أطفال مصر يهاجرون وحدهم في زوارق الموت

تتوالى أنباء أولئك الفارّين من معيشة ضنك في مصر إلى الشاطئ الآخر من المتوسط بحثا عن حياة لا تشبه الموت. أنباء عن توقيفهم، ليُعيدوا المحاولة من بعد مرات، أو غرقهم - مع أحلامهم البسيطة - في البحر، بعد أن استقلوا قوارب غير صالحة في رحلة هجرة غير شرعية. أطفال في شهر تشرين الاول/أكتوبر الماضي، صرحت وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج بأن مركبا
2016-01-17

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
أمجد غنّام - فلسطين

تتوالى أنباء أولئك الفارّين من معيشة ضنك في مصر إلى الشاطئ الآخر من المتوسط بحثا عن حياة لا تشبه الموت. أنباء عن توقيفهم، ليُعيدوا المحاولة من بعد مرات، أو غرقهم - مع أحلامهم البسيطة - في البحر، بعد أن استقلوا قوارب غير صالحة في رحلة هجرة غير شرعية.

أطفال

في شهر تشرين الاول/أكتوبر الماضي، صرحت وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج بأن مركبا على متنه 560 طفلا مصريا في هجرة غير شرعية وصلت إلى سواحل إيطاليا، بعضهم لا يتجاوز عمره 11 عاما. أثار الخبر فزعا واستياء، بالرغم من أن وجود أطفال بين المهاجرين غير الشرعيين من مصر أمر ليس بجديد، بل إن 60 في المئة من المهاجرين المصريين غير الشرعيين -كما ذكر سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر في أيلول/ سبتمبر الماضي- أطفال وقصّر. ووفقا لمركز الأمم المتحدة للإعلام بالقاهرة، فإنه في أواخر شهر آب/ أغسطس الماضي، تمّ إنقاذ قارب كان يحمل 183 مهاجراً مصرياً بالقرب من جزيرة كريت، وكانت الأغلبية الساحقة من ركاب القارب أطفالًا غير مصحوبين، وأن هذه الحادثة جزء من ظاهرة متنامية للهجرة غير الشرعية للأطفال المصريين ترصدها المنظمة الدولية للهجرة منذ خمس سنوات. "وفي عام 2014، كان 49 في المئة من جملة 4095 مصرياً وصلوا إيطاليا على متن زوارق المهربين من الأطفال غير المصحوبين، وذلك بالمقارنة مع نسبة 28 في المئة فقط عام 2011. ولقد استمر هذا الاتجاه التصاعدي في عام 2015. ويمثل المصريون أعلى نسبة من الأطفال غير المصحوبين بين المهاجرين غير الشرعيين. وفي آب/ أغسطس 2015، كانت مصر أكبر دولة مصدرة لهؤلاء الأطفال غير المصحوبين، حيث وصل منهم 495 طفلاً إلى شواطئ إيطاليا في ذلك الشهر وحده. ووفقا للمركز أيضا فإن فريقا من مكتب المنظمة الدولية للهجرة في مصر التقى هؤلاء الأطفال وغيرهم في ستة ملاجئ في اليونان، وقد أخبرهم الأطفال بأن القارب كان قد أبحر من مدينة بلطيم المصرية المطلة على البحر المتوسط متجهاً نحو إيطاليا، وكان الترتيب هو أن يدفع المهاجرون أموالاً للمهربين فور وصولهم إلى أوروبا. وذكر معظمهم أنهم تعرضوا للاعتداء الجسدي واللفظي من قبل المهربين، فضلا عن عدم حصولهم على ما يكفي من الطعام والمياه طوال الرحلة المحفوفة بالمخاطر. وقال العديد منهم إنهم المعيلون الرئيسيون لأسرهم. وكان بعضهم هو من قرر بشكل مستقل القيام بهذه الرحلة الخطرة بينما كان القرار بالنسبة للآخرين بالاشتراك مع أسرهم. وقد قالوا جميعا إنهم كانوا لا يرون لأنفسهم مستقبلا في مجتمعاتهم الفقيرة، وإن معظمهم اضطروا إلى ترك الدراسة والعمل لمساعدة أسرهم.

