لم يشأ عام 2019 الأفولَ بلا تسجيل واقعة إضافية في سجل مأساة العراق. فبعد شهوره الثلاثة الأخيرة من الاحتجاجات الشعبية، على حال متردٍ على كل المستويات - شعر الناس أنه لم يعد يُحتمل – حُصدت فيها أرواح أكثر من 515 متظاهراً ومتظاهرة، وأصيب خلالها قرابة 22 ألفاً آخرين.. بعد ذلك فار اليومان الأخيران من السنة بحدث جلل وقع على صعيد آخر: فمساء يوم الأحد 29 كانون الأول / ديسمبر، شنّت طائرات حربية أمريكية هجوماً صاروخياً على خمس نقاطٍ عسكرية، ثلاثٌ منها في الأراضي العراقية، حيث يتموقع مقاتلون ل"كتائب حزب الله العراقي"، القريب من الحرس الثوري الإيراني، والمنضوي تحت لواء هيئة الحشد الشعبي، بينما يقع الموقعان الآخران في الجانب السوري من الحدود مع العراق.
أسفر الهجوم، الذي تبنته الإدارة الأمريكية رسمياً، عن سقوط نحو 25 قتيلاً بينهم قائد اللواء 45 في الحشد، القيادي في مليشيا الكتائب، "أبو علي الخزعلي"، وإصابة 51 آخرين.
جاءت الضربات، حسب المسؤولين الأمريكيين، رداً على هجمات صاروخية على سفارة بلدهم في المنطقة الخضراء شديدة التحصين، وعلى قواعدَ تضم قوات أمريكية، كانت آخرها في 27 كانون الأول/ ديسمبر، وهي التي أصابت قاعدة "كي وان" (k1) الواقعة في محافظة كركوك، والتي تضم قواتٍ عراقية من "الشرطة الاتحادية" و"جهاز مكافحة الإرهاب"، بالإضافة لعناصرَ من "التحالف الدولي" الذي تقوده الولايات المتحدة، حيث أطلق عليها 30 صاروخ كاتيوشا، وقُتل إثرها متقاعدٌ أمريكي مدني يعمل مستشاراً في العراق، وأصيب آخرون.
استنكرت ساحات الاعتصام في مختلف المدن العراقية الهجوم الأمريكي، وصولاً إلى إحراق علم الولايات المتحدة برفقة العلم الإيراني.. وهذا على الرغم من اتهام تلك الاعتصامات الدائم بأنها "أداة أمريكية" وأنَّ أبناءها هم عصابات "جوكرية"، كما تطلق عليهم وسائل الإعلام التابعة للفصائل المسلحة القريبة من إيران. وعلى الرغم من هذا الاستنكار الصريح، فقد سعت الجيوش الإلكترونية أو وسائل الإعلام التابعة لهذه الفصائل، إلى محاولة ربط حادثة القصف الأمريكي بالاحتجاجات، وبسيناريوهات غريبة، تتجاهل موقف المعتصمين الرافض تماماً لذلك القصف والمدين له.
بعد أقل من 48 ساعة على الحادثة، وفي صبيحة 31 كانون الأول/ ديسمبر، أقام عناصرٌ من "فصائل الحشد" تشييعاً رمزياً لضحايا الغارة الأمريكية في ساحة الحرية بمنطقة الكرّادة، في العاصمة بغداد، سرعان ما تحول إلى احتجاج غاضب في محيط السفارة الأمريكية داخل المنطقة الخضراء شديدة التحصين، وظهر فيه قادة الصف الأول، كهادي العامري زعيم "منظمة بدر" و"كتلة الفتح" النيابية، وقيس الخزعلي أمين عام حركة "عصائب أهل الحق"، وفالح الفياض رئيس "هيئة الحشد الشعبي" ورئيس جهاز "الأمن الوطني"..
هذا الاحتجاج، الذي سوقته وسائلُ إعلام الحشد على أنه اعتصامٌ مفتوح ضد وجود الجيش الأمريكي في العراق، كان يمتلك بعداً سياسياً إقليمياً. فأعلام ورايات المحتجين كانت هي رايات الفصائل نفسها، وبغياب العلم العراقي، وهتافاتهم كانت تنتصر للمرشد الإيراني علي خامنئي، حتى وصلت إلى "أمريكا بره بره، إيران تبقى حرة"! وهو تحوير للهتاف الذي رفعه المحتجون مراراً وتكراراً، كان آخرها خلال الانتفاضة الأخيرة: "إيران بره بره، بغداد تبقى حرة". كما أنهم كتبوا على جدار السفارة الأمريكية شعاراتٍ مثل "سليماني قائدي"، وشعار آخر فتح أبواب الشك لدى معتصمي "تشرين" العراقيين، وهو "الخال مرّ من هنا"، ما دفعهم لربطه بيافطة ظهرت أعلى مرآب السنك في ليلة المجزرة الرهيبة التي نفذها مسلحون "مجهولون" بحق المحتجين السلميين، كان مكتوباً عليها "الخال"، وكأنه توقيع على الفعل!
ليس ذلك فحسب. قارن "محتجو تشرين" دخول أنصار فصائل الحشد الشعبي المنطقةَ الخضراء بسلاسة ويسر، بمقابل القتل والقنص الذي تعرضوا هم له على مدار ثلاثة أشهر بمجرد اقترابهم من جسر الجمهورية المفضي إلى المنطقة الخضراء. وقارنوا بين مشاهد ضحايا الاحتجاج الذين يرفعون علم العراق وحده، وبين مشاهد أنصار الحشد الشعبي الذين يرفعون رايات أحزابهم وفصائلهم.
في اليوم التالي، وبعد مواقفٍ عنيفة صدرت عن الإدارة الأمريكية، متهمة إيران ب"الاعتداء على سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في بغداد"، ومرسلة أعداداً إضافية من جنودها إلى العراق، وإلى مقر السفارة الشاسعة في بغداد.. أمر قادة الفصائل أنصارهم بالانسحاب من أمامها.
تبدو تتمة هذه الواقعة غير قابلة للتوقّع لجهة التفاقم، أو الوقوف عند هذا المقدار. وقد أعلنت بعض فصائل الحشد الشعبي نقل اعتصامها إلى خارج الخضراء، وأعلنت أيضاً أن الحكومة العراقية وعدتها بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
وإنما، وبغض النظر عن ذلك، وأيا كانت التتمة، فمصير العراق يقبع في خبايا مشهد الضغط العنيف المتبادَل، الأمريكي - الإيراني والذي يبدو أنه يهدف الى تسجيل نقاطٍ قد تكون مآلاتها الوصول إلى التفاوض وليس إلى الحرب. فقد اختير العراق في المحصلة كأرضٍ تجري فوقها هذه اللعبة الشرسة... ولكن حال العراق من الهشاشة بحيث أن نصيبه من هذه اللعبة هو تراكم المصائب عليه، أيّاً كان الرابح والخاسر في تلك الجولات المديدة.