الثورات الجارية.. أكلاف الأمل

في سياق تحولها إلى انتفاضات شعبية، حملت الحركات الاحتجاجية الشعبية العربية حزمة من السمات والخصائص، ساهم بعضها بتفرد كل منها وتميزه، رغم العديد من السمات المشتركة التي تجمعها وتوحد أهدافها. شطر منها له علاقة بالقوى الشعبية: درجة تنظيمها ووعيها، وتراكم خبراتها في الكفاح السياسي والنقابي، وتبصرها لأهدافها، وقدرتها على إنتاج الأدوات الثورية عبر التحالفات الممكنة التي تمتّن أدواتها الكفاحية وتعزُل
2014-12-30

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
| en

في سياق تحولها إلى انتفاضات شعبية، حملت الحركات الاحتجاجية الشعبية العربية حزمة من السمات والخصائص، ساهم بعضها بتفرد كل منها وتميزه، رغم العديد من السمات المشتركة التي تجمعها وتوحد أهدافها. شطر منها له علاقة بالقوى الشعبية: درجة تنظيمها ووعيها، وتراكم خبراتها في الكفاح السياسي والنقابي، وتبصرها لأهدافها، وقدرتها على إنتاج الأدوات الثورية عبر التحالفات الممكنة التي تمتّن أدواتها الكفاحية وتعزُل عدوها السياسي وتحاصره، ومقدرتها على اجتراح الحلول الواقعية، أي المستندة إلى معاينة علاقات القوة بين الطرفين السياسيين المتصارعين، وإبداعها في توجيه الخطط السياسية في سياق المواجهات مع السلطات السياسية وأدواتها التنظيمية وأجهزة الدولة القمعية والأيديولوجية.. فضلاً عن قدرتها، في شروط كفاحها الاستثنائي، على انتزاع وتثبيت استقلاليتها الوطنية بعدم تجاهل أن ساحة صراعها تنتمي للجغرافيا الكولونيالية، وقد هيأ منذ أكثر من قرن تخلفُ بناها الاجتماعية - الاقتصادية وسلطاتها العثمانية المتقهقرة أعمق وأوسع اختراق تاريخي، بصيغتيه المتعاقبتين الرأسمالية التجارية - المالية والإمبريالية، ولم تتمكن الفئات الاجتماعية الحاكمة المتتالية، وعبر كل مقارباتها السياسية -الأيديولوجية، من سد منافذه وبواباته، لتنتزع استقلالها الناجز والانطلاق نحو وحدتها القومية. الاختراق السياسي قادر على التحكم بمسارات الحركة الشعبية الثورية وحرفها عن أهدافها، عبر تحري نقاط ضعفها وخواصرها الطرية.. هذا كله، وسواه الكثير يمكن أن يأخذ الكفاح الإعجازي الذي نهضت به الشعوب العربية إلى مهاوٍ لا نهوض بعدها ولا قيام، بل سقوط مريع في حضيض الاستنزاف المتواصل.
لا يكفي ان تكون السلطات الحاكمة في موقع المتسبب الرئيس، بأوضاع اجتماعية تضع المجتمع بكليته على حافة الكارثة، حتى تسقط بفعل ذاتي، أو تتهاوى تحت هدير الهتافات العالية للمتظاهرين المحتجين الخارجين من دساكر اليأس وأكواخ الحيف. فلا بد من جدارة للقوى السياسية الثورية، الحقيقية والافتراضية، المعنية بمقاربة هدف التغيير واستكمال نواقص شروطه.
                                                                   ***
عكست القدرات المزدوجة للسلطات الحاكمة والانتفاضات الشعبية الثورية، عجز كل طرف عن إطاحة الطرف الآخر، لا إمكانية لإعادة المبادرة السلطوية إلى العهد السابق على انطلاقة الحركة الشعبية، ولا إمكانية لإسقاط السلطة كلياً. برز بعد وعي هذا الوضع المتوازن، ميل للتسويات السياسية - الحقوقية على وجه التحديد، بكسر للإطار الاحتكاري - "الطغموي" من دون المس بالبرامج الاقتصادية ومنعكساتها الاجتماعية. برز ذلك في الحالتين التونسية واليمنية، وجرى إقصاؤه في التجربتين الليبية والسورية.
