الزواج المبكر في موريتانيا: كم فاطمة في هذا العالم؟

لم يكن يخطر على الإطلاق في بال فاطمة ذات العشر سنوات، المفعمة بالحيوية والمنطلقة الضحكات، أن غياب شمس ذلك النهار الذي قطعت فيه والدتها لعبها مع أترابها بدعوتها الصارمة للدخول الى المنزل (الخيمة) ينذر بأن تغيب معه طفولتها أيضا. دخلت فاطمة مرغمة لترى أمها مرتبكة كعادتها منذ وعت فاطمة على الدنيا، ولتسمع "الحناية" المنهمكة في تحضير الحناء، تقول لها: هذا لك تعالي لأضع لك الحناء يا
2013-03-08

علّية عباس

أستاذة أدب عربي، مقيمة في نواكشوط


شارك

لم يكن يخطر على الإطلاق في بال فاطمة ذات العشر سنوات، المفعمة بالحيوية والمنطلقة الضحكات، أن غياب شمس ذلك النهار الذي قطعت فيه والدتها لعبها مع أترابها بدعوتها الصارمة للدخول الى المنزل (الخيمة) ينذر بأن تغيب معه طفولتها أيضا. دخلت فاطمة مرغمة لترى أمها مرتبكة كعادتها منذ وعت فاطمة على الدنيا، ولتسمع "الحناية" المنهمكة في تحضير الحناء، تقول لها: هذا لك تعالي لأضع لك الحناء يا عروس. لم تفهم فاطمة شيئا مما قالته المرأة، هي التي كانت تتمنى أن تتحنى للعيد الذي انقضى منذ يومين، وحالت دونه أوضاع أهلها المادية. لكن فرحتها بالأمر غلبت دهشتها وانصاعت لطلب المرأة، خاصة مع صمت الأم وانشغالها بتدبير أمور الإخوة الثلاث الأصغر سناً منها. عند الصباح أيقظتها أمها فتكاسلت، ظناً منها أنها ستطلب منها القيام بأحد الأعمال المعتادة في صحرائهم: جلب المياه من العين البعيدة أو جمع التمر من تحت أشجار النخيل أو أو... لكن امرأة تقترب منها لظفر شعرها، وثيابا جديدة كانت بانتظارها، وجلبة نساء يتوافدن الى خيمتهن، بدأن بتحضير طعام لم تعتد على وجوده بهذه الكمية والنوعية في بيئتها الفقيرة، إلا في مناسبات كبرى كحفلات الزواج.
إحدى قريباتها كلفت بإبلاغ فاطمة بأنها ستزف اليوم الى رجل ميسور. رجل اعتادت فاطمة تردده الى مجالس والدها، فهو قريب له في العمر والنسب. جحظت عينا الفتاة، وقبل أن تستوعب ما سمعته، أضافت المرأة بأن عليها أن تتصرف من الآن وصاعدا كالنساء.

الهرب
حار عقلها في تفكيك وحل رموز تلك الأحجية وبقيت سابحة في أفكارها الى أن اقترب موعد وصول "العريس". ضاقت الدنيا أمام عينيها والنهار يمضي. عندها أفاقت من سرحانها وذهولها عقدت العزم على أمر: ما إن يحل المساء، وينشغل الناس بالطعام والشراب فستنسل من بين الناس وتهرب. لكن كيف والعيون تراقبها؟ وعندما همت بالخروج لحقتها أمها: "الى الخلاء يا أمي لقضاء حاجتي". لكن غياب فاطمة طال، والأم لا تعرف ماذا تفعل والناس بدأوا يتساءلون أين العروس. خرجت الأم في أثرها، عادت لتخبر الوالد. الفضيحة وقعت والألسن بدأت تلوك الكلام المعتاد، لكن فاطمة كانت تتابع صعود الجبل القريب الذي تعرفه ككفها، فهي منذ سنواتها الأولى تأتي اليه ولم تجد فيه يوما ما يخيفها.
فاطمة لم تعد. شهور ثلاثة في مخبئها في الجبل والأهل في بحثهم غير المجدي: "لم أجرؤ على العودة، فأمي لا حول لها ولا قوة، وأبي لا يرضى بمخالفة عهد قطعه على نفسه" تقول الفتاة. وتضيف: "لم يخطر في بالهم أن أكون في الجبل كل ذلك الوقت، فبدأوا البحث بعيدا. أعمى الله بصيرتهم".

