الجغرافيا والتاريخ وظروف النشأة والتشكّل المرتبطة بعقود ومصالح الدول الراعية والحامية (بريطانيا اولاً ثم أميركا ثانياً).. كلّها جعلت من الخلافات المتواترة، والسريّة غالباً، القاعدة السائدة في العلاقات الخليجية البينيّة. وربما كان الاستثناء الوحيد فيها هو التصافي بين إمارات الساحل المتصالح السبع، أبو ظبي ودبي والشارقة وعجمان والفجيرة ورأس الخيمة وأم القيوين، التي توافقت فيما بينها على إقامة كيان سياسي يجمعها كدولة اتحادية واحدة.
كانت سياسة "فرّق تسد" الاستعمارية قد تلاقحت مع نزعة الانغلاق القبلي والتشيّخ والتنازع الانعزالي على الموارد عند اغلب شيوخ قبائل وعائلات البادية الخليجية. فالخلافات الحدودية البحريّة والبريّة ما زالت تقدح شرراً ظاهراً للعيان، خاصة إذا توجست الأطراف المعنيّة بما يشي بوجود روائح يعطّ منها رذاذ من ماء الذهب الأسود أو الغاز الساخن، وهو سبب كافٍ في عرفهم للتقاتل والتناحر، وكأنهم يتنازعون على بئر ماء او مراعٍ دونها الهلاك جوعاً وقحطاً وتيبساً
ما من دولة من الدول الست لم تدخل في خلافات مزمنة أو طارئة مع جارتها، أو مع مجموع جاراتها الواقعات على حدودها: الخلاف السعودي ــ الكويتي (قبل وبعد استقلال الكويت) على حقول النفط المشتركة في المنطقة المحايدة، الخلاف السعودي ــ البحريني على عائدية حقل "فشت أبو سعفة" الواقع في الحدود البحرية بين البلدين، الخلاف السعودي ــ الإماراتي حول "خور العديد" الذي تقع فيه قرابة 80 في المئة من آبار حقل "الشيبة" النفطي، الخلاف السعودي ــ العماني ــ الإماراتي حول "واحة البريمي"، الخلاف الإماراتي ــ القطري حول حدود الجرف البحري، الخلاف القطري ــ البحريني حول عائدية مجموعة جزر صغيرة تقع بين البلدين ومنها جزيرة "حوار" (حتى أن الخلاف عُرض على محكمة العدل الدولية، وكان التحكيم ليس على هوى دولة قطر)، الخلاف القطري ــ السعودي حول ترسيم الحدود البريّة، وواقعة مركز "الخفوس" الحدودي عام 1992 الذي جرى فيه تصادم مسلح أدى إلى سقوط ضحايا من الجانبين خير شاهد، وقبلها في عام 1974 اعترضت السعودية على مشروع مد خط أنابيب نقل الغاز القطري إلى الإمارات براً عبر المنطقة الحدودية المشتركة المطلّة على خور العديد باعتبارها أرضاً إماراتية، لكن المشروع لقي رفضاً سعودياً قاطعاً بدعوى الأمن القومي السعودي، ولوجود مبادلة حدودية سابقة بين الإمارات والسعودية متعلقة بواحة البريمي، وعليه حُرمت قطر والإمارات من التجاور البري وبالتالي من مد أنبوب الغاز إلى الامارات. والملفت أن السعودية رفضت حينها مدّ أي جسر بحري بين قطر والإمارات، أو مدّ الانبوب الغازي عبر البحر إليها. وهذا ما جعل الضغائن تستعر بالخفاء على الرغم من كلّ مظاهر الأخوّة الشكليّة التي يصوّرها الإعلام، بل على الرغم من وجود مجلس التعاون الخليجي الذي تشكّل منذ عام 1981، والذي لم يفشل في تلبية تطلعات أهل الخليج بالتكامل والتضامن والحرص المشترك وحسب، إنما لم يحلّ أياً من مشكلات وخلافات منتسبيه. حتى أنه زادها تعقيداً عندما صار التباري على قيادته واحدة من أسباب التنافر والتنابز والتشايخ بين دوله، ومنها المشكلة الأخيرة التي تحولت الى مأزق وضع المجلس وكلّ مؤسساته ودوله على المحك.