أسباب كثيرة تدفع لمعاينات مبصرة للقدرات الحقيقية لشعوب عاشت ردحاً من الزمن وهي مسلوبة من أي إمكانية للتنظيم السياسي المستقل، ومحرومة من أي وسيلة من وسائل التعبير عن أوجاعها وآلامها وطموحاتها ومعاينة مستقبلها ومستقبل أولادها.. يجري حصار وعيها المستنبت في غرف إنعاش الأمل وهمسات الشوق للتغيير التي تقال باختلاج في السير العجول في الشوارع، بحركات إسلامية قادرة بعجزها الفكري وبلاهتها التاريخية على سوق الحركات الشعبية إلى كوارث، قد تدفعها في حالات اليأس للاستنجاد ببعض أدوات السلطات المترنحة وخطابها.
فرضت الطغم الحاكمة أكلافا عالية على القوى الثورية وحاضناتها الشعبية، بما يتجاوز قدرتها الذاتية على ترميمها وإعادة ضخ دماء المبادرة الحية في شرايينها. تكاملت مع ذلك في الحالة السورية مثلا تابعية المعارضة وارتهانها الكلي لمصالح دول إقليمية وأجهزة مخابراتها، وإنهاك الحركة الشعبية وتضليلها عن أهدافها رغم اندفاعها لتقديم تضحيات عالية (أمست بلا معنى ثوري يواسيها). وكادت تندرج في نسق عبثي تكاملت عناصره باحتكار هاتين القوتين لعموم عناصر الصراع السياسي ومستلزماته المالية والإعلامية والعسكرية والإغاثية، وقدرتهما على عزل أي مبادرة تأخذ بأسباب تجاوز هذا الوضع الكارثي، الذي لم يعد بإمكانهما حجب تداعياته الكبرى: الأعداد المهولة للقتلى والجرحى والمعطوبين، النزوح/الهجرة، تعطل الموارد الاقتصادية، التضخم المالي، الدمار العمراني، أمراء الحرب، مظاهر فشل الدولة.
                                                                    ***
في سوريا، حسم الإنقلابيون منذ الثامن من آذار 1963 أمرهم وتصورهم السياسي لنظام الحكم الذي قرروه: متحد حاكم مسترخ باطمئنان إلى حسن سير مصالحه وتأبيدها، تحرسه قوانين الطوارئ والأحكام العرفية (محكمة أمن الدولة والمحاكم العسكرية والميدانية)، واحتكارية تشريعية تستطيع إصدار القوانين أو المصادقة على ما يُطرح عليها منها لتجريم أي جماعة سياسية أو حركة احتجاجية ووسمها بما ليس فيها، وجيش جبار وسلسلة من الأجهزة الأمنية تحصي أنفاس المعارضين، وتتسلل إلى أحلامهم.
خال الكثيرون أنه شرط استثنائي لا بد من زواله بزوال الأسباب الاستثنائية التي أنتجته.. لكنه لم يزل ثابتاً راسخاً، بعد مرور خمسة عقود على الانقلاب. سلطة لا تريد القسمة ولا التوزيع المنبثق من صناديق الاقتراع. لا تقبل بالمساءلة المشفوعة بأسباب وطنية وتنموية ومفاتيح الحرية والتحرر.. انانية مفرطة بإهاب مغرور، تصفحتا بقوة حربية، حالتا دون اللقاء بحركة شعبية اندفعت خلف كرامة أبنائها وعويل آلامهم، التحقت بها مواكب العاطلين عن العمل والمهمشين وطلبة الجامعات، وأحفاد الفلاحين المرميين في هوامش المدن والحياة.. والمأخوذون بروح الحرية وعذوبة مبناها ومعناها.. حركة انطلقت بأنين خافت، لتجد نفسها بعد حين مع جلاديها في مهاوٍ لا قرار لها. فإن قاوما الموت معاً، فها هما يقاومان العيش معاً كذلك.

مقالات من العالم العربي

ميلادٌ آخر بلا عيدٍ

2024-12-26

وجّه الأب "منذر إسحق" رسالة الميلاد من بيت لحم إلى العالم، قائلاً: "احتفالات الميلاد ملغاة. لا وجود لشجرة ميلاد، للأضواء، للاحتفالات في الشارع... من الصعب تصديق أننا نعيش ميلاداً آخر...

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..