسورتيوم من الشركات القادرة
بعد أن استخلصت الحكومة السودانية الامتياز من الشركة الاميركية، سعت بجد لاستغلال النفط المكتشف، لكن محاولاتها تلك التي تمحورت حول شركة «ستيت» الصغيرة التي يملكها مستثمر كندي من أصل باكستاني، لم تحقق نجاحا يذكر، لضعف القدرات الفنية والمادية للشركة، وهو ما دفع الحكومة الى الضغط عليها كي تفتح المجال أمام كونسورتيوم من الشركات القادرة. وهكذا جرى تكوين كونسورتيوم «شركة النيل الكبرى لعمليات البترول» من شركة النفط الوطنية الصينية، وبتروناس الماليزية، وشركة سودابت ممثلة للحكومة السودانية، وستيت تلك، التي أشترت نصيبها فيما بعد شركة تاليسمان الكندية، فتعرضت الى ضغوط أميركية للانسحاب من المشروع، مثلما رفضت واشنطن لشركة أوكسيدنتال الأميركية المشاركة فيه. تتمثل أهمية هذا الكونسورتيوم في أنه تمكن من بدء الإنتاج والتصدير فعلا، الأمر الذي تشكلت له تبعات سياسية واقتصادية. فالصين، التي دخلت السوق العالمي مستوردة للنفط لأول مرة في العام 1993، وجدت في خام مزيج النيل السوداني شبها كبيرا في خصائصه الفنية لخام «داكينق» الصيني، كما انها وجدت في مشروع البنية الأساسية للصناعة النفطية السودانية في الحقول ما يمكنه أن يبرز بالدليل الحي قدراتها في هذا المجال. فخط التصدير يمتد على مسافة 1610 كيلومترات، وهو الأطول في أفريقيا، وبقطر 28 بوصة، وقامت بالمشاركة في بناء مصفاة الخرطوم بطاقة 50 ألف برميل يوميا.وقد أسهم هذا «التمرين» في فتح العديد من الأبواب أمامها في القارة الأفريقية. ولهذا ينظر الصينيون الى علاقتهم بالسودان من منظار خاص. أما السودان، فقد وجد في الصين حليفاً له وزنه على الساحة الدولية، يمكن أن يوفر سندا ديبلوماسيا، وبديلا للعون المالي، بعد أن جفت مصادر التمويل من الدول والمؤسسات المالية الغربية.
تصدير النفط والدفع باتجاه السلام
على ان النجاح في تصدير النفط واستمراره، رغم الحرب الأهلية، أدى الى تدفقات مالية بالعملات الصعبة للحكومة السودانية، التي قامت بتخصيص جزء من هذه العائدات لزيادة إنفاقها العسكري، وشراء بعض الطائرات المروحية من روسيا، وهو ما انعكس على ميدان القتال لصالح الحكومة، ولفت أنظار المتابعين للشأن السوداني. ومن هؤلاء «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن الذي أعد دراسة تحت عنوان «السودان، بلد واحد ونظامان» في مطلع العام 2001. وتناولت تلك الدراسة بروز العامل النفطي قائلة ان نجاح الحكومة السودانية في تصدير النفط وتدفق العائدات عليها عزز من قدراتها العسكرية، وهو ما أنعكس سلبا على الحركة الشعبية وحلفائها من القوى السياسية الشمالية. ومع ان حركة المعارضة لن يتم القضاء عليها بصورة نهائية، إلاّ أنه مع استمرار تدفق النفط، فإن فرص المقاومة وتحقيق نصر تضمحل يوما بعد يوم. ونصح التقرير الحركة الشعبية بالاستفادة مما بقي لها من قدرات ومن التعاطف الدولي الذي تلقاه، للدخول في مباحثات سلام جادة لتحقيق جزء كبير من الأهداف التي تسعى اليها. ومن ناحية أخرى، وبسبب الموارد والصلات التي توفرت لها بفضل العامل النفطي، فإن الحكومة في الخرطوم شعرت بثقة بالنفس للدخول في عملية مباحثات للسلام أكثر إيجابية من السابق.
