"سيرمون بي إلى أبعد مكان ممكن، سينقلونني إلى محافظة أخرى غير بغداد، بعيداً عن عائلتي".. هذا ما يقوله صديقي الطبيب الذي اعتاد أن يجيب عن أسئلتي الطبية غير الضرورية. يكشف هذه المرة عن خبية لن تجدَ من يعالجها. . هذه المرة يكشف من خلال إجابته عن ضرورات خبية لن تجدَ من يعالجها، فأمصال العملية السياسية في العراق تشابه إلى حد كبير تلك التي تقتل فايروس كورونا: لم تجد طريقها للانتقال من الحلم إلى الواقع.
بين حين وآخر، ينفد صمتُ أحدهم فتشقُّ قليل الخبايا طريقها إلى العلن، لن تكون الرسائل التي يبعث بها الأطباء آخرَها، حتى وإن كانت مرعبة، من قبيل: أن المستلزمات التي يستخدمها الكادر الطبي منتهية الصلاحية منذ العام 2017، وأن وزارة الصحة ودوائرها على علم بذلك، ولن يحرّك خبرُ افتقار العراق للعدد الكافي من أجهزة التنفس (أكثر من 300 بقليل) أصحابَ القرار نحو تصحيح شيء من اعوجاج الواقع وتدارك كارثة متوقعة.
جولة على الكورونا في المنطقة: السعودية
24-03-2020
في 24 شباط/ فبراير 2020 سجل العراق أول إصابة بفايروس كورونا على أرضه، يرى كثيرون أنه تأخر بالكشف عن الإصابات بالفايروس، وأن تراجع الواقع الصحي في البلاد أولى بالملامة من الطالب الإيراني الذي كشفته المصادر الرسمية في محافظة النجف كأول مصاب. تصدّع ثقة الناس بالمؤسسات الحكومية، واعتيادهم سماع أرقام أخف من وطأة الواقع، وتكدّس الوعود التي تطلقها السلطات منذ 2003 كلها تبرر الشك ذاك. ويعزز كل ذلك استهانة السلطات بالقطاعات التي تدخل في صلب حياة المواطن وإهمالها دونما تطوير أو بناء، مستداما كان أم ترقيعي، ففي آخر الموازنات التي عرفتها البلاد 2019 تم تخصيص 3 ترليون دينار لوزارة الصحة بمقابل 9 ترليون للدفاع و11 للداخلية.
أول شهور المِحنة
بعد مرور شهر على الإصابة الأولى، وصل عدد الإصابات الأكيدة حسب وزارة الصحة إلى 346. كما أن عدد الوفيات ليس بقليل، حيث سجلت 29 حالة وفاة لمصابين بالفيروس خلال هذا الشهر. تقول الوزارة أيضاً إن عدد الذين تماثلوا للشفاء هو 89 حالة، وهذه الحالات تتوزع على مناطق مختلفة من العراق. رصد الأرقام ليس معبّراً، أولاً لأن العدّاد لا يتوقف عن الحركة، وثانياً لأنها غير موثوقة، وثالثاً لاحتمال وجود إصابات لم يراجع أصحابُها المستشفيات أو يُبلّغوا عنها، خصوصاً بعد توجّه الآلاف إلى مرقد الإمام موسى الكاظم في العاصمة بغداد لإحياء ذكراه، والتي جرت في 21 آذار/مارس 2020، ما خلق بيئة خصبة لانتقال العدوى.
طيفٌ ليس بقليل من المواطنين ارتدى ثوب العناد مطرّزاً بالمعتقدات مرّة، وباليأس مرات. وكم هي عاجزة اللغة أمام أولئك الذين أصبح الموت عندهم مساوياً للحياة!
قبل هذه الزيارة، وتحديداً مساء الثلاثاء في 17 من الشهر ذاته، دخل حيز التنفيذ حظر التجوال الذي فرضته الحكومة بتوصية من خلية الأزمة الخاصة بمكافحة فيروس كورونا. لم يدخل كلياً، فبالإضافة لكسره من قبل زائري الإمام الكاظم سيراً على الأقدام، ظلت أبواب المقاهي والمطاعم والأسواق مفتوحة أمام الناس في المناطق الشعبية، كمدينة الصدر / الثورة شرقي بغداد، ولم تُجدِ حملات التوعية بضرورة الالتزام بالحظر المفروض.