من الرابح يا ترى؟
محمد الشمري - العراق
قيل قديماً ان التخمة بعد العوز تعلّم صاحبها الأنانية. ويبدو أن تخمة ملوك وأمراء الخليج بعد الفورة النفطية والغازية قد زادتهم أنانية. وعلى الرغم من كلّ التجارب المريرة، ما زلوا يتلذذون في تسعير جذوتها وتسقيط مفاعيلها على كلّ صغائر وكبائر ما بينهم من علاقات يدّعون أنها أكثر من أخوية وأكثر من وجوديّة. ويبدو أن هناك حسابات غير ناضجة استراتيجياً وسياسياً تجعلهم لا يستشعرون حتى الآن مخاطر الإفراط الساذج، وأحياناً المزاجي، بتلك النزعة الأنانية غير السويّة، وما يمكن أن تؤدي إليه من مضاعفات قد تشعل الأخضر واليابس في منطقة كلّ ما فيها من ثروات وحسابات تساعد على الاشتعال. من الثابت أن تخادم نزعة الاستحواذ الأناني مع سياسة فرّق تسد التي تستثمرها الدول الكبرى الطامعة بثروات دول الخليج، يجعلها عرضة بين الحين والآخر لهزّات عنيفة، الخاسر الأكبر فيها دول الخليج مجتمعة، حتى وإن حصل بعضها على مكاسب آنية على حساب البعض الآخر. وسيكون الرابح الأكبر حتماً الدول الكبرى نفسها وشركاتها الاستثمارية. فسوق السلاح تنتعش ومعها الصفقات المليارية، إضافة إلى الأتاوات والرشاوى الفلكيّة المغلفة برداء المشاريع النفطية والغازية وأسهم وسندات الصناديق السيادية.
الضغائن تستعر بالخفاء على الرغم من كلّ مظاهر الأخوّة الشكليّة التي يصوّرها الإعلام، بل على الرغم من وجود "مجلس التعاون الخليجي" الذي تَشكّل منذ عام 1981، والذي لم يفشل في تلبية تطلعات أهل الخليج بالتكامل والتضامن والحرص المشترك وحسب، إنما لم يحلّ أياً من مشكلات وخلافات منتسبيه.
وللتدليل وليس حصراً: حصيلة زيارة ترامب الأخيرة للملكة العربية السعودية التي شهدت إبرام أضخم الصفقات العسكرية والاستثمارية بين البلدين، في مجالات الطاقة والنفط والغاز ومشتقاته، وفي الصناعات البترو كيمياوية، بكلفة إجمالية تقدّر بنحو 400 مليار دولار، منها 27 في المئة للتسليح والتصنيع العسكري، وجلّها لأهداف سياسية تعزّز من موقع ترامب في البيت الأبيض، إلى جانب كسب موقفه الإيجابي نحو الرؤية السعودية الحالية داخلياً وخارجياً. داخلياً بإعطاء الضوء الأخضر لترتيبات الملك سلمان وولاية عهده، أي تسويق نجله محمد ليكون الملك القادم على حساب محمد بن نايف المقرّب أميركياً، وإقليميا بدعم السياسة السعودية في اليمن وتجنيبها انتقادات مجلس الأمن، ودعم موقفها تجاه إيران وما يترتب عليه من تفاصيل!
الشقيقة الكبرى أم الطامة الكبرى؟
تاريخياً، لم تتعامل السعودية مع شقيقاتها الخليجيات تعامل الشقيقة الكبرى التي تحرص على سلامة ونمو واستقرار أخواتها، كون الجميع في أسرة خليجية واحدة, بل على العكس، فإن الصراعات الحدوديّة كانت معظمها بين السعودية والدول الخليجية الخمسة. وهي لا تتوانى على اقتناص الفرص لقضم وضمّ ما أمكنها من أراضي تلك الدول. فقد حاولت في منتصف القرن الماضي ضمّ قطر إليها، لولا اتفاقية الحماية البريطانية التي أجبرتها لاحقاً على ترسيم حدودها معها. وكان حكام السعودية غير مرحبين بعمل شركات التنقيب في قطر. وعندما اكتشف الغاز القطري بكميات مهولة عام 1971، كان حكّام السعودية يرون في ذلك تهديداً لنفوذهم، أولا من جهة القدرات المالية الوفيرة، وثانياً من جهة تفرّدها الغازي، أي عدم تأثرها بالثقل النفطي السعودي. وهذه الميّزات غير متوفّرة للبحرين مثلاً، التي ليس لديها عوائد كبيرة، وهي تخضع لمشاكل مزمنة داخلياً تجعلها بحاجة للدعم السعودي.