الخال المنقذ
"كنت كل يومين أو أكثر أتسلل ليلا، بعد أن ينام الناس، الى أطراف المضارب وأسرق ما زاد من ماء أو طعام يعطى للحيوانات عادة، أو أقتات ببعض النباتات البرية القليلة". لكن هذه "الغزوات الليلية هي ما مكَّن من القبض عليها ومحاولة إعادتها الى الزوج العتيد، الذي لم يتراجع عن الزواج بها رغم الذي حصل، لولا تدخل خالها الاستاذ الابتدائي، الذي سمع بالأمر وعاد من ولاية أخرى يقطنها منذ زمن بعيد، فاصطحبها معه بقوة الرابط الأمومي في هذا المجتمع، وبما للأخ الأكبر من سلطة على أخته الأصغر سناً منه.
فاطمة الآن في الصف الثالث المتوسط، تتابع حياتها ودراستها في كنف خالها، "منقذها" كما تسميه، ومحقق أحلامها بالعلم. تفاصيل كثيرة تنقص هذه القصة الغريبة، لكن الواقعية، بكل ما في الواقع من قسوة، والتي جرت فصولا في أحد أرياف موريتانيا. والسؤال كم فاطمة في موريتانيا؟ في عالمنا العربي؟ بل هل عالمنا العربي وحده الذي تعاني فيه المرأة من الزواج المبكر؟

نسب مقلقة عالمياً
في التقرير المنشور الصادر في ختام الملتقى الذي عقدته مجموعة من مؤسسات تابعة للأمم المتحدة سنة 2012 تحت عنوان "اليوم العالمي للفتاة"، يذكر أن فتاة من أصل ثلاث في الفئة العمرية بين 30 و40 سنة تم تزويجهن قبل سن الثامنة عشرة، وأن ثلث هذا العدد تم تزويجه قبل سن الـ15. هذا على المستوى العالمي. أما في الدول النامية، فإن 90 في المئة من المراهقات يزوجن ما بين الـ15 والـ19.
وبالعودة الى موريتانيا، يشير آخر مسح أجراه المكتب الوطني للإحصاء سنة 2011 الى أن نسبة الزواج المبكر (قبل 18 سنة) على المستوى الوطني هي على النحو الآتي: 14.8 في المئة قبل 15 سنة، و37.5 في المئة قبل 18 سنة. وهناك فارق بين المدن، حيث تنخفض هذه النسبة الى 33 في المئة قبل 18 سنة بينما ترتفع في الأرياف الى 41,3 في المئة. كما تختلف النسب بين المكونات السكانية، فهي حوالي 56 في المئة عند البولار، و51 في المئة عند السينونكي، و41,9 بالمئة عند العرب (البيضان). ويلعب المستوى العلمي أيضا دورا، فلا تتزوج إلا 19.9 في المئة من الفتيات اللواتي وصلن الى المرحلة الثانوية قبل الـ18 سنة، بينما تصل النسبة عند غير المتمدرسات أو اللواتي حصّلن مستوى متدنيا من العلم الى 46 في المئة. وأخيراً، يلعب العامل الاقتصادي دورا في تحديد تلك النسب: فهي حوالي 27 في المئة لدى الأغنياء وترتفع لتصل الى 43.9 في المئة في البيئات الفقيرة.

العامل الديني
قد توضح تلك الارقام ارتباط زواج الفتيات المبكر بالأسباب الاجتماعية والاقتصادية، وبتلك المتعلقة بالمستوى العلمي. لكن لا يمكن استثناء العامل الديني، خاصة في هذا المجتمع التقليدي المتمسك بكثير من العادات الموروثة المبنية الى حد كبير على الدين أو ما شاع من سيرة الرسول. ولم يقم رجال الدين عامة بالتصدي لهذه الظاهرة، ان لم نقل العكس، أي بتولي الدفاع عنها معللين القول "ولكم في الرسول أسوة حسنة". غير أن هذ الواقع بدأ يشهد مؤخرا تطوراً إيجابياً، لعل أبرز معالمه تظهر في سعي مجموعة من الأئمة والعلماء المتنورين لإصدار كتيب متعلق بحقوق الطفل في الإسلام، يعالجون فيه من ضمن موضوعات أخرى مسألة الزواج المبكر. وهي خطوة جريئة وجديدة تلك التي يعمل هؤلاء العلماء والأئمة على السير بها نحو حماية القاصرات من الزواج المبكر، وما ينتج منه من أضرار على أكثر من صعيد.

والدولة على الطريق ولكن...
أما الدولة، وهي حديثة العهد نسبياً (نشأت في مطلع الستينيات من القرن الفائت)، فقد بدأت بالتعاطي مع الموضوع بجدية، خاصة مع وجود الكثير من الجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات العاملة في موضوع الطفولة وحمايتها من كل أشكال العنف، والتي لا تكف عن رفع الصوت عاليا في هذا المجال، والمطالبة بتنفيذ ما تنص عليه شرعة حقوق الانسان التي وقعت عليها موريتانيا. هذه الجهود أثمرت اشتراكا متناميا للدولة من خلال وزارة المرأة والطفولة خاصة، في الكثير من البرامج والخطط المتعلقة بالتخلي الطوعي عن العادات الضارة بصحة البنات والنساء، كالزواج المبكر والتسمين وختان البنات. لكن الدولة تتحفظ على تجريم هذه الممارسة كي لا تصطدم بالمحافظين من رجال الدين، وتطالب بتطبيق سن الزواج الذي تتضمنه مدونة الأحوال الشخصية.

 

مقالات من موريتانيا

للكاتب نفسه