تظاهرات مطلع الشهر الجاري: الجوكر العراقي غاضب وحزين

نص ثان كتب قبل الموجة الثانية الجارية حالياً وفي خضم تظاهرات مطلع الشهر. يقول: شهدت التظاهرات العراقية أكبر موجة قمع حكومي لأي احتجاج شعبي منذ احتلال بغداد في نيسان/ أبريل عام 2003. وهي خلت من جمهور الأحزاب العراقية، وضمت في ذروة أيامها آلاف الشباب العاطلين عن العمل والحالمين بالعدالة الاجتماعية.
2019-10-27

زاهر موسى

شاعر وإعلامي عراقي


شارك
تصميم: أحمد فلاح

مصادفةً، تزامنت تظاهرات الأول من تشرين الأول / أكتوبر في العراق مع عرض فيلم "الجوكر". وكما يُتهم الفيلم بالتحريض على العنف ضد الأنظمة، فقد اتُهمت الاحتجاجات الشبابية العراقية بمحاولة تقويض الدولة والسعي نحو الفوضى. تمَّ عرض الفيلم في بغداد، وقام المصمم أحمد شوقي بإدخال الجوكر الجديد في صور التظاهرات لتكتمل المصادفة المعبِّرة، حيث ظهر المهرج الثائر وسط دخان الإطارات المشتعلة في العاصمة العراقية لنقل رسالة تقول: سئمنا الفساد، ولا بد من تغيير.

قبل هذا القناع الجديد، طافت مظاهرات في العالم كله يضع أفرادها على وجوههم صور جوكر أيضاً. وهي انطلقت بالأصل من حركة "احتلوا وول ستريت" في 2011، وصار اسمها بعدها " Occupy" من دون تعيين لمكان.

شهدت تلك التظاهرات العراقية أكبر موجة قمع حكومي لأي احتجاج شعبي منذ احتلال بغداد في نيسان/ أبريل عام 2003. وهي خلت من جمهور الأحزاب العراقية، وضمت في ذروة أيامها الستة آلاف الشباب العاطلين عن العمل والحالمين بالعدالة الاجتماعية، وجرت في بغداد وعدة محافظات.

من اليسير تمييز خلفية الانتماء لجمهور هذا الاحتجاج، حيث رسمت الجغرافيا خطوطاً واضحة في عراق ما بعد الغزو الأمريكي، تميّز التشكلات الديمغرافية. الشيعة كانوا عماد ساحات التظاهر وأسماء وانحدارات الشهداء دليل واف على ذلك.

... لكن عن أي شيعة نتحدث؟

خرجت التظاهرات في بغداد وذي قار والديوانية والنجف، وبشكل أقل في كربلاء وبابل والبصرة. وكانت موجات المحتجين تولد في أطراف المدن ذات الكثافة السكانية العالية والمهمة في حسابات الساسة عند كل انتخابات. لقد كانوا شيعة يمثلون قاعدة لأحزاب السلطة القوية، لكنهم اختاروا بغالبيتهم المقاطعة في انتخابات 2018 بحسب الإحصاءات. لقد وصلوا إلى اليأس المتفجر، شأنهم شأن الجوكر في فيلمه.

شهد العراق فضائح ساهمت بإذكاء نار الاحتجاج، مثل تسلم بعض المسؤولين رواتب عدة، بل إن هناك موتى، ووهميون تسلموا رواتب لسنوات، وما زالوا، في مشهد لا يقل غرائبية عن حضور الجوكر في صور التظاهرات.

يمكننا وصف طبيعة المحتجين في التظاهرات الأخيرة بأنهم سكّان الضواحي الفقيرة والعشوائية ممن تجاوزتهم عجلة السلطة الثرية والمستعجلة. إذ شهد العقد الماضي بروز تمايز طبقي حاد في المدن الكبيرة. الوظائف كانت كلمة السر في الغالب، فقد ساهمت الممارسة الزبائنية للنخبة الحاكمة في استقطاب جمهور المنتفعين عبر ملء القطاع العام بهم. لم يكن توزيع فرص العمل عادلاً في الغالب، كما أن الرواتب لا تقترب من التوازن حتى، وهي تتضخم في أعلى السلم الوظيفي وتتضاءل في نهايته. وشهد العراق فضائح ساهمت بإذكاء نار الاحتجاج، مثل تسلم بعض المسؤولين رواتب عدة، بل إن هناك موتى ووهميون تسلموا رواتب لسنوات، وما زالوا، في مشهد لا يقل غرائبية عن حضور الجوكر في صور التظاهرات.

في العام الماضي، وفي تظاهرات سابقة، كان التوقيت والأماكن المحددة تحكم الاحتجاج. فمع غروب شمس اليوم، أو الأمل، يبدأ منتسبو قوات مكافحة الشغب بتشغيل العصي الكهربائية في وقت واحد، وهم يحيطون بالمحتجين ويتقدمون ببطء. كان المشهد مقلقاً مع وجود أزيز العصي، ويُفضي دوماً إلى انتهاء التحشد في ساحة التحرير.

