في زيارته الأخيرة للرياض (2020/02/19)، أجرى وزير الخارجية الأمريكي مباحثاتٍ متتالية مع الملك السعودي وولي عهده. جاءت الزيارة، حسبما نشر الوزير في تغريدة له في موقع تويتر، تلبيةً لـ "حاجة مستمرة للوقوف مع السعودية في مواجهة سلوك إيران الخبيث في المنطقة". ولتأكيد وصول هذه الرسالة إلى كلّ من الطرف الإيراني وإلى الجمهور السعودي، اهتمت وسائل الإعلام السعودية بتفاصيل التصريحات التي أدلى بها المسؤول الأمريكي، والمقابلات التي قام بها في أثناء زيارته القصيرة للسعودية، وخاصة قيامه بتفقد قاعدة الأمير سلطان الجوية قرب الرياض. وهي القاعدة التي "تستضيف" 2500 عنصرٍ من القوات الأمريكية، وسرباً من طائرات ف-15 التابعة لسلاح الجو الأمريكي وإحدى منظومات صواريخ "باتريوت" التي تديرها تلك القوات.
75 سنة من التبعية
وصل بومبيو إلى الرياض بعد أيام من احتفالات واسعة شهدتها الرياض في الذكرى الخامسة والسبعين لما يسمّيه الإعلام السعودي ب "اللقاء التاريخي" بين الملك عبد العزيز، والرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت، على متن السفينة الأمريكية "كوينسي" في 1945/02/14. وهو اللقاءُ الذي وضع أسس و شروط ضمان توفير الحماية الأمريكية للنظام السعودي.
قبل 75 سنة، كانت أغلب كلفة توفير تلك الحماية تتمثل في حصول الشركات الأمريكية على امتيازاتِ التنقيب عن النفط، وإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في الظهران بالقرب من أكبر حقول النفط السعودية. شيئاً فشيئاً تصاعدت كلفة تلك الحماية لتصل إلى ما وصلت إليه في عهد ترامب. ومعلومٌ أن الرئيس الأمريكي في مقابلة له بثتها قناة فوكس نيوز (2020/01/14) أكد أن السعوديين "أودعوا مليار دولار في البنك" لتغطية مصاريف القوات التي أرسلهاإلى السعودية لحمايتها.
أمن الخليج العربي في المزاد
21-05-2017
كانت الطفرة النفطية في منتصف سبعينيات القرن الماضي،هي المعْبر الذي استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية لإبقاء بلدان الخليج تابعةً لها، على الرغم من التغييرات في شروط تلك التبعية وأسسها. فمنذ بداية تلك الطفرة، برز سباق تسلح إقليمي شجعته الولايات المتحدة الأمريكية وبقية الدول الغربية المصدرة للسلاح. ولم يكن مستغرباً أن يكون أشرس المشاركين في ذلك السباق هما السعودية وإيران الشاهنشاهية - أكثر دول المنطقة تبعية للغرب. وقد أصبح سباق التسلح، ومازال، أهم أدوات ما يُعرف بعمليات "تدوير البترودولار". أي استعادة الدول الغربية للأموال التي دفعتها مقابل شراء النفط. وقتها كان الخليج على ضفتيه سوقاً مفتوحة لسماسرة السلاح، الرسميين وغير الرسميين، وفي معيّتهم خبراء استراتيجيون يحملون تقاريراً ودراسات مفصلة عمّا "تحتاجه" دول المنطقة من أنظمة تسليح وعتاد وتدريب.
في ظل الطفرة النفطية، شهدت المنطقة هوساً جماعياً بين حكام الخليج بالتسوق في أسواق السلاح. بل صارت معارض شركات السلاح تنعقد دورياً في بلدان الخليج. ودخلت هذه الدول في قوائم كبار مستوردي السلاح، وقوائم أكثر الدول إنفاقاً في المجال العسكري.
بعد ما يقارب من أربعة عقود من هوس الهدر العسكري، صار بإمكان الإعلام السعودي في 2018 أن يتباهى مبشراً أن"السعودية تتقدم على روسيا وفرنسا بأكبر ميزانية دفاعية في العالم"،وأنها أصبحت ثالثَ دولة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين. ولا شك أن التباهي قد ازداد بعد أن زادت الميزانية العسكرية في السعودية في العام 2019،وتجاوزت ميزانياتِ دول كبرى مثل روسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والهند.