..وشبان

في عام 2010، أصدر المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة دراسة بعنوان "الشباب المصري والهجرة غير الشرعية"، اعتمدت في جانبها الميداني على إجراء مقابلات معمقة مع عينة ممن خاضوا تجربة الهجرة غير الشرعية قبل أن تتم اعادة ترحيلهم إلى مصر، وهم ينتمون إلى قرى بمحافظتَي الدقهلية والفيوم، المحافظتان اللتان شهدتا – وفقا للبيانات الرسمية - أكبر نسبة من الشباب المهاجر بطريقة غير شرعية خلال الفترة الزمنية السابقة لإجراء البحث. 59 في المئة من أفراد العينة يقعون في الفئة العمرية من 20 إلى أقل من 35 عاما، و21.7 في المئة أقل من 20 عاما، و19.2 في المئة من 35 عاما فأكثر. ثلثا العينة من العزّاب وأقل من الثلث بقليل متزوجون. وهم يمثلون إما أبناء داخل أسرهم (67.5 في المئة) أو آباء (24.1 في المئة) أو إخوة (4.7 في المئة). أكثر من نصفهم حاصلون على مؤهل متوسط، و13.1 في المئة على الشهادة الإعدادية، و11.3 في المئة أميون، و10 في المئة على مؤهل فوق متوسط أو جامعي. 60 في المئة منهم كانوا يعملون – قبل سفرهم - كحرفيين، و31 في المئة في مهن لا تحتاج إلى مهارة وكباعة جائلين. ولوحظ عموما انخفاض مستوى دخولهم حيث بلغ متوسط الدخل الشهري للمهاجر أقل من 300 جنيه. الأسباب التي دفعتهم للسفر متعددة ومتشابكة: تحقيق مال وتحسين الأحوال الاقتصادية (40.4 في المئة)، تجهيز النفس لمتطلبات الزواج (30.8 في المئة)، إيجاد فرصة عمل (30.5 في المئة) الظروف المعيشية السيئة (28.3 في المئة)، الغلاء وارتفاع الأسعار (15.5 في المئة)، الزواج (14 في المئة).. وتشير الدراسة إلى تأثير بعض أبناء القرية ممن سافروا وعادوا محققين نجاحات على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، مما يدفع الآخرين إلى محاكاتهم. أما عن التفكير في تأسيس مشروع حر فبعضهم أسس مشروعا بالفعل، سواء كان أعمالا تجارية أو مزرعة دواجن أو مطعم أو كافيتيريا، ولكنهم في النهاية تركوه وسافروا، إما لعدم نجاحه أو لأن السفر سوف يجلب لهم مالا أكثر. وعن سبب لجوئهم للهجرة غير الشرعية قالوا إنه لا يوجد بديل أمامهم للسفر بشكل قانوني، فما يقرب من 40 في المئة منهم حاولوا السفر بطريقة قانونية ولكنهم لم يستطيعوا الحصول على تأشيرة سفر، أو لتعقد الإجراءات، وهناك من سافر ولكنه فشل وعاد. ومثّلت إيطاليا الدولة الرئيسية التي يتجه إليها المهاجرون بنسبة 66.3 في المئة تليها بفارق كبير