تبنت أدارة الرئيس جورج بوش، الذي تسلم السلطة في كانون الثاني/يناير من ذلك العام، تقرير مركز الدراسات هذا، وعلى أساسه قام والتر كانشتاينر مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية بزيارة الى نيروبي، حيث التقى بقرنق وتباحث معه حول أهمية العمل للوصول الى اتفاق سلام وتقاسم عائدات النفط، بدلا من العمل على وقف الإنتاج والتصدير بهدف الإطاحة بالنظام. وبعد مفاوضات طويلة ومضنية، تمّ التوقيع على اتفاقية السلام الشامل في نيروبي في كانون الثاني/يناير 2005، وأحد مرتكزاتها الأساسية اتفاقية قسمة الثروة، التي نصَّت على حصول حكومة الجنوب على عائدات 50 في المئة من النفط المنتَج في الجنوب، بينما يذهب الباقي الى الحكومة المركزية، وتُعطى الولايات المنتجة نسبة 2 في المئة أبتداءً.
حصاد سنوات عدم الثقة
بما ان الاتفاقية كانت تتضمن قيام الجنوب بممارسة حق تقرير المصير بعد انتهاء سنوات الفترة الانتقالية الست، والتصويت إما للوحدة أو الانفصال، فإن النفط كان واحدا من العوامل الرئيسية الدافعة للانفصال. فإذا كان الجنوب يحصل على 50 في المئة من النفط المستخرج في أراضيه إبان الوحدة، فمِنَ الأولى أن يتجه للانفصال فيحصل على 100 في المئة من كميات نفطه! ثم إن وجود النفط وعائداته عزز من فرص قيام دولة لها إمكانيات للبقاء على قيد الحياة. هذا من دون نسيان الشكوى المستمرة من أن الجنوب لم يحصل على حقوقه كاملة من عائدات النفط، وهي شكوى تعود الى حقيقة أن بعض المناطق المنتِجة ظلت موضع نزاع في تبعيتها بين الشمال والجنوب، وذلك إضافة الى عامل الريبة الدائمة القائمة بين طرفي الاتفاقية، «المؤتمر الوطني» و«الحركة الشعبية». ورغم كل ذلك، حصلت حكومة الجنوب خلال الفترة الانتقالية للاتفاقية على 12 مليار دولار، وهو ما يقارب ثلاثة أضعاف ما وعد به المانحون في مؤتمر أوسلو 2005 لدعم السلام في السودان (4.6 مليارات دولار).
وبعد الانفصال، استمرت المشاكسات بين الطرفين، التي أصبحت الآن مشاكسات بين دولتين، وكان على رأسها الخلاف على رسوم عبور النفط، باعتبارجنوب السودان دولة مغلقة، بلا منافذ بحرية نحو الخارج. ولفترة خمسة أشهر، ظلت جوبا تبيع نفطها بدون تسديد رسوم، وذلك لعدم الاتفاق على نسبها، الأمر الذي دفع بحكومة الخرطوم الى مصادرة بعض السفن واستخلاص الرسوم عينياً. وهي قدَّرتها بحوالي المليار دولار... ما اعتبرته جوبا قرصنة، قامت على إثرها بإغلاق آبار النفط لديها في كانون الثاني/يناير الماضي. وبما ان عائدات النفط تمثل بالنسبة لجنوب السودان نحو 98 في المئة من إيرادات الحكومة، وهي تمثل أكثر من 90 في المئة من عائدات العملة الصعبة بالنسبة لدولة لسودان، وخوفاً من حدوث تداعيات سياسية سلبية، قامت واشنطن بالضغط على جوبا للتوصل الى اتفاق حول الرسوم، وهو ما تم توقيعه بالأحرف الأولى في آب/ أغسطس الماضي. لكن الخرطوم تصر على أن يكون هذا الاتفاق جزءا من اتفاق أشمل، خاصة في ما يتعلق بالجانب الأمني بين البلدين.
ما زالت الازمة مفتوحة إذاً على كافة الاحتمالات. ويُبرِز هذا المسار نوع «الارتهان» الى العائدات النفطية الذي يتحكم بما أصبح بلدين، مثلما تحكم سابقاً بسياقات المسألة الجنوبية في السودان الواحد. أدى ذلك الى الحروب والنزاعات كما الى التفاوض والاتفاقيات. وإن يكن العائد النفطي ليس هو الاعتبار الوحيد في توجيه الاوضاع في هذه البقعة من العالم، إلا أنه مدخل جيد لها: لتحديد المواقف الداخلية، ولتعيين الاهتمام الدولي بالسودانيين، سواء كان هذا الاهتمام صينياً أو أميركياً. وتدير السلطات القائمة في المكانين هذه اللعبة بمقدار متفاوت من الجدارة أو التخبط.