نتائج الهدر: القوة البحرية السعودية مثالاً
في أواخر خمسينيات القرن الماضي، تشكلت نواة القوات البحرية السعودية من بضعِ قوارب صيد كقوة خفر سواحل. شهدت تلك القوة منذ منتصف السبعينيات نمواً ملحوظاً، إلا أنها ظلت قوة هامشية في المنظومة العسكرية السعودية، ولم تتجاوز مهماتها كقوة لخفر السواحل. وبطبيعة الحال، لم يكن لتلك القوة المتواضعة تأثيرٌ يذكر خارج المياه الإقليمية السعودية.
كانت الطفرة النفطية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، هي المعْبر الذي استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية لإبقاء بلدان الخليج تابعة لها، على الرغم من تغييرات شروط تلك التبعية وأسسها. فمنذ بداية تلك الطفرة، برز سباق تسلح إقليمي شجعته الولايات المتحدة الأمريكية وبقية الدول الغربية المصدّرة للسلاح.
لعبت عوامل تاريخية، وخاصة شروط الوضع الإقليمي وتقاليد الحكم في المملكة منذ تأسيسها في 1932 دوراً في تكريس عدم الاهتمام الرسمي السعودي ببناء القوات البحرية. فهذه مهمات محظورة على المملكة بحكم الوضع القائم في الخليج العربي منذ بداية القرن التاسع عشر. وقد اختصت بها أساطيلُ بريطانيا ومن بعدها الولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا ركز حكام السعودية على بناء قدراتهم العسكرية (الجيش والطيران والحرس الوطني والداخلية) لمواجهة الأخطار الداخلية، وحماية الحدود البرية من اعتدءات أشقائهم في دول الخليج الأخرى.
ينسجم ذلك التوجّه مع ما كان يقدمه المستشارون والخبراء الاستراتيجيون في الغرب، لأصحاب القرار في العائلة الحاكمة في السعودية وغيرها من دول الخليج. فما الداعي، حسب أولئك الخبراء، لهدر الأموال على تطوير القوات البحرية طالما أن دولة عظمى ستتولى حماية الملاحة في الخليج؟ لم تسمح الولايات المتحدة لأيّ من زبائنها في ضفتي الخليج ببناء قواتٍ بحرية، عدا التزود بقوارب الدوريات. وعلى عكس موقف دول الخليج العربية، لم يقبل شاه إيران وقتها بذلك الحظر. بل استفاد من علاقاته الإقليمية لتوسيع هامش حركته في المجال التسليحي، وخاصة في القوة البحرية والتكنولوجيا النووية. وبذلك فتح طريقاً سار عليها من جاؤوا بعده إلى سدّة الحكم في طهران.
على الورق، تتكون القوة البحرية السعودية من إسطولين: إسطولٍ شرقي في "قاعدة الملك عبد العزيز" على ساحل الخليج، وأسطولٍ غربي في "قاعدة الملك فيصل" على ساحل البحر الأحمر. يبالغ بعض الإعلام السعودي حين يعتبر أن القوات البحرية السعودية تُظهِر "سيطرتها على أهم مدخلين مائيين في منطقة الشرق الأوسط" (الرياض، 2015/04/03). إذ لا تزيد معدات الإسطولين عما تملكه القوات البحرية في دول إقليمية أصغر، ويقل إنفاقها العسكري بكثير عمّا تنفقه السعودية. بل ليس لدى البحرية السعودية ما يمكن مقارنته بما في حوزة البحرية الإيرانية من عتاد ومعدات.
تباهى الإعلام السعودي في 2018 بأن "السعودية تتقدم على روسيا وفرنسا بأكبر ميزانية دفاعية في العالم"، وأنها أصبحت ثالثَ دولة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
لم تصبح القوات البحرية كغيرها من أفرع القوات العسكرية والأمنية في السعودية (الجيش والطيران والحرس الوطني والداخلية) مجالاً لتقاسم السلطة بين أجنحة العائلة الحاكمة. ولم يهتم أحدٌ من أولاد الملك عبدالعزيز وأحفاده بالإستحواذ على القوات البحرية أو أن يصبح قائداً فيها.