اليونان (13.5 في المئة). أكثر من نصف أفراد العينة لم تكن تلك هي محاولتهم الأولى للهجرة غير الشرعية، بعضهم حاول حتى 3 مرات ونسبة أقل حاولت حتى 6 او 7 مرات. وقد وفروا المبالغ التي طلبها منهم السماسرة أو الوسطاء - والتي قال معظمهم إنها تراوحت بين 10 آلاف إلى 20 ألف جنيه أو أكثر - إما عن طريق الاستدانة أو بيع ممتلكات أو أنها كانت متوفرة لديهم. انتهت الرحلة – التي كانت غالبا بدون خط سير واضح -  لدى 69.7 في المئة منهم بالقبض عليهم وترحيلهم، بينما وصل 22.7 في المئة إلى دولة المقصد. وكانت الوظيفة التي سافر الشباب للعمل بها أو كان يتوقع أن يعمل بها غير محددة، وتنوعت ما بين الأعمال الخدمية (47.1 في المئة) وأعمال السياحة (26.5 في المئة) والزراعة (8.8 في المئة)، ولكن أكثر من نصفهم لم يجدوا العمل المقصود، واضطروا إلى قبول وظائف غير مناسبة أو غير لائقة في نظرهم، تتمثل في جمع القمامة وتنظيف السيارات وبيع الصحف والخدمة في المقاهي حتى يتمكنوا من تعويض المبلغ الذي دفعوه للهجرة، أو كوضع مؤقت حتى يجدوا العمل المناسب، أو لجمع ثمن رحلة العودة. وكان الأجر الشهري من هذه الوظائف كبيرا يتراوح ما بين الألف والتسعة آلاف جنيه. إلا أن بعض الشباب (19.6 في المئة) قال إن هناك من يأخذ نسبة من هذا الراتب، سواء كان صاحب العمل أو الوسيط في بلدته.
وبسؤال الشباب عما إذا كانت هناك أعمال غير مشروعة عُرضت عليهم للعمل بها مقابل إقامتهم واستمرار هجرتهم غير المشروعة أو مقابل التستر عليهم وإيوائهم، أجاب بنعم 16.3 في المئة، وتنوعت هذه الأعمال ما بين الاتجار بالمخدرات (66.7 في المئة) أو أعمال دعارة (13.3 في المئة). وانتهى الامر بالقبض عليهم وترحيلهم (32.6 في المئة) أو الإبلاغ عنهم من قبل بعض الأشخاص (21.7 في المئة) أو بتسليم أنفسهم (16.5 في المئة) بعد أن ضاقوا بمطاردة الشرطة لهم. وأجاب 77.1 في المئة بأنهم سيحاولون السفر مرة أخرى سواء بصفة شرعية أو غير شرعية. وعلى الرغم من المخاطر التي تعرضوا لها، أجاب أكثر من 40 في المئة بأنهم سيحاولون السفر بطريقة غير شرعية إذا لم تتوفر لهم فرصة للهجرة الشرعية. ويرى 73.4 في المئة منهم أن الشباب المهاجر بطريقة غير شرعية هو ضحية لظروف مجتمعه وللظروف الاقتصادية والأسرية. وكان رأيهم لمواجهة الظاهرة إتاحة تأشيرات وفتح طريق الهجرة أمام الجميع (47.8 في المئة) أو توفير فرص عمل في مصر بعائد مناسب (39.4 في المئة).

