بقية من شَعْر قليل، وضفائر جُدلت على مهل ربما، تحت نافذة بعيدة، وقلائد ذهبية، وتمائمَ للحظ والحياة، وأحذية صغيرة، لم تحترف فكرة المشي بعد، ولم تترك أثراً على الطريق، وساعة يد تشير إلى الثانية والعشرين دقيقة، والكثير من الجماجم والعظام والحكايا. كلها كانت في مقبرة جماعية واحدة، مقبرة بعيدة ووحيدة، هنالك في العراق، حيث لكلّ نصيبه من الموت الجماعي.
وسائل الإعلام حينها نقلت الخبر هكذا: "فتحت السلطات العراقية اليوم الثلاثاء 23 تموز/ يوليو 2019، مقبرة جماعية في جنوب البلاد، تضم رفات مواطنين أكراد أُعدِموا خلال حقبة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وتحديداً في عام 1988 بحسب الأدلة الجنائية المتوفرة، وتضم المقبرة التي عُثر عليها في منطقة الشيخية في "بادية السماوة" بمحافظة المثنى، 70 جثة لنساء وأطفال أُعدموا رمياً بالرصاص".
بقية الخبر يشير إلى أنَّ الأطفال تتراوح أعمارهم بين سنة واحدة ("أطفال رضّع") إلى 10 سنين، والنساء يبلغ متوسط أعمارهن أربعين عاماً. كُنَّ معصوبات الأعين، وفي الجماجم آثار إطلاقات نارية، وهنالك رصاص عشوائي في بقية العظام التي اختلطت ببعضها بفعل النبش والحفر بالجرافات الكبيرة.
الرئيس العراقي برهم صالح، ووفد من الأمم المتحدة والبرلمان العراقي، حضروا مراسم فتح المقبرة، وتحدثوا كثيراً عن جرائم النظام السابق، والإبادة الجماعية التي تعرض لها الأكراد خلال حملةالأنفال (1987-1988). لكن الرؤساء والوفود لم يحضروا فتح المقابر الجماعية الكثيرة، قبل هذه المقبرة وبعدها، والتي بلغ عددها 346 مقبرة جماعية في عموم العراق، بحسب وزارة شؤون الشهداء في حكومة إقليم كردستان، وهذه الإحصائية هي للمقابر المكتشفة في الفترة من 2003 ولغاية 2010، وتعود لحقبة ماضية تمتد من عام 1980 إلى غاية 2003، حيث سقوط نظام صدام حسين، واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
جغرافيا المقابر الجماعية
في آخر تقاريرها عن المقابر الجماعية في العراق (6 تشرين الثاني / نوفمبر 2018) وثّقت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، ومفوضيّة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان اكتشاف 202 مقبرة جماعية، تضم رفات آلاف الضحايا الذين أعدمهم تنظيم داعش، خلال سيطرته على ثلث مساحة العراق عام 2014.
التقرير الأممي يوثق زمن تلك المقابر، ومواقعها، وأعداد من دُفنوا فيها، وهوياتهم. ففي الفترة ما بين عامي 2014 و2017 غيب تنظيم داعش كلَّ من لا يؤمن بخلافته في الأرض، وكان يقتل الجميع بلا رحمة، وشن "حملة واسعة من العنف، وارتكب انتهاكات جسيمة وبصورة منظمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي - وهي أعمال قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية ولربما أيضاً إلى مستوى الإبادة الجماعية".
بلغ عدد المقابر الجماعية 346 مقبرة في عموم العراق، بحسب "وزارة شؤون الشهداء" في حكومة إقليم كردستان. والإحصائية هي للمقابر المكتشفة في الفترة من 2003 ولغاية 2010، وتعود لحقبة تمتد من عام 1980 إلى غاية 2003، تاريخ احتلال العراق من قبل الأمريكان وحلفائهم.
جغرافيا المقابر الجماعية تلك تركزت في المناطق الشمالية والغربية من العراق، وتحديداً محافظات نينوى، وكركوك، وصلاح الدين، والأنبار، وديالى. وتشير تقديرات مكتب مفوضية حقوق الإنسان السامية في الأمم المتحدة إلى أنَّ أعداد المدفونين في تلك المقابر الجماعية يتراوح من 6000 إلى 12000 إنسان، بينهم نساء وأطفال وكبار سن وذوو إعاقة وعمال أجانب، بالإضافة لعناصر سابقين من قوات الأمن (الجيش والشرطة).
من بين هذه المقابر المئتين وإثنين، فتحت لجنة شؤون المقابر الجماعية التابعة لمؤسسة الشهداء العراقية 28 مقبرة فقط، أربعة منها في ديالى، وواحدة في نينوى، و23 في صلاح الدين، واستخرجت رفات 1258 ضحية، قتلهم تنظيم داعش تكريساً للخوف الذي سعى من خلال نشره إلى إطالة أمد بقائه، لكنه سرعان ما تداعى، وسقطت خلافته، وظلت تلك الجرائم شهادة قاسية لحقبة مرعبة.
العدد الأكبر من تلك المقابر هو من حصة محافظة نينوى (95 مقبرة)، تليها محافظات كركوك (37 مقبرة)، وصلاح الدين (36 مقبرة)، والأنبار (24 مقبرة). وفيما تنتظر عوائل الضحايا الكشف عن مصائر ذويها، لاتزال السلطات العراقية لا تمتلك سجلاً مركزياً بأعداد المفقودين، أو من تأكد مقتله ووجوده في تلك المقابر الكثيرة.
معركة أخرى يخوضها ذوو الضحايا، غير معارك الفقد والحزن والانتظار. فهم مرغمون على اتباع إجراءات بيروقراطية طويلة (إبلاغ أكثر من خمس دوائر حكومية)، وهذه تأخذ وقتاً طويلاً وتنهك عائلات الضحايا. بينما لا تحصل تلك العوائل في مقابل ذلك على أية معلومة أو إجراء من شأنه الكشف عن مصير أبنائها.
الحفرة
أكبر تلك المقابر هي مقبرة "الخسفة" في محافظة نينوى، والتي تعتقد الأمم المتحدة أنها تحتوي على آلاف الجثث، مستندة بذلك على روايات الشهود وذوي الضحايا المفقودين، ممن كانوا يعيشون (مجبرين) تحت حكم تنظيم داعش في نينوى، وتحديداً في مدينة الموصل، والتي تعد من أكبر ثلاث مدن في العراق مع بغداد والبصرة.
بعد سنة وبضعة أشهر من سيطرته على مدينة الموصل، وإعلان زعيمه أبي بكر البغدادي خلافته الإسلامية من الجامع النوري الكبير في المدينة، نشر تنظيم داعش قوائم تضم 2070 اسماً لأشخاص قام بتصفيتهم بتهم الخيانة والردة والكفر، وعُلّقت تلك القوائم حينها على جدران بناية الطب العدلي في الجانب الأيمن من مدينة الموصل.
وثّقت بعثة الأمم المتحدة اكتشاف 202 مقبرة جماعية، تضم رفات آلاف الضحايا الذين أعدمهم تنظيم داعش، خلال سيطرته على ثلث مساحة العراق عام 2014. تركزت هذه المقابر في المناطق الشمالية والغربية من العراق، وتحديداً محافظات نينوى، وكركوك، وصلاح الدين، والأنبار، وديالى.
بعدها واصل التنظيم حملته ضد المخالفين له، يعتقل أشخاصاً بذريعة الاستجواب، ثم لا يعيدهم إلى ذويهم. وعندما تحاول عائلاتهم الاستفسار عنهم لدى عناصر التنظيم فإنها لا تعثر على إجابات، فيظل مصيرهم مجهولاً، وهكذا حتى سقط التنظيم. وقد استدل الأهالي على أكبر مقابره الجماعية، وكانت حفرة طبيعية كبيرة، تُعرف عند السكان المحليين بـ "حفرة الخسفة".
على بعد 20 كيلومتراً جنوبي مدينة الموصل، محاطةً بالأودية والتلال، تقع هذه الحفرة التي يبلغ قطرها 40 متراً تقريبا، فيما يصل عمقها إلى أكثر من 150 متراً، وهذا ما سهل على التنظيم استخدامها قبراً جماعياً مرعباً لإخفاء ضحاياه من خلال إلقائهم بها بعد إطلاق النار عليهم.
منظمة "هيومن رايتس ووتش" أصدرت تقريراً عن مقبرة الخسفة، وقالت فيه إنَّ الموقع هو واحد من عشرات مقابر داعش الجماعية التي عُثر عليها بين العراق وسوريا، ولكن يمكن أن يكون الأكبر المكتشف حتى الآن. وفي حين أنه ليس من الممكن تحديد عدد من أُعدموا في الموقع، تشير تقديرات السكان المحليين إلى أنه يصل إلى الآلاف، استناداً إلى عمليات الإعدام التي شاهدوها، وما أخبرهم به مقاتلو داعش في المنطقة.
المنظمة وثقت شهادات خمسة من سكان القرى القريبة من الخسفة، قالوا إنهم شاهدوا في 10 حزيران/ يونيو 2014 مقاتلي داعش يجلبون إلى الحفرة أربع شاحنات كبيرة مليئة بأشخاص معصوبي الأعين ومقيدين، وأنزلهم عناصر التنظيم ووضعوا معظمهم في صف على حافة الحفرة، ثم أطلقوا النار عليهم لتسقط جثثهم فيها. ثم أطلق مقاتلو التنظيم النار على عدد مشابه من مسافة قصيرة، وألقوا أجسادهم في الحفرة.
بحسب أولئك الشهود فإنَّ مقاتلي داعش أخبروهم في وقت لاحق بأن الرجال الذين أُعدموا كانوا معتقلين جلبهم التنظيم من سجن بادوش. وفي شهادة لأحد رعاة الأغنام هناك، ذكر أنه في أيلول/ سبتمبر 2014، شاهد مقاتلي داعش يصلون في شاحنة صغيرة مع ما لا يقل عن 13 امرأة، وجوههنَّ وأجسادهنَّ مغطاة بالكامل بعباءات ومعصوبات الأعين، ووضعوهنَّ على حافة الحفرة ثم أطلقوا النار عليهنَّ، وأكد ذلك الراعي أنَّه شهد ثلاث عمليات إعدام جماعية أخرى في وقت لاحق، بما في ذلك إعدام ثلاثة من أقاربه.
خمسة أشخاص آخرين ممن يعيشون بالقرب من الخسفة قالوا إنهم سمعوا عن إعدام ما يتراوح بين 3 آلاف و25 ألف شخص في الموقع. وذكروا أنَّهم كثيراً ما سمعوا صراخاً وإطلاق نار. وبحلول أوائل العام 2015، أصبحت رائحة الجثث لا تطاق، وكانت العائلات تخبر مقاتلي داعش أنهم سيضطرون للانتقال إلى مدينة الموصل في حال استمرارها. وأخبر أحد سكان قرية العذبة هيومن رايتس ووتش أنه في الصيف كانوا يضطرون إلى النوم على السطح، بسبب انقطاع الكهرباء، لكنهم لم يكونوا يستطيعون النوم بسبب رائحة الجثث القوية جداً. ووصف آخر تلك الرائحة بأنها كانت مثيرة للاشمئزاز، وكانوا يشمونها حتى وهم داخل بيوتهم.
قبل هزيمته، ردم تنظيم داعش حفرة الخسفة، أو مقبرة الخسفة الجماعية، وزرع حولها ألغاماً أرضية ليمنع الوصول إليها، وفي 26 شباط / فبراير2017 قُتلت مراسلة شبكة رووداو الكردية، الصحافية شيفا غاردي، وأُصيب المصور الذي كان يرافقها يونس مصطفى، حيث انفجرت بهما عبوة ناسفة خلال محاولتهما الاقتراب وتصوير حفرة الخسفة.
الجثث في صناديق الفاكهة
في أواخر شهر تموز/ يوليو عام 2019 صدر كتاب من دائرة صحة محافظة بابل موجه إلى بلديتها تطلب فيه الصحة دفن 31 جثة مجهولة الهوية، كان قد عُثر عليها في مقبرة جماعية بالقرب من ناحية جرف الصخر (60 كم جنوب غرب بغداد) بعد تجاوزها المدة القانونية لحفظها في ثلاجات الموتى (أربع سنوات). ورداً - بكتاب آخر - استجابت بلدية بابل لكتاب مديرية الصحة على أن تُعطى الجثث لجمعية تدعى مؤسسة "فاطمة الزهراء الخيرية" حيث تتولى هذه المؤسسة دفن الجثث في محافظة كربلاء.
الموضوع أثار ردود فعل غاضبة خاصة من أعضاء البرلمان العراقي الممثلين للمدن السنية، الذين رأوا أنَّ الجثث معلومة الهوية، وهي لمختطفين من المناطق السُنيّة المستعادة من تنظيم داعش، وأنّ هذه الجثث عُثر عليها قرب جرف الصخر الخاضعة لسيطرة ميليشيا كتائب حزب الله، وحكومة بابل المحلية تريد التستر على الأمر، خاصة وأنها لم تمنح الفرصة للجهات المتخصصة في التحقق من هوية الجثث قبل دفنها من خلال إجراء فحص الـ DNA.
سيطرت مليشيات الحشد الشعبي على ناحية الصقلاوية، واقتادت 743 مدنياً من أبنائها إلى جهة مجهولة، لم يُعرف مصيرهم حتى هذه اللحظة... بينما يعتقد ذويهم في محافظة الأنبار، أنَّ أبناءهم الذين ينتظرونهم منذ أربع سنوات، هم تلك الرفات التي عثر عليها عمال إنشاءات بالصدفة. وما زالت السلطات العراقية تتكتم على أي تفاصيل تتعلق بتلك المقبرة الجماعية.
ليست هذه المرة الأولى التي يُعثر فيها على جثث مجهولة الهوية قرب جرف الصخر، فقد سبقتها أيضاً حادثة مشابهة حيث عثرت قوة أمنية في تموز/ يوليوعام 2018 على مقبرة جماعية تضم 71 جثة مجهولة الهوية قرب جرف الصخر أيضاً. وكذلك فقد تولت مؤسسة "فاطمة الزهراء الخيرية" مهمة دفن الجثث في محافظة كربلاء.
الجثث، وبحسب شهادة رئيس مؤسسة "فاطمة الزهراء الخيرية"، تعود لعامي 2014 و2015، وهي لأطفال ونساء ورجال من جرف الصخر، وقد وجدت مدفونة وموضوعة في أكياس بلاستيكية داخل صناديق فاكهة.
تعد ناحية جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل، والواقعة بينها وبين بغداد من أكثر مناطق النفوذ والسيطرة لدى المليشيات، وبخاصة مليشيا كتائب حزب الله العراقية، المتهمة بارتكاب جرائم قتل وتغييب قسري بحق السكان "السُنّة" وتجريف مناطقهم وبساتينهم، ومنعهم من العودة إليها منذ عام 2014 وحتى الآن.
بتاريخ 15 كانون الأول/ ديسمبر 2019 في محافظة الأنبار، وتحديداً قرية الفياض التابعة لمدينة الفلوجة، كان أحد المزارعين هناك يشق قناة مائية عندما عثر على مقبرة جماعية، قالت السلطات المحلية في الأنبار حينها أنّها ستتحقق من هويات المدفونين فيها من خلال فحص الحمض النووي (DNA) وتحفظت عن التصريح بأعداد الجثث التي عثر عليها في تلك المقبرة.
خلال ذلك الأسبوع، عُثر أيضاً على مقبرتين جماعيتين إضافيتين، كان موقع إحداهما بالقرب من سيطرة الصقور، حيث المنفذ الرئيسي بين بغداد والأنبار، وهي المنطقة التي لم يستطع التنظيم دخولها طيلة وجوده في محافظة الأنبار، وكانت تلك المنطقة خاضعة لسيطرة الجيش والشرطة ومليشيات الحشد الشعبي.
وقريباً من موقع المقبرة الجماعية تلك، والتي تضم رفات 643 ضحية تقع ناحية الصقلاوية. وهذه الناحية سيطرت عليها مليشيات الحشد الشعبي، واقتادت 743 مدنياً من أبنائها إلى جهة مجهولة، ولم يُعرف مصيرهم حتى هذه اللحظة، بينما يسود اعتقادٌ الآن في محافظة الأنبار، وخاصة عند ذوي المفقودين، أنَّ أبناءهم الذين ينتظرونهم منذ أربع سنوات، هم تلك الرفات التي عثر عليها عمال إنشاءات بالصدفة. وما زالت السلطات العراقية تتكتم على أي تفاصيل تتعلق بتلك المقبرة الجماعية.