على شرفتي المطلّة على شارع "طريق الميناء" في مدينتي طرابلس/ لبنان، وقفتُ مستطلعًا ما يجري. شبّان في سنّ المراهقة زحفوا بالعشرات، وهم يطلقون ملء حناجرهم صيحات "دم السنّة عم يغلي غلي". قبل دقائق قليلة من الليلة ذاتها، يُظهر فيديو تمّ تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي، شبّانًا يهتفون من وسط بيروت شعاراتٍ مسيئةٍ لرموز "الطائفة السنية"، فيما بدا أنّه ردّ على فيديو آخر تم تسريبه في اليوم السابق، يظهر رجلاً يتوعّد "الشيعة" ويهينهم. نجم الفيلم - الفتنة، عُلم في وقت لاحق أنّه من مدينة طرابلس ومقيم في إحدى الدول الأوروبية، ليقوم هو نفسه بالاعتذار عمّا صدر منه "تحت تأثير الكحول والغضب الشديد".
كإعصار كاسح، راجِلين وعلى درّاجات ناريّة، اندفع الشبّان في الشارع الذي يقطنه عدد من رجالات السياسة، محطِّمين كلّ ما اعترض طريقهم من حاويات وحواجز حديديّة وأحواض مزروعات. محطّتهم الأولى بيت المفتي. دمّروا غرفة الحراسة وأصدروا ضجيجاً وصراخاً فاقت أصداؤه ما خلّفوه من أضرار. فيما انشغل البعض الآخر بالسطو على ما وقعت عليه أيديهم من غنائم. وبخفّة متناهية، أشعلوا حاويات القمامة، وسدّوا بها الطريق، في عملية تحوّلت بالنسبة لهم إلى طقس ثابت في رزنامة ثورة طرابلس.
مشهد الهستيريا الطائفية الملازِم لأحداث عصفت بالمنطقة على مدى السنوات الماضية، لم يبدُ لي على مستوى الفتن والحروب التي أمكن له أن يشعلها. الفتية المنتفضون لسنيّتهم، هم أنفسهم لم يبدُ على ملامحهم الغاضبة أيّ استعداد لخوض معركة من هذا النوع. لا يكاد المشهد هنا يخرج عن كونه فورة مدفوعة بحماسة "ثوريّة"، يمتهن استنفارها واستثمارها مختصّون في توجيه أبناء أحياء المدينة الفقيرة وتعبئتهم.
في مؤخرّة المسيرة، آخرون أقلّ غضباً عملوا على إماطة ما رماه رفاقهم من حطام في وسط الطريق. شابّان تخلّفا عن جموع "الغزاة"، توقفا تحت شرفتي. يهمس أحدهما للآخر: "أليس سكّان هذا الشارع من السنّة؟" مرفَقاً بشتائم من عيار "هيلا هو"، يأتيه الجواب حاسماً: "كلّن يعني كلّن".
آخ يا طرابلس!
18-07-2019
إبّان جولات الاقتتال العبثي مطلع العقد الماضي على جبهة حيي باب التبّانة وجبل محسن المتقابلين (على اساس ان أحدهما يسكنه مواطنون من الطائفة العلوية والآخر من الطائفة السنيّة)، انقسمت أحياء المدينة إلى شطرين، أحدهما في مرمى النيران، قديم وفقير، وآخر حديث وأوفر حظاً، نَعِم أهاليه بحياة شبه طبيعية، فبقيت المقاهي، على وقع القذائف والرصاص، عامرةً بروّادها حتى في ذروة الاشتباكات. بدورها، "نخب" المدينة عاشت ضياعاً في الخطاب أقرب إلى الإنكار، فاقتصرت الحملات المدنيّة على مطالبة الدولة بالضرب بيد من حديد وسحب السلاح من "زعران"، هم في وجدان آخرين "قبضايات" المناطق الشعبية وحُماتها.
بدا الهمّ الدائم للنخبة هو الدفع ببراءة نسختهم للمدينة من "غوغاء" لا يُظهر الإعلام سواهم، في محاولة منه "خسيسة" و"مجحفة" لتنميط الشعب الطرابلسي. وعندما كان المجتمع المدني المحليّ يُطلق حملة إعلانية بشعارات مثل "طرابلس بدا ترجع تسهر"، "ما عم نعرف ننام" و"فقع راسنا"، في تعبير عن تذمّر شطر المدينة المحظيّ مما يجري، كان سكّان محاور القتال محاصرين في بيوتهم، يحصد رصاص القنّاصة أرواحهم.
إبّان جولات الاقتتال العبثي مطلع العقد الماضي على جبهة حيي باب التبّانة وجبل محسن المتقابلين، انقسمت أحياء المدينة إلى شطرين، أحدهما في مرمى النيران، قديم وفقير، وآخر حديث وأوفر حظاً، نَعِم أهاليه بحياة شبه طبيعية، فبقيت المقاهي، على وقع القذائف والرصاص، عامرةً بروّادها حتى في ذروة الاشتباكات.
لكن حالة الانفصام هذه ليست مستجدّة في طرابلس. ثورة 1958، "دولة المطلوبين"، "إمارة التوحيد"، وحصار الجيش السوري..ثورات ومحطّات تاريخية كرّست انقساماً جغرافياً ذا أبعاد طبقية واجتماعية. فقد تخلّت تدريجياً الفئة الميسورة من عائلات المدينة عن الأحياء الشعبيّة الحاضنة لذاكرتها الجمعيّة. وفي عزّ الأزمات انكفأت عن الشأن العام، مفوّضة أمر تمثيلها في النظام اللبناني إلى زعماء تقليديين، في تحالف عائلي -رأسمالي - نخبوي لم ينفصم عقده حتى تاريخنا.