لم تصبح القوات البحرية كغيرها من أفرع القوات العسكرية والأمنية في السعودية (الجيش والطيران والحرس الوطني والداخلية) مجالاً لتقاسم السلطة بين أجنحة العائلة الحاكمة. ولم يهتم أحدٌ من أولاد الملك عبدالعزيز، وأحفاده بالاستحواذ على القوات البحرية أو أن يصبح قائداً فيها. ترسخت هامشية القوات البحرية التي لم تتجاوز مهماتها القيام بدوريات الحراسة حول الموانئ الرئيسة المطلة على الخليج والبحر الأحمر، بالإضافة إلى المشاركة في المهرجانات والاحتفالات الرسمية وخصوصاً عند زيارة الملك لأحد تلك الموانئ.
غداة زيارة وزير الخارجية الأمريكي مارك بومبيو إلى الرياض، أعلنت السعودية أن قاعدة الملك عبد العزيز البحرية على ساحل الخليج العربي ستشهد انطلاق تمارين بحريةٍ تشارك فيها قواتٌ أمريكية وسعودية. وأكد الإعلان أن "المناورة التمرينية السعودية - الأمريكية هي جزءٌ من سلسلة مناورات وتدريبات مشتركة، تهدف إلى رفع الجاهزية القتالية للحفاظ على حرية الملاحة البحرية. يتضمن التمرين عدداً من المناورات والتدريبات التي تعزز إجراءات الأمن البحري بالمنطقة، وتوحيد مفاهيم أعمال قتال القوات البحرية" (الشرق الأوسط 2020/02/19). تؤكد متابعة وسائل الإعلام السعودية لأخبار المناورة أمرين. أولهما اهتمام القيادة السعودية بتطوير "الجاهزية القتالية" لقواتها المسلحة بما فيها قواتها البحرية. وثانيهما إعلان صمود "الشراكة التاريخية بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية" بعد 75 سنة على قيامها.
لا تخفي الولايات المتحدة الأمريكية أن صفقات التسليح، وبرامج التدريب التي تقدمها للسعودية أو غيرها من دول الخليج هي صفقاتٌ سياسية وتجارية، لا تهدف إلى تغيير موازين القوى في منطقة الخليج خصوصاً ومنطقة الشرق الأوسط عموماً.
لا يتوقع أحدٌ خارج أُطر الإعلام السعودي أن يكون للمناورات التمرينية السعودية - الأمريكية آثارٌ ملموسة أو محتملة على التوازن العسكري في مياه الخليج. فلا تزيد قوة "الإسطول الشرقي" السعودي عن ثلاثة فرقاطات، وعدد محدود من قوارب الدورية يزيد عمر بعضها على عشرين سنة. إلا أن المناورات قد توفر للأمريكيين فرصة إضافية لترويج أنظمة تسليح جديدة، وبرنامج تدريب لم يكن السعوديون على علمٍ بحاجتهم لها. وفي حال تمخضت المناورات المشتركة عن صفقات أسلحة وتدريب جديدة، فلن يعني ذلك تأهيل السعودية للقيام بدورٍ أكبر مما هو منوط بها.
هل يتجه عصر النفط إلى الغروب؟
14-08-2017
في العام 2017، عقدت الولايات المتحدة الأمريكية صفقةً بقيمة 250 مليون دولارٍ أمريكي ل"تجهيز وتدريب سلاح البحرية السعودي". كعادته، هلّل الإعلام السعودي لتلك الصفقة، إلا أن البيان الرسمي الأمريكي عن تلك الصفقة، حسب العادة أيضاً، شدّد على أن"التدريبَ الذي ستوفره هذه الصفقة لن يؤثر على التوازن العسكري في المنطقة". لا تخفي الولايات المتحدة الأمريكية أن صفقاتِ التسليح، وبرامج التدريب التي تقدمها للسعودية، أو غيرها من دول الخليج هي صفقاتٌ سياسية وتجارية لا تهدف إلى تغيير موازين القوى في منطقة الخليج خصوصاً، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً. وهذا من ثوابت السياسة الأمريكية تجاه هذه المنطقة، والتي يحرص المسؤولون الأمريكيون على تأكيدها في جلسات الاستماع التي تعقدها اللجان المختصة في الكونغرس الأمريكي منذ منتصف السبعينيات الفائتة وحتى الآن. وبسبب تكرارها، فلم تعد تلك التأكيدات تثير اهتماماً أو استغراباً!