عبد المهدي: "التظاهرات غيّرت قواعد نومي"

ما حدث في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر كان مختلفاً تماماً، إذ بدأت التظاهرات في ساحة التحرير (مركز بغداد) لكن اندفاع الشباب اليائس اتخذ اتجاهاً واحداً نحو "المنطقة الخضراء" (حيث مؤسسات السلطة الرئيسية مثل البرلمان، مجلس الوزراء، الخ..). قوات مكافحة الشغب ومن ساندها من (أفواج الطوارئ، الفرقة 56، الشرطة الاتحادية) تفاجؤوا بحجم الاندفاع وقوته، مما لم يشهدوه حتى في تظاهرات التيار الصدري أعوام 2015 و2016 و2017. الغضب كان صادقاً ومتفجراً وحانقاً. احتدم المشهد في اليوم الأول عصراً وبدأ عدد الشهداء يتضاعف سريعاً، مع ظهور احتجاجات مماثلة في عدد من المحافظات الجنوبية والوسطى.

يبدو تصريح رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي معبّراً بدقة عن موقف الطبقة السياسية حيال زلزال الاحتجاجات، حيث خرج ليقول ما نصه: "التظاهرات غيّرت قواعد نومي"! ويقصد أن التظاهرات لم تغيّر قناعاته أو قناعات أقطاب العملية السياسية في العراق، وهي لم تسبب لهم سوى أرق بسيط، أو بعض السهر ليلاً والصحو مبكراً. إلا أن هذا لا يعني أن الحكومة والبرلمان لم يشعروا بحجم الغضب وجريمة القمع غير المبررة. لقد كانوا مهتمين بقطع الأنترنت كإجراء وقائي يمنع تجييش الرأي العام ضدهم. وللمرة الألف اختاروا التعامل بطريقة خاطئة مع الحدث.

في اجتماع لرئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي مع شيوخ عشائر من جنوب العراق، حدثت واقعة مثيرة للاهتمام، حيث انبرى شيخ عشيرة البدور في ذي قار بحديث متشنج مع عبد المهدي، مهدداً ومتوعداً الحكومة برد عنيف في حال لم يطلقوا سراح المعتقلين.. ففعل.

أغلب شهداء الاحتجاجات سقطوا في بغداد، وهم بالمئات (هناك أرقام متفاوتة) في حين تجاوز عدد المصابين الستة آلاف. لقد كان استعمال الرصاص الحي بعد فشل مدافع الماء، وقنابل الغاز المسيل للدموع سبباً أساسياً في تعاظم الاحتجاج وزيادة الغضب. وللمرة الأولى، يقوم المحتجون وليس قوات الشرطة بقطع الشوارع في العاصمة بغداد، كما أن تشييع من سقطوا أصبح تظاهرة إضافية تُديم الزخم وتشد الانتباه.

القنص والمولوتوف

تواتر مشاهد القنص المصورة في الاحتجاجات قفزت بالمشهد نحو الدموية بقوة. فكرة وجود مسلح يعتلي بناية، ويصطاد العزّل من بين الحشود أثارت دفعة غير محدودة من الغضب بين العراقيين. ظهر أثر ذلك في اتساع رقعة التظاهر، واستعمال المحتجين قنابل "المولوتوف" لحرق سيارات الأمن والجيش.. وتعالت نداءات تطالب ب"العنف المضاد"، لكنها كانت قليلة، وهي بدت مخيفة على مستوى احتمالات ما يليها.

الاعتقالات التي ناهزت الألف شابها عنف أيضاً، وباتت صورة إضافية في مخيال الناس عن السلطة المتعجرفة. ظهر مستشار الأمن الوطني فالح الفياض في التلفاز ليتحدث عن "مؤامرة فشلت وستفشل"، ملمحاً إلى فرضية وجود محاولة انقلاب فاشلة سبقت أو تزامنت مع الاحتجاجات، وهو ما وجده المواطنون المكلومون بموت أبنائهم صفعة جديدة، واستفزازاً أشد من القنص.

ما بين التظاهرة المنقضية وتلك المرتقبة، تبدو زيارة أربعين الإمام الحسين حدثاً مناسباً لدى حركة الاحتجاج من أجل إثبات صعوبة التخلص منها.

في اجتماع لرئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي مع شيوخ عشائر من جنوب العراق، حدثت واقعة مثيرة للاهتمام، حيث انبرى شيخ عشيرة البدور في ذي قار بحديث متشنج مع عبد المهدي، مهدداً ومتوعداً الحكومة برد عنيف في حال لم يطلقوا سراح المعتقلين من أبناء محافظته. كانت هذه المواجهة نقلة جديدة في مسلسل الاحتجاجات، وقد كشفت خشية الحكومة من التصاعد السريع للغضب، وظهر ذلك في خطوتها اللاحقة، إذ أطلقت سراح غالبية المعتقلين، وأطلقت معهم حزمة إصلاحات آنية.

باتت تظاهرات الأول من تشرين الأول/ أكتوبر علامة فارقة في تاريخ العراق الحديث. وهناك دعوات لإعادة الكرّة في 25 من الشهر نفسه، وهي محاولة لتأكيد الاستمرار. وما بين التظاهرة المنقضية وتلك المرتقبة (بدأت فعلياً يوم الجمعة في 25 تشرين الاول/ اكتوبر كما كان متوقعاً - ملاحظة من المحرر)، تبدو زيارة أربعين الإمام الحسين حدثاً مناسباً لدى حركة الاحتجاج من أجل إثبات صعوبة التخلص منها.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه