تبرز في الكويت عملية تأكّل تدريجي للنظام، يفضي في نهاية الأمر إلى انهيارات يتوقف حجمها على مدى قدرة هذا النظام على استيعابها وإعادة معالجتها. ويسمى الاستيعاب، لو حدث، إصلاحات.
وما يحدث في الخليج عموما اليوم هي عمليات تأكّل داخلي، مظهرها صراع الأطراف للتمكن من السلطة، بسبب تراكم النزاعات داخل بيت الحكم، وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة، وغياب تطبيق القانون، وتبرم الشعب. وبالمقابل تمر المعارضة الكويتية اليوم بمخاض سياسي. وفي الأيام الماضية صدر حكم بالسجن لمدة خمس سنوات مع الشغل والنفاذ بحق أبرز شخصياتها، «مسلم البراك». ولهذا الحكم أهمية كبيرة في اللعبــة الســياســـية في الكويت. فهــو ورقـــة في يـــد الســـلطــة تضغط بها على المعارضة في إطار المفاوضات الجارية بين الأطراف. فمسلم البراك هو «السقف الأعلى للمعارضة»، فهو استطاع تجاوز كثــير من الخطوط الحمراء، وبعضها منصوص عليه في الدســتور، كعدم جــواز المـــس بالذات الأميرية (دون تعيين حدود المس بها). إلا إن خطابه الذي أدين بســببـه والــذي اشـــتهر بجملة «لن نســـمح لـــك»، كـــان خطــابــا تغيــيريا بامتيـــاز، يضغــط باتجـــاه المطلـــب الرئـيـــس في التحــول الديمــوقراطي، وهـــو رئيـــس وزراء من عامة الشــعب.
القبائل تنفك عن السلطة؟
أهداف الحكم على البراك متعددة الأغراض والمستويات:
- إنهاء الحياة السياسية للنائب السابق مسلم البراك، لوجود حكم عليه في ملفه الشخصي يمنعه، وفق الدستور الكويتي، من الترشح مستقبلا في الانتخابات البرلمانية، وهذه وسيلة تأديبية لكونه تعدى الخطوط الحمر.
- رسالة قوية للمعارضة بأن الخيارات باتت مفتوحة على كافة الأصعدة، علما بأن التصعيد بلغ ذروته في خطاب المعارضة، لكون المخاطب والمعني به هو أعلى سلطة في البلاد، أي الأمير نفسه.
- محاولة لكسب ورقة في أي تفاوض مستقبلي بين أقطاب المعارضة وسلطة الحكم، تصلح للمقايضة مقابل تراجع المعارضة عن بعض المطالبات.
ورغم وجود كثير من الملاحظات الجوهرية على تركيبة المعارضة الكويتية من جهة، وأهدافها ومصداقيتها من جهة ثانية، وآليات حراكها من جهة ثالثة، إلا ان أصل فكرة الحراك وتطوير الخطاب ورفع سقف المطالب تعتبر بحد ذاتها تغييرا حقيقيا في مسارها، إضافة إلى أن المكون الرئيس في جسد المعارضة هو القبائل الذين كانوا بالأمس القريب من أهم الأطراف والمكونات الداعمة لبيت الحكم .
تغير مزاج القبائل لم يأت من عبث، فالسلطة عبر التاريخ السياسي في الكويت كانت تبني علاقتها معها وفق مبدأ العطايا والهبات مقابل دعم القبائل الكلي لها. إلا انها في الوقت نفسه همشت هذا المكون الأساسي في تاريخ العمل السياسي ومارست تمييزاً بينه وبين أبناء الحضر. وحينما صعد الجيل الجديد من أبناء القبائل، وبدأوا رفض تلك المعادلة، أي التزامهم بالدعم الكلي للسلطة مقابل رعايتها لهم، وتهميشهم في الوقت نفسه، وبمجرد وقوف كثير من شــباب القبائل مع المعارضة ودعم مطالبها، قامت السلطة برفع العـطايا والهبــات عنهم، وهو ما اعتبر اهانة وظلما جديدين، يراكمان الظلم الذي تعرضوا له عبر التاريخ، ونكران لدعمهم التاريخي للأسرة الحاكمة. ومسلم البراك من أبنـاء القبائل، مما أعلى من دعم هذه الأخيرة له ولمطالبــه التي كانت في شــعارها العـريض وطنيــة، تحقق مزيدا من التقــدم الديموقراطي، ورفع سقف الحريات.
تراجع السلطة
وبعد صدور الحكم بالسجن، بدأت أطراف كثيرة، سواء سياسية أو من شباب الحراك، بإعادة ترديد خطاب مسلم البراك «لن نسمح لك»، كتحدّ واضح للسلطة من جهة، وكنوع من الإصرار على السير قدما في تحقيق المطالب من جهة أخرى. وتحت ضغط الشارع أفرجت السلطة عن النائب السابق بكفالة مالية، ومنعته من السفر خارج البلاد، وأرجأت البت في الحكم الصادر بحقه شهراً، وهو ما يترجم في الواقع السياسي انتصاراً منتزعا ميدانياً للمعارضة، ونجاحا في كسب مزيد من الوقت للمناورة السياسية مع السلطة.
ورغم كل محاولات هذه الأخيرة لتشويه سمعة المعارضة الحالية، من خلال اتهامها بالولاء للخارج، ووجود أجندات خارجية تحركها، (من دون تقديمها دليلا واقعيا)، ورغم محاولتها ضرب نسيج المجتمع من جهة والتيارات السياسية بعضها ببعض من جهة أخرى، من خلال فوبيا المذهبية والقبائلية، مستفيدة من وجود أقطاب في المعارضة كرسوا بخطابهم الإقصائي هذه المخاوف، إلا إنها لم تستطع تحقيق هدفها، أي إضعاف المعارضة وتفكيكها. وهذا على الرغم من وجود خلافات حقيقية بين أطرافها كادت في وقت مضى تقضي عليها.
فهل سيفضي كل ذلك إلى مزيد من التحول الديموقراطي، فيكون فعلاً رئيس الوزراء، قريبا أو في مستقبل مشهود، مختاراً من بين صفوف الشعب؟