على هامش المنظومة العائلية الحاكمة، أغلبية عدديّة مسحوقة ما زالت تتعثّر في محاولاتها المتكرّرة لفرز قيادات من رحم المعاناة والتهميش. وفي ظلّ الحضور الباهت للدولة وغياب العدالة الاجتماعية، لم تجد هذه الشريحة ملجأً سوى "عطف" الزعامات التقليدية، واستمرّت في منحهم أصواتًا انتخابية وشرفاتٍ مهترئةً تُرفع عليها صورهم العملاقة. هذه العلاقة الملتبسة بين المنظومة الحاكمة والفئات المهمّشة أمست معبرالأخيرة الوحيد إلى تحصيل الخدمات العامة من طبابة وتعليم وشغل وحلّ ملفّات قضائيّة وأمنيّة.
تخلّت الفئة الميسورة من عائلات المدينة تدريجياً عن الأحياء الشعبية الحاضنة لذاكرتها الجمعيّة. وفي عزّ الأزمات، انكفأت عن الشأن العام، مفوّضة أمر تمثيلها في النظام اللبناني إلى زعماء تقليديين، في تحالف عائلي - رأسمالي - نخبوي لم ينفصم عقده حتى تاريخنا.
"نحن في السلطة أو خذوا حرباً طائفية وانهياراً اقتصادياً". هي المعادلة التي أوصلت تحالف أمراء الحرب وسماسرة رأس المال إلى سدة الحكم في نظام ما بعد الحرب الأهلية. هي المعادلة التي تحمي وجودهم اليوم، لذا يتفانون في سبيل إرسائها، ويتفنّنون في ابتزاز الشعب اللبناني بها.
واقع طرابلس السياسي ما هو إلا نموذج فاقع لتغوّل الطبقة اللبنانية الحاكمة. حَقّ للناس أن تنتفض، وفي طرابلس، أفقر المدن على ساحل المتوسّط، شيء طبيعي بظل نظام أثبت فشله، أن يكون لكل تيار تغييري أحلامه وأن يعبّر عنها، سواء كانت انفصالية، وحدوية، لبرالية أو يسارية... لكن لا شيء من هذا يعبّر عن الانتفاضة مطلقاً.هذه الانتفاضة، وقودها الحقيقي هو وجع الناس المسحوقين الذين لا يأبهون للأيديولوجيات ولا إلى شكل الدولة والنظام. كل ما يحلمون به هو العتبة الأولى من سلم الحاجات الأساسية.
____________
اقرأ/ي أيضا
مدينة طرابلس: من يقوى على الحلم؟
____________
إن تطوّر الأحداث يوشك أن يتحوّل بالمشهد إلى ثورة شعبيّة حقيقيّة تطيح بالجميع. نعم، "كلّن يعني كلّن"، بما في ذلك الشريحة الاجتماعية التي نأت بنفسها في الحرب، وامتثلت في السلم لأمر واقع أمّن لها رفاهية الانتفاع من السلطة ومنظومتها الفاسدة. هؤلاء، كما سلطة الفساد، متضررون من الثورة، في المدى القريب، لأنّ لهم مصالح مكتسبة في ظل هذا النظام. أما أولئك الذين ليس لديهم ما يخسرونه، فلم تعد صناديق المعونة الآتية من شطر المدينة المرفّه، تكفيراً عن صمته الطويل، تكفي للجم غضبهم. غضب تعرف السلطة وأجهزتها كيف توظّفه في صالحها. وحدهم المعنيّون بحماية النظام، يفهمون نبض الشعب وديناميات الشارع المسحوق حقّ الفهم. ويعرفون مكامن الضعف التي ينْفذون منها إلى ضمائرالشباب الثائر، مستثمرين أوجاعه، وموجّهين خطواته نحو غزوة هنا وفتنة طائفية هناك.
على النخب المتضامنة والمتعاطفة مع الشريحة المسحوقة ومطالبها، أن تدرك أنّه ليس في وسعها التصدر لقيادة الثورة ولتحديد قواعد سلوكها وتوجيه خطواتها أو التنظير عليها، لأنّ الثورة في مكان ما هي أيضاً ثورة طبقية على هذه النخب..
إنّ منظومة الفساد التي احتمت بأحزاب السلطة ورجالاتها وازدهرت أعمالها طوال سنوات حكمها، لن تكفّ عن محاولة التأثير في الشارع. ذلك أن أيّ تغيير في نظام الحكم إنّما يرفع الغطاء عنها ويهدد وجودها ومصالحها. وعلى النخب المتضامنة والمتعاطفة مع الشريحة المسحوقة ومطالبها، أن تدرك أنّه ليس في وسعها التصدر لقيادة الثورة ولتحديد قواعد سلوكها وتوجيه خطواتها أو التنظير عليها، لأنّ الثورة في مكان ما هي أيضاً ثورة طبقية على هذه النخب التي لا تملك بين ليلة وضحاها أن تتماهى مع نبض شارع يتوق اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، أن تترجّل من بين صفوفه قيادات على مثاله.
صبيحة اليوم التالي لغزوة طريق الميناء، استفاقت المدينة على شجرة الميلاد التي تنتصب كل عام في إحدى ساحات المدينة وقد أحرقت، ضمن مشهدية متمّمة لعرض ليلي، أدّى دور البطولة فيه شبّان "مُغرَّر بهم" كما وصفهم المفتي الشعّار. في مشهد أكثر سوريالية، لدى استقباله لفيفًا من أهالي التبّانة يستجدون العفو لأبنائهم الموقوفين ليلاً، وأمام عدسات الإعلام، هاتف سماحته قائد الجيش سائلًا الصفح والتلطّف، وكالعادة حلّت شفاعة الطبقة الحاكمة التي لا تُردّعلى المدينة وأهلها.