أبحاث وقوانين وتحريم..

بحث ميداني جديد بصدد الصدور أعده المركز نفسه بتكليف من "اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية"، ونُشِرَت نتائجه الأولية التي تشير إلى وجود 10 محافظات رئيسية مصدِّرة للهجرة في مصر هي الشرقية، الدقهلية، القليوبية، المنوفية، الغربية، البحيرة، كفر الشيخ في الوجه البحري، والفيوم وأسيوط والأقصر في الوجه القبلي . ولكن ما الذي يمكن أن يضيفه هذا البحث إلى ما كشفت عنه الدراسات السابقة ما دامت الأوضاع الاقتصادية التي تمثل الدوافع الأساسية للهجرة قائمة لم تتغير.. أو لعلها تزداد بؤسا. المشكلة لا تحتاج إلى مزيد من الدراسات بقدر ما تحتاج إلى تنفيذ الحلول التي توصل إليها الباحثون من قبل. ومؤخرا وافق مجلس الوزراء على مشروع قرار رئيس الجمهورية بإصدار قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين، والذي ينص من بين ما ينص على عقوبات بالسجن أو بالغرامة أو بكليهما على من يرتكب جريمة تهريب المهاجرين أو يشرع فيها أو يتوسط في ذلك. وفقا لمدير مكتب المنظمة الدولية للهجرة في مصر، فإن هذا القانون سوف يعزز الحماية للمهاجرين غير الشرعيين ويمكّن من مقاضاة المهربين بما يتماشى مع المعايير الدولية. ولكن متى كان القانون وحده قادرا على حل مشكلة دون إزالة أسبابها الحقيقية؟ مع استمرار ضغط الفقر والحاجة، فلا قانون يجدي ولا حملة لنشر الوعي بمخاطر الهجرة غير الشرعية كتلك التي تقوم بها حاليّا وزيرة الهجرة، ولا بيان من دار الإفتاء يفيد بحرمة الهجرة غير الشرعية لما يترتب عليها من المخالفات والمفاسد، "أولها" - وفقاً لما جاء في البيان الصادر مؤخرا - أنها تنطوي على مخالفة ولي الأمر، وهذه المخالفة غير جائزة ما دام أن ولي الأمر أو الحاكم لم يأمر بمُحَرَّم... (وأنّ) الواجب له على الرعية الطاعةُ والنُصرة!! لم يتحدث البيان أو حتى يومئ بإشارة إلى واجبات هذا الحاكم ومسؤوليته عن الأوضاع التي دفعت بهؤلاء الشباب إلى أن"يوردوا أنفسهم موارد التهلكة".

"أمكم مصر بتناديكم"

قالت وزيرة الهجرة إن مصر كالأم التي تنادي أبناءها بالخارج، مطالبة المهاجرين بالعودة لمصر قائلة "أمكم مصر بتقول لكم ارجعوا عشان هي محتاجة مساعدتكم". تصريح أثار موجة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد ذكّرني كلام الوزيرة هذا بمؤتمر عقدته العام الماضي وزارة الشباب بحضور رئيس الوزراء آنذاك، قيل عنه إنه "المؤتمر القومي للهجرة غير الشرعية"، تحت عنوان "بلدنا أولى بينا". إنها سياسة المرحلة إذاً، استثارة مشاعر وطنية زائفة بالحديث المتكرر عن مصر بلدنا، أم الدنيا، التي تحتاج لسواعد أبنائها كي يبنوها، وهو ما لا يجد له المواطن أي صدى في حياته التي تزداد بؤسا بارتفاع الأسعار وتدني الأجور وتفشي البطالة وتردي أوضاع الصحة والتعليم. "نجوع بس نبني بلدنا"، عبارة قالها السيسي مؤخرا في لقاء تلفزيوني، ولكنه لم يخبرنا من الذي سوف يجوع تحديدا.. شعارات ليست بقادرة على أن تعيد البسمة أو الإحساس بالأمان إلى طفل من هؤلاء المهاجرين، ولا الطمأنينة إلى قلب أمه. وهي – على كثرة ما تتردد على ألسنة السياسيين والإعلاميين وفي طوفان الأغاني الوطنية الذي يُغرقنا - لن تغير شيئا من حقيقة أن هناك 11 مليون عاطل عن العمل في مصر وأن أكثر من ربع المصريين يعيشون تحت خط الفقر (وفقا للإحصائيات الرسمية)، وأن هناك نظاما ينخره الفساد الذي يدفع المواطنون "العاديون" وحدهم تكلفته الباهظة. لن تغير شيئا من حقيقة أن مصر – بأوضاعها الحاليّة - بلد يدفع أبناءه كي يديروا له ظهورهم ويولوا عنه نحو المجهول، حتى إن كان ذاك المجهول يحمل لهم الموتَ بين طيّاته.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...