الرابح هو حتماً الدول الكبرى نفسها وشركاتها الاستثمارية. فسوق السلاح تنتعش ومعها الصفقات المليارية، إضافة إلى الأتاوات والرشاوى الفلكيّة المغلفة برداء المشاريع النفطية والغازية وأسهم وسندات الصناديق السيادية.
... ولكن، ماذا نسمي الدعم السعودي للكويت أثناء فترة اجتياحها من قبل العراق؟ وماذا عن دعمها النوعي للبحرين، وخاصة دخول قوات "درع الجزيرة"، وأغلبها من السعوديين، لحماية البحرين من التدخلات الإيرانية ومن الاضطرابات الداخلية؟ الإجابة ليست مستعصية إذا تفهمنا إحساس السعودية باعتبار دول الخليج مجالاً حيوياً حصرياً لها، بالتوافق مع الدول الكبرى الحامية. ومن الواضح هنا أن عُمان هي الدولة الخليجية الوحيدة التي يصعب على السعودية إخضاعها، لاعتبارات عديدة منها قدمها ككيان، وخصوصيتها المذهبية، وموقعها الذي يحصّنها من الغزوات البريّة بحكم وجود الربع الخالي على أغلب حدودها مع السعودية. ومع ذلك حاولت المملكة التمدّد عبر واحة البريمي، لكنها لقيت مقاومة عمانية وتمنّعاً بريطانياً. كما هددت عُمان بالانسحاب من مجلس التعاون الخليجي إذا أصرّت السعودية على تحويله إلى اتحاد خليجي تقوده هي بغاية الهيمنة وبحجّة التصدي للأطماع الإيرانية!
قطر والسعودية: اللعب على المكشوف
حاولت قطر، وما تزال، أن تفلت من واقع الهيمنة السعودية، وأن تتميز عن البحرين والإمارات والكويت بعلاقاتها النديّة معها. فهي لن تنسى إدعاءات السعودية بأنها جزء من منطقة الإحساء، وكذلك بأن السعودية هي السبب بقضم الشريط الحدودي بينها وبين الإمارات، وبأنها عرقلت وما تزال مشروع مدّ أنابيب الغاز القطري إلى دول الخليج. ولم ينسَ أميرها السابق، والد أميرها الحالي، أن السعودية حاولت التدخل بخلافات الأسرة الحاكمة عندما دعمت مع أبو ظبي المحاولة الانقلابيّة بهدف عودة الأمير المخلوع خليفة آل ثاني إلى حكم البلاد بدلاً من ابنه الأمير حمد. ومن جانبها، لن تهضم السعودية أو تتقبل النهج القطري الذي يغرّد خارج السرب السعودي. فقطر تدعم الاخوان المسلمين الذين لا تطيقهم السعودية، ولقطر علاقات طيّبة مع إيران و"حزب الله" و"حماس" وهذا عكس الاتجاه السعودي، وقطر من يموّل قناة الجزيرة التي لعبت دوراً مبكراً في إثارة الرأي العام وفي النقد والتحريض على الأنظمة العربية، وقطر تتبنى موقفاً مختلفاً من الوضع السوري هو الأقرب إلى تركيا منه للسعودية، وقطر تعادي النظام المصري بينما لا تجد فيه السعودية غير حليف يستحق الدعم. أمّا المشتركات فهي ما زالت باقية، وعلى رأسها سياسة التطبيع مع إسرائيل، في السرّ أولاً ثم في العلن، وسياسة الاحتماء بالأميركان مقابل تلبية ما يؤمن مصالحهم النفطية والغازية والاستراتيجية في الخليج تحديداً. وهذه المشتركات من القوة بحيث أنها ستصمد بوجه المفرِّقات، مما يعني أن الأزمة إلى زوال بعد أن حققت أغراضها سعودياً وخليجياً وربما مصرياً أيضاً. إلا إذا كانت المشتركات ذاتها، أميركا وإسرائيل، تغذّي الأزمة ابتزازاً لأطرافها جميعاً، وتحديداً قطر التي لم تفتح كيسها بما يكفي لتقدّم ما يلزم من شروط الطاعة الدولارية.
الاستثناء الوحيد في الأزمة الخليجية الأخيرة بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من الجهة الأخرى، كونها أول أزمة علنيّة تأخذ هذه المديات الحادة. وكونها أيضاً أول أزمة جماعيّة، فهناك ثلاث دول خليجية، مضافاً لها مصر، تقاطع دولة واحدة وتحاول ليّ ذراعها.