ليس مجرّد حظر تجوال
توالت التحذيرات وتضاعفت توصيات ذوو الإختصاص بضرورة اتّباع الناس التعليمات، علّها تحدّ من انتشار المرض، لكن طيفاً ليس بقليل من المواطنين ارتدوا ثوب العناد مطرّزاً بالمعتقدات مرّة، وباليأس مرات. وكم عاجزة هي اللغة أمام أولئك الذين أصبح الموت عندهم مساوياً للحياة! أُحرجت السلطات، فهبطت الكتل الكونكريتية في الشوارع الرئيسة، في مداخل ومخارج المناطق الشعبية ومقترباتها، وعزز ذلك أرتالٌ عسكرية مدججة بالسلاح تجوب المناطق وتغلق مقاهيها، دونما علم بمصير الحياة وبلا أدنى فكرة عن غدِها.
في النهاية، أغلق الوباء الخفيُ الأبواب، أكثرها، وقطّع الطرقات، ولن يفتحها إلا أمام ضحاياه الذين تسلل لأجسادهم، أو أمام أولئك الذين سيحاربونه في المستشفيات، ولن يكونوا بمأمن من انقضاضه عليهم، كما أنهم ليسوا بمأمن من غضب وعشائرية مُراجعيهم ومرضاهم.
الخطر الخَفي
خلف الأبواب التي أغلقتها الإجراءات الحكومية يُحتمل وجود ضحايا صامتين لكوفيد-19. يُسكِتُهم الخوف، خوفهم على سمعتهم بين معارفهم والأهل، أو خوفهم من أن يكون ما يصيبهم هو كورونا فعلاً.. فيرجعون أعراضَ علّتهم للإنفلونزا العادية.
وإذا ما جرى التأكد من إصابة ما، فليس مضموناً استيعاب صاحبها لخطورة الوضع الذي هو فيه، أو ما يمثله من مصدر خطر على أهله والآخرين: طبيب شاب في إحدى مستشفيات بغداد نشر على صفحته في موقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، صورة له تُظهر ملابسه ممزقةً وكتب معها أن مُراجعاً اعتدى عليه وهدده بمجرد أن أبلغه الطبيب باحتمال إصابته بفيروس كورونا. وحسب منشور الطبيب، فإن المواطن بعد أن أكمل حفلة غضبه في المشفى، هرب.
خلف الأبواب التي أغلقتها الإجراءات الحكومية، يُحتمل وجود ضحايا صامتين لكوفيد-19. يُسكِتُهم الخوف، خوفهم على سمعتهم بين معارفهم والأهل، أو خوفهم من أن يكون ما يصيبهم هو كورونا فعلاً.. فيرجعون أعراضَ علّتهم للإنفلونزا العادية.
أين ذهب المريض الهارب؟ أي طريق سلك؟ ما الوسيلة التي نقلته؟ كم مواطناً اقترب منه خلال رحلته إلى المجهول الذي هرب إليه؟ وهذا حالة واحدة من بين سواها.
حسناً، جميع من قرأ ما كتبه الطبيب بالكفوف والملابس الممزقة، خطرت هذه الأسئلة في باله، ولا إجابة. هي أسئلة تُفسِدُ مسرّات احتفال السلطات بما تسميه "احتواء الأزمة".
لم يعد المعلنُ مقلقاً في العراق، على الرغم من تصدعات الثقة به، وذلك بحكم علم الجميع بتقادم البنية التحتية في المؤسسة الصحية العراقية، وشحة مستلزمات النجاة من هذا الوباء أو شبه انعدامها. القلق كله يختبئ في البيوت أو الملتقيات الشخصية الصغيرة. وهو قد يكون مفيداً... باعتبار النظر للجميع على أنهم حاملو كورونا، والنظر للذات بالنظرة نفسها، علّ ذلك يدفع بمترين إلى الوراء، فيقي صاحبه الإحتمالَ